بقلم الكاتب: جاسم الحلفيعادت التظاهرات الساخطة تجتاح مدن العراق، وهي تدين السلطات المسؤولة المتلكئة في توفير حاجات السكان الاساسية من الكهرباء. فالمتظاهرون يطالبون، وهم على حق تماما، بحلول سريعة لأزمة الكهرباء المزمنة، سيما وهم يعانون اجواء حرارة الصيف اللاهب الذي لا يحتمل. لكن المؤسف هو انه، بدلا من الاستجابة الى المطالب المشروعة، تقابل السلطات الاحتجاجات بالقسوة والعنف واستخدام الرصاص الحي، ما يسفر عن وقوع خسائر بشرية. وهكذا فان منتظر الحلفي الذي استشهد في البصرة صيف عام 2015، فكان اول شهيد من اجل الكهرباء، لم يبق وحيدا. واذا بقيت الازمة دون حل، وهو ما يبدو مرجحا، فسوف لن يكون علي هاتف السلامي، الذي استشهد اوائل تموز في مدينة النجف، آخر شهداء الحركة المطالبة بتوفير احتياجات الناس من الطاقة الكهربائية.
لقد فرضت ازمة الكهرباء المزمنة نفسها بقوة مع اطلالة الشهر الحالي، كما كان الحال في الاعوام السابقة منذ التغيير حتى الآن. وقد صدق من قارن تعسر حل هذه الازمة بتعسر حل قضية فلسطين! والمرجح هو بقاؤها مستمرة ومفتوحة، ما دامت الوجهة الاقتصادية الخفية لفرسان الخصخصة بأبشع صورها، لم تبلغ غايتها حتى الان.
نعم، الفساد هو المعرقل الاساسي، والمجرم الاول المسؤول عن تردي هذه الخدمة، بل حتى عدم حصول المواطن عليها. الفساد الذي ابتلع المليارات من الدولارات، التي لو كانت انفقت كما تقضي الامانة والحرص على الاموال العامة، وبمهنية المختصين، وبما يتلاءم مع اوضاع العراق وموارده وبيئته، لكانت الازمة قد حلت في غضون سنة او سنتين لا اكثر.
بهذا المعنى لم تكن ازمة الكهرباء يوما تقنية مجردة، رغم ان الوجه الذي تطل به على المواطن هو قلة الانتاج وسوء التوزيع. بل هي في الواقع ازمة يرتبط جذرها بالوجهة الاقتصادية للدولة، وهي في حقيقتها تعبير عن صراع ارادات لفرض وجهة الخصخصة المنفلتة، التي لا يراد لها ان تخضع إلى أية شروط اجتماعية، بل ان يتحكم فيها منطق الربح والمزيد منه على حساب المواطن ودخله وامكاناته.
هناك قطاعان اساسيان بدأ الصراع مبكرا على تحويلهما الى القطاع الخاص بشكل كامل، وهما قطاع الاتصالات وقطاع الكهرباء، نظرا الى الارباح الكبيرة جدا التي يحققانها نسبة الى المبالغ المستثمرة فيهما. وقد نجح المتنفذون في السيطرة المحكمة على قطاع الاتصالات، حيث يمتلك زعماء السلطة وشركاؤهم ثلاث شركات خاصة لخطوط الهواتف النقالة: "اثير" و "اسيا" و "كورك"، فيما لم تتمكن الحكومة من تشغيل الشركة الرابعة التي من المفترض ان تكون تابعة لقطاع الدولة. لكن في المقابل لم ينجح هؤلاء المتنفذون حتى الآن في السيطرة على قطاع الكهرباء وخصخصته.
لذا فان الهدف من إبقاء ازمة الكهرباء دون حل، هو السعي المتعمد من جانب المتنفذين الى ايصال المواطنين الى حالة من الجزع، يقبلون معها – حسب تصورهم - اي حلٍ وبضمنه الخصخصة، وبالشروط المذلة، والتكلفة العالية، التي يضطرون خاصة منهم محدودو الدخل الى الرضوخ لها مقابل الحصول على خدمة الكهرباء.
فهل يقبل المواطنون بالحلول القائمة على الخصخصة، التي باتت تطرح بقوة وكأن لا حل لأزمة الكهرباء من دونها، مع ان بلدانا ديمقراطية عديدة تعتمد الليبرالية في الاقتصاد بقيت الدولة فيها مالكة لقطاع الكهرباء، نظرا الى ما له من علاقة مباشرة بتطور البلد وقطاعاته الانتاجية، ومن انعكاس في حياة المواطنين ومعيشتهم.
ومن هذا الباب لا يمكن حصر ازمة الكهرباء بالوزير الحالي وحده او بمن سبقه. انما يتحملها وزراء الكهرباء المتعاقبون الى جانب المتنفذين ذوي الامتدادات في هيكلية هذه الوزارة منذ البداية. وعليه يتوجب تجنب تشتيت المسؤولية، بل تركيزها على المتنفذين الذين كانت السلطة وما زالت، بما تعنيه من مال وامتيازات وصفقات، الحلقة المركزية في صراعاتهم والتي لا تقوم لهم من دونها قائمة!
هنا