المتتبع للآثار العربية يرى وعن جدارة واستحقاق ما وصل اليه الفن المعماري في عصور النهضة. ولا أدل على ذلك من المساجد والقصور والمدارس والقلاع والمآذن التي لا تزال تطاول الزمن وتتحدى حوادثه وأعاصيره، فبقيت حتى يومنا هذا تدهش المشاهد وتدفع المتتبع إلى البحث عن سر هؤلاء الأعراب أصحاب هذه الحضارة العربية. وأكبر مثال القصور التي تركها الأمويون في بلاد الشام فقد كانت عجيبة في بنائها ومواقعها، عجيبة في أسرارها التي ماتت بموت أصحابها وزالت بزوال العصر الذي تمت فيه، ولكنها بقيت حديث المحدثين وموضوع الباحثين والمؤرخين. كما أن هذه القصور تمثل الجانب المدني للعمارة الأموية.
ولقد عُرف في العصر الأموي نوعان من القصور: أ- القصور الرسمية: دار الخلافة و دار الإمارة. ب- القصور الخاصة (غير الرسمية). ومن هذه القصور:
1- قصر معاوية رضي الله عنه أو قصر الخضراء
قصر دار الخلافة
تمثل قصور الخلافة مقر إقامة الخليفة وعادة ما تكون في العاصمة، ويطلق على المكان قصر الخلافة أو دار الخلافة. ولعل قصر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الذي يسمى قصر الخضراء (نسبة إلى القبة الخضراء التي كانت تعلوه) بدمشق خير ما يمثل هذه الفئة. فقد اتخذه معاوية رضي الله عنه مقرًا لإمارته على بلاد الشام (19 - 41هـ/ 639 - 661م) واستمر في الإقامة فيه بعد توليه الخلافة (41هـ/661م) وحتى وفاته (60هـ/679م).
ولبناء هذا القصر قصة، فيروى أن معاوية بناه بدمشق من لَبْن وطين، فقدم عليه وفد صاحب الروم فقال لهم: كيف ترون بنائي هذا؟ قالوا: "ما أحسنه إلا أنك تبنيه لنفسك وللعصافير"، يريدون أن العصافير تحفِره وتنقُره، ولم تبنِه ليبقى لمن بعدك، فهدمه وبناه بالحجارة.
وتحوي كتب التاريخ والأدب (وبخاصة دواوين الشعراء) معلومات عن هذا القصر وأوصافه في تلك الفترة. ولعل ميسون بنت بَحْدَل الكلبي، زوجة معاوية وأم ولده يزيد بن معاوية، هي خير من وصف هذا القصر (كونها عاشت فيه، ولكنها لم تُعجب به وفضلت العودة إلى البادية) وذلك في قصيدتها المشهورة، والتي مطلعها:
لَبَيْتٌ تَخْفِقُ الأَرياحُ فيهِ *** أَحَبُّ إليَّ مِنْ قَصْرٍ مُنِيفِ
ومن ناحية أخرى، فقد بقي هذا القصر مقرًا لإقامة معاوية وابنه يزيد من بعده، ثم آلت ملكيته إلى عبد الملك بن مروان (والذي اشتراه من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعين ألف دينار وأربع ضياع بأربعة أجناد من الشام). فأقام فيه عبد الملك وأولاده الوليد وسليمان وفترة قصيرة من عهد هشام. ولعل قيام الوليد بن عبد الملك ببناء الجامع الأموي ملاصقًا لقصر الخضراء دفع الخلفاء للبقاء فيه كل هذه المدة ، ولكن هذا القصر ما لبث أن فقد دوره منذ أن انتقل الخليفة هشام بن عبد الملك إلى الرصافة المطلة على نهر الفرات واتخذها دار إقامة وابتنى له فيها قصرين.
وأما مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية فقد نقل العاصمة إلى مدينة حران وابتنى له فيها قصرًا بلغت تكلفة إنشائه حوالي عشرة ملايين درهم.
2- قصور دار الإمارة
وهي الدار التي يقيم فيها الوالي في الاقليم الذي يتولاه. وعادة ما تكون دار الإمارة في المدينة الرئيسة لذلك الإقليم. ففي إقليم العراق، قام عبيد الله بن زياد (والي العراق لمعاوية ويزيد) ببناء مقر لإمارة البصرة عرف بقصر الحمراء، كما بنى مقرًا للإمارة في الكوفة سمّاه القصر الأبيض. لكنه لم يسكنه إذ خرج إلى بلاد الشام (64هـ=683م) وقتل وهو في طريقه عائدًا إلى الكوفة ( 67هـ= 686م).
وقام الحجاج بن يوسف الثقفي ببناء مقر للإمارة في مدينة واسط، عرف بقصر الخضراء. نسبة إلى القبة الخضراء التي كانت وسط القصر، وكان ديوان الحجاج ومجلسه اليومي تحت هذه القبة. وكانت مساحة القصر أربعمائة ذراع في مثلها (160م في مثلها = 25600م2). وللقصر أربعة أبواب، كل منها يُفضي إلى طريق عرضها ثمانون ذراعًا (32م).
وبنى الحرّ بن يوسف بن يحيى بن الحَكم الأُموي ( والي الموصل أيام هشام بن عبد الملك) قصرًا منيفًا للإمارة هناك، تفنن في بنائه وزخرفته وسمّاه "المنقوشة"، وإنما سميت المنقوشة لأنها كانت منقوشة بالساج والرخام والفصوص الملونة وما شاكلها.
وفي مصر، ابتنى عتبة بن أبي سفيان (44هـ= 664م) دارًا للإمارة في الإسكندرية. ولما تولّى عبد العزيز بن مروان، ولاية مصر لأخيه عبد الملك (65 - 85ه= 684 - 704م) بنى مقرًا للإمارة في مدينة الفسطاط عرفت بالدار المذهبة (67هـ/686م) وتقع غربي المسجد الجامع ولعلها لعظم اتساعها كانت تدعى "المدينة".
القصور الخاصة للخلفاء والأمراء
وهي تلك المنشآت التي بناها الخلفاء الأُمويون خارج العاصمة دمشق وفي مناطق متفرقة من أقاليم الدولة. ولا يزال بعضها شاهدًا يحكي عظمة الفن العربي الإسلامي في ذلك الزمن المبكر من عمر الدولة الإسلامية. وقد احتار الباحثون في الأسباب التي دفعت خلفاء بني أمية لبناء هذه القصور وبهذه الكثافة العددية، وفي أماكن تكاد تكون على محور واحد تقريبًا. فقد تكون هذه القصور بنيت للراحة والاستجمام، حيث يقصدها الخليفة (أو الخلفاء) للتنزه والصيد، أو بقصد التقرب من القبائل العربية التي تقطن تلك المناطق والعمل على تجنيد أبنائها في القوة العسكرية. أو ربما كان بناء بعض هذه القصور له صلة بوجود طرق للقوافل من الجزيرة العربية إلى الشام. وأنها كانت تستخدم خانًا لاستراحة القوافل ومكانًا يستقبل فيه الخليفة القوافل الرسمية الخاصة به وحاشيته.
وأما عن أشهر القصور الأُموية التي بنيت لأَيّ من الأغراض السابق ذكرها، فيروى أن معاوية وعبد الملك بن مروان وابنه الوليد كانوا يقضون فصل الشتاء في قصور بنيت لهم في بلدة الصنبرة قرب بحيرة طبرية. وكان ليزيد بن معاوية قصرًا في حُوَّارين قرب حلب حيث كان يمارس هواية الصيد هناك. أمـا بلدة صِيدْنايا (28 كيلًا متريًا شمال غرب دمشق) المعروفة بطيب هوائها وبساتينها فقد كانت منتجعًا صيفيًا لبني أُُمية منذ أيام معاوية، فلا بد من وجود أبنية خاصة لهم يقيمون فيها.
وحاول الخلفاء الأُمويون بناء بيوت لهم في مدينة القدس. فقد دلَّت الحفريات التي جرت قرب المسجد الأقصى في السنوات الأخيرة (1390هـ=1970م) على وجود قصور ثلاثة تعود لأيام الخليفة الوليد بن عبد الملك.
وأما عن أشهر القصور الأموية التي يمكن مشاهدتها حتى اليوم في أماكن متفرقة من بلاد الشام، فهي: قصير عَمْرة ، وبالقرب منه مبنى وقصر أُسَيْس حَمّام الصَّرح، وقَصر الحَرَّانة (في الأردن) (105 أكيال مترية جنوب شرق دمشق) وقد بناها الخليفة الوليد بن عبد الملك بالإضافة إلى قصر من الرخام رائع جدًا في بلدة عَنْجَر (عين الجَرّ) في البقاع اللبناني.
وأما الخليفة هشام بن عبد الملك، فقد بنى قصرين له في الرصافة. كما بنى قصر الحِير الشرقي (74 كيلًا متريًا إلى الشمال الشرقي من تدمر بسوريا) وقصر الحِير الغربي (68 كيلًا متريًا غربي تدمر). وكان له قصر يتخذه كمشتى في خربة المفْجر (قرب أريحا والبحر الميت بفلسطين) والمشهور بزخارف الفسيفساء فيه بأشكال متنوعة. . هذا بالإضافة إلى قصر له كان على جبل القلعة في قلب العاصمة الأردنية عمَّان .
وأقام يزيد بن عبد الملك في قصر الموَقَّر (30 كيلًا متريًا إلى الشمال الشرقي من عمَّان). وأما الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك فقد بنى قصر المشتى (32 كيلًا متريًا جنوب شرق عمَّان) وقصر الطُّوبَة في وادي الغَدف (111 كيلًا متريًا جنوب شرق عمَّان).
ملامح عمارة القصور الأموية
أبدع الأمويون في بناء القصور والحمامات والاستراحات والدور، وهي تمثل الجانب المدني في العمائر الأموية. ومن أعظم ما تبقى من تلك العمائر مجموعة القصور الصحراوية التي شيدها الأمويون خارج المدن في البادية بالأردن وسوريا وفلسطين، وتمتاز تلك القصور بسمات عامة من البيئة التي شُيِّدت فيها.
تنبثق معظم القصور الواقعة في بادية شرق الأردن، مثل قصر عَمْرة وقصر الحلاّبات وحمام الصَّرح وقصر المَشْتَى وقصر الطوبة، من نمط معماري واحد تقريبًا؛ إذ جاءت عمائر تلك القصور على هيئة الحصون الصغيرة، حيث كان يحيط بها أسوار مرتفعة مدعَّمة بأبراج ولها مدخل واحد مزود بحجرات أو أبراج للمراقبة. أما من الداخل، فكان يتوسط تلك القصور صحون مكشوفة تحيط بها من الجوانب ملاحق ووحدات معمارية بعضها سكني وبعضها الآخر يضم القاعات والمجالس والحمَّام، إلى جانب ملاحق الخدمات. كذلك تمتاز عمائر تلك القصور باستخدام مواد بناء مختلفة منها الحجر المنحوت، والحجر الغشيم، والآجر، والجص.
أما من حيث العناصر المعمارية المتشابهة في عمائر تلك القصور، فإننا نجد العقود نصف الدائرية والعقود المتجاورة، والأعتاب، والقباب، والعقود المعمارية الطولية والعقود المعمارية المتقاطعة، والأعمدة والتيجان الكورنثية المستوحاة من العمائر الكلاسيكية.
ومن حيث العناصر الزخرفية المتشابهة أيضًا في تلك القصور، نجد الفسيفساء وقد استُخدمت بكثرة في الموضوعات الفنية وكذلك الفريسكو (التصوير الجصي). وقد غلب على الموضوعات الفنية الطابع الساساني وبخاصة في النقوش والتماثيل. كذلك عُثر على مجموعة من القصور الأموية في سوريا؛ منها قصر الحير الغربي وقصر الحير الشرقي، وقصر هشام في الرصافة. أما في شرقي فلسطين، فيوجد قصر هشام (خربة المفجر) قرب أريحا وقصر الوليد في خرْبة المنيا، عند طبرية.
وفي الحقيقة، فإن كافة تلك القصور تعبِّر عمارتها وكذلك زخارفها عن الاستفادة الكبيرة التي حصل عليها العرب من فنون الأقطار التي فتحوها، وهي، في نفس الوقت، شاهد على عظمة فن العمارة الأموية المدنية في تلك الفترة.
_________________
المصادر والمراجع:
- عمر بن سليمان العقيلي: تاريخ الدولة الأموية، مكتبة الملك فهد، ط1، 1423هـ / 2002م.
- القصور الأموية في بلاد الشام: رمز للمعمار الراقي وشاهد على عصر ذهبي، موقع الشروق، يونيو 2005م.
- مادة العمارة الإسلامية، الموسوعة العربية العالمية.
قصة الإسلام