مقال أعجبني بقلم / عبد الباقي يوسف
على الانسان ان يجمع بين العقل والجنون، بين الفوضى والرتابة، بين التوتر والاستقرار ويكون سلاحه في ذلك، التمرد، هذا ما خلص اليه الروائي والفيلسوف الفرنسي البارز »البير كامو« الذي منح جائزة نوبل للادب سنة 1957 على مجمل ابداعاته وابرزها: الطاعون ــ الغريب ــ اسطورة سيزيف ــ الانسان المتمرد.
كل هذا في سبيل حق الانسان في حياة حرة كريمة، وعلى هذا الانسان ان يتمرد في وجه الظلم والقسوة ويناضل من اجل التخلص من كل اشكال العبودية في سبيل الحياة التي هي افضل ما وهب للانسان على الارض، فحتى نحترم الحياة ونليق بها علينا ان نسعى من اجل الحرية، حريتنا وحرية الاخرين على دروب التكاتف الانساني.
بين كامو وسارتر ليس بوسع احد ان يتحدث عن كامو دون سارتر حيث ان اسميهما اقترنا بالوجودية وفيما بعد انفصلا فصلا عميقا في الفكر والصداقة، فكامو يتجه نحو: (اننا غير مسئولين عن أمنا وابينا او اسمنا او ديننا، فكلها حصلت قبل وجودنا اما المستقبل او المصير فنحن مسئولون عنه وعلينا ان نقرره ونختاره وهذه هي الحرية المسئولة).
فيما يتجه سارتر نحو: (ان الحرية هي الرعب). ويتجه كامو نحو: التكاتف الانساني. ويتجه سارتر نحو: الاخرون هم الجحيم.
ويرى كامو: (عندما يبارك الاسقف حكم الاعدام، يكون في رأيي قد خرج عن دينه، وحتى عن انسانيته). ويرى سارتر: (اننا نعيش في عالم مليء بالشر، ولهذا فاننا لا نستطيع ان نسيطر عليه الا اذا كنا قساة ولوثنا ايدينا بالجريمة).
وعلى الفور يعلن كامو انفصاله التام عن الشيوعية فيرسل اليه سارتر برسالة من ضمنها: (هناك اشياء كثيرة تربط بيننا واخرى قليلة تفرق بيننا ولكن هذه الاشياء القليلة بالغة الخطورة بحيث اصبح من المستحيل ان نلتقي). ولكن كامو الذي حصل على نوبل مبكرا مات ايضا مبكرا.
فقال سارتر: (انه كان احد اهم اخلاقيي العصر الكبار).
وقال في روايته الكبرى الغريب: (ما كاد غريب السيد كامو يخرج من المطبعة حتى نال اكبر قيمة دفعت الكثيرين الى القول بأنه خير كتاب صدر بعد الهدنة، وانه هو ذاته، في وسط النتاج الادبي لهذه الايام، فقد تلقيناه في الطرف الاخر من ضفة البحر المتوسط، ليحدثنا عن الشمس في ذلك الربيع الحسي الذي لا يعكره هباب الفحم).
التمرد والموت هذه معضلة كبرى واجهت البير كامو وهو الكاره لكل اشكال الموت والمرض الذي عادة يمهد للموت، لقد تعلق كامو بالحياة الى درجة لا يمكن تصورها واظن ان كلماته التي ساختارها من جملة اعماله التي انوه اليها. والتي حفظتها ذاكرتي.. بنسيان مصدرها، ستعطيكم صورة عن هذا التعلق المدهش، وفي ذروة تعلقه بالحياة يسطر: كل رعبي من الموت يكمن في غيرتي على الحياة.. انني غيور ممن سيعيشون من بعدي.. وممن سيكون للازهار والشهوات الى المرأة معنى من لحم ودم بالنسبة لهم.. انني حسود لانني احب الحياة حبا جما لا استطيع معه الا ان اكون انانيا. ولكن الموت يأتي ليخطف كل شيء .
ولا اسوأ من المرض في هذا الصدد. انه دواء ضد الموت، انه يمهد له، انه يحلق في مرحلته الاولى، الاشفاق على الذات، انه يدعم الانسان في جهده الكبير في التهرب من يقينه بأنه سيموت بأسره واشعر عندئذ ان التقدم الحقيقي الوحيد للحضارة، التقدم الذي يتعلق به البشر من زمن لآخر، هو ان نبدع ميتات واعية. ان ما يدهشني دوما هو فقر افكارنا عن الموت.
ان كامو يتحدث عن الموت من خلال موت الآخرين وعندما يتحدث عن نفسه لا ينجح في تصوير هذا الموت ولكنه يرى ان الابداع هو خير وسيلة لمجابهة الموت انه الموت الواعي والناضج، اقول في نفسي، سأموت، لكن هذا لا يعني شيئا لأنني لا اتوصل الى الاعتقاد به ولا يمكن ان تكون لي الا تجربة موت الاخرين لقد رأيت اناسا يموتون، رأيت على الاخص كلابا تموت، وكان لمسها هو الذي يبلبلني افكر عندئذ: الازهار، الابتسامات، الشهوات الى المرأة، اريد ان احمل صحوي حتى الثمالة وان انظر الى نهايتي بكل اسراف غيرتي وسعادتي، وبمقدار ما انفصل عن العالم اخاف من الموت. لكن هذا الصوت الراجف يموت مبكرا وينفصل تماما عن العالم، انه في ذروة احتفاله بجائزة نوبل للآداب وذروة التألق العالمي والمجد والشهرة والثروة يسير مع صديق له وفجأة تصطدم سيارتهما بجذع شجرة على طرف الطريق ويكون كامو هو المفارق للحياة في هذا الحادث الذي غدا عالميا في عام 1962.
يقول كامو: »هناك نوع من التفاؤل ليس بالطبع من سجاياي لقد ترعرعنا انا وسائر ابناء جيلي على قرع طبول الحرب العالمية الاولى وقد تابع التاريخ منذ ذلك الحين حكاية القتل والجور والعنف الا ان التشاؤم الحقيقي كالذي نراه اليوم يكمن في استغلال هذه الوحشية والخزي اما فيما يتعلق بي فقد ناضلت دون هوادة ضد هذا الانحطاط، لست اكره الا اولئك المتوحشين وفي احلك اعماق عدميتنا لم اكن انشد غير سبيل لتجاوز العدمية.