بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

.

الإمام زين العابدين كان يركز دائمًا على الموت، على ذكر الموت، كان يقول: ”وما لي لا أبكي ولا أدري إلى أين مصيري وأرى نفسي تخادعني وأيامي تخاتلني وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، وما لي لا أبكي؟! أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي“ وكان يقول في دعائه: ”وارحمني صريعًا على الفراش تقلبني أيدي أحبتي، وتحنن علي ممدودًا على المغتسل يغسلني صالح جيرتي، وتفضل علي محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وجد علي وقد نزلت بك وحيدًا في حفرتي“، لماذا يركز الإمام على ذكر الموت؟
ربما يقول قائل... أدلر - هذا من علماء المدرسة التحليلية في علم النفس - يقول: تلقين الإنسان نفسه بالموت هذه حالة مرضية، تقدير الذات ينقسم إلى قسمين: تقدير صحي، وتقدير مرضي، إذا لقن الإنسان نفسه بأنه شجاع، بأنه كفء، بأنه مثقف، هذا تقدير صحي، أما إذا لقن الإنسان نفسه بأنه عاجز، ناقص، سيموت، سينتهي، سيرحل، هذا تقدير مرضي، تقدير للذات تقديرًا مرضيًا، تلقين الإنسان نفسه بالموت أو بالنقص تقديرٌ مرضيٌ، لماذا؟ لأنه يقود الإنسان إلى الإحباط، الإنسان إذا قال: أنا سأموت، يصبح محبطًا، يتراجع عن البناء، يتراجع عن الفاعلية، لا يبني، لا يبدع، لا يعطي، لأنه دائمًا يشعر بأنه سيرحل وسينقرض، إذن الشعور بالموت حالة مرضية تبعث على الإحباط والتراجع، هكذا يقول أدلر.
لكن زين العابدين يقول بأن ذكر الموت عاملٌ إيجابيٌ على العطاء وليس عاملاً سلبيًا، لماذا؟ لوجهين:
الوجه الأول: هناك نظرية في علم النفس، وهي نظرية تقبل الواقع، النظرية الواقعية، مثلاً: الإنسان الذي لا يذاكر، إنسان عنده امتحان فيزياء ولا يذاكر، قاعد على التلفزيون إلى الصباح وما ذاكر، عندما ذهب إلى الامتحان قال: أنا ألغيت الامتحان لأنني ما ذاكرت، أنا ألغيت الامتحان، هل يعد هذا الإنسان إنسانًا محبطًا؟ لا، بل إنسان واقعي، يعني: قرأ نفسه قراءة واقعية، فرأى أن حجم مذاكرته لا يؤهله للامتحان، فألغى الامتحان، إلغاء الامتحان ليس إحباطًا ولا تقديرًا مرضيًا بل هو تقبلٌ للواقع، نظرة واقعية، الإنسان الذي يقول: أنا لا أملك عقلية تساعدني على دراسة الطب، أنا أملك عقلية تساعدني على دراسة علم الإدراة مثلاً، هل يعد إنسانًا محبطًا؟ هذا إنسان واقعي قرأ حجمه وقدّر الموقف بمقدار حجمه.
إذن الإمام زين العابدين عندما يركز على ذكر الموت يركز على النظرية الواقعية، على أن نقرأ واقعنا أننا راحلون، أننا مسافرون، والإمام يركز دائمًا على النظرة الواقعية، يقول: ”اللهم لا ترفعني درجة عند الناس إلا حططتني في نفسي مثلها“ يعني: الهالة الإعلامية التي حولي، فلان عظيم، فلان كريم، هذه الهالة الإعلامية لا تخرجني عن النظرة الواقعية لحجمي، أنا أقرأ حجمي قراءة واقعية أكثر مما يقرؤني الناس، الإمام أمير المؤمنين يقول: ”ما لي ابن آدم والفخر؟! - دعه يقرأ حجمه - وإنما أوله نطفة وآخره جيفة“.
الأمر الثاني: أن ذكر الموت عاملٌ إيجابيٌ على العطاء وليس عامل إحباط، لماذا؟
لأن الموت يذكرك بأن الدنيا طريقٌ للآخرة، فبما أنّها طريقٌ للآخرة فازرع الورد في الطريق من الآن كيلا يكون طريقك مملوءًا بالشوك، إذن ذكر الموت يحركك على أن تزرع الورد، بينما الغفلة عن الموت تجعلك تزرع الشوك في طريقك، ذكر الموت عامل إيجابي على العطاء وليس عاملاً سلبيًا.
الإمام زين العابدين رآه ابن شهاب الزهري في ظلام الليل وهو يحمل على ظهره متاعًا، قال: إلى أين سيدي؟ قال: ”إلى سفر أعددتُ له زادًا“، يقول: طلع الصباح فرأيته في المسجد، قلتُ: يا ابن الحسين قلتَ بأنك على سفر والآن أنت في المسجد؟! قال: ”يا ابن شهاب ليس السفر ما ظننت - أنا لست ذاهبًا إلى أوروبا - إنّه سفر الآخرة - أنا أذكّر نفسي بأني على سفر، ولأجل أني على سفر أحمل زادي - وزاد السفر إلى الآخرة بذل الندى - يعني ماذا؟ العطاء - والورع عن محارم الله“، إذن ذكر الله عاملٌ إيجابيٌ على أن نعطي الفقراء، على أن نبني حتى نزرع طريقنا بالورد، بالنور، ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
﴾.