التربية الإسلامية في صدر الإسلام
تنقسم التربية الإسلامية إلى شقين وهما: أشبه بجناحي الطائر لا يستقيم الأمر إلا بكليهما:

1- التربية السلوكية أو الروحية.
2- التربية المعرفية.

وهكذا بدأت التربية الإسلامية علي عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وكانت التربية السلوكية مقدمة علي المعرفة، من حيث الأهمية ومن حيث الترتيب الزمني. يدلنا علي ذلك قول السيدة عائشة رضي الله عنها: »كنّا نتعلم الإيمان قبل القرآن«. وكان مصادر المعرفة هي القرآن الكريم، وسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم أقوالًا وأفعالًا وتقديرات، وكان الهدف من تعليم القرآن فهم معانيه، وتدبره، والعمل به، وليس حفظه فقط، ويدلنا علي ذلك قول السيوطي في الإتقان: »إنّ الرجل من الصحابة كان يحفظ من القرآن عشر آيات، ثم لا يتجاوزها حتي يفهم معناها، ويؤدي ما طلب فيها«.

واشتمل القرآن والسنّة علي كلّ ما يحتاج إليه المجتمع المسلم آنذاك، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره أن يسأل عن شيء لا تدعو الحاجة إليه، وكانوا لا يدخلون في التفاصيل والفروض الوهمية كما حدث في العصور التالية. وكان صلى الله عليه وسلم يبغض الجدل، وتوعد بالهلاك للذين أوتوا الجدل.

وسار أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم علي منهجه، واقتصر التعليم الإسلامي في القرن الهجري الأول علي القراءة والكتابة والقرآن وتفسيره والسنة الشريفة، وارتبط ذلك باللغة العربية التي نزل بها القرآن، فكانت هنالك اهتمامات باللغة متنًا وقاعدة وحفظًا. ثم بدأ التدوين حفاظًا علي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فدوِّن الحديث، وآراء الصحابة من تفسير للقرآن، ودونت اللغة متنًا ونحوًا.

وكان الفقه على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم محصورًا فيما نزل به الوحي وروي عن الرسول الكريم، وكانت أحكامه تنزل حسبما تدعو الحاجة إليه. ولما اتسعت رقعة الإسلام خارج بلاد العرب جدّت مشكلات لم يكن فيها نص صريح من الكتاب أو السنّة، بدأ الاجتهاد والفتوي في المسائل التي لا نصّ فيها. وقد سنّ الرسول صلى الله عليه وسلم الفتوي في حديثه لـمعاذ بن جبل حين أراد أن يوفده إلي اليمن فأقره علي أن يجتهد رأيه ولا يألوا إذا لم يجد في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ما ينص علي حكم معين يحتاج إليه. وهكذا كان الشأن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين إلي عهد التابعين.

عصور ازدهار التربية الإسلامية
وفي أواخر القرن الثاني وفي القرن الثالث الهجري ظهرت المذاهب الفقهية وبدأ علم الكلام، واكتمل النحو والعروض ونشأت المعاجم اللغوية، وظهرت مدرستا البصرة والكوفة النحويتان. ويعتبر القرن الرابع والخامس الهجريّان عصر النهضة للعلوم الإسلامية وشبابها ونضجها. واتجه المسلمون إلي كلّ المعارف فترجموا، وأضافوا وكتبوا في الفلسفة والطب والفلك والرياضيات والقراءات والتاريخ والجغرافيا وعلوم اللغة والموسيقي والاجتماع فألفو وابتركوا في جميع ميادين المعرفة، وكان كلّ ذلك المنهج الدراسيّ في التعليم الإسلامي.

وبدأت المجامع العلمية بـدار الحكمة في بغداد، وجامعة الإسكندرية والأزهر ومجالس العلماء في البصرة والكوفة ومكة والمدينة وبلاد المغرب وفارس وآسيا الوسطى، وبدأ التخصص الدقيق في النحو واللغة والفقه والتفسير والحديث والشعر والطب .. وبدأ تدريس هذه العلوم في المسجد الذي كان مركز الدراسات الإسلامية. ووجد من المفكرين المسلمين من نبغ في هذه العلوم جميعًا الشرعية منها والكونية، مثل ابن سينا وابن مسكويه وابن رشد، والكندي.

العلوم الإسلامية في عصور الضعف والانحلال
بدأ الانحراف في العقيدة أولًا من حيث الترتيب وفي وقت مبكر، بدأ بظهور أفكار الشيعة والخوارج وغلوهم في الرأي والدين والسياسة. وكان لدخول بعض الشعوب في الإسلام، وتأثرهم بأديانهم ومللهم ونحلهم أثر كبير في تاريخ الإسلام السياسي والفكري. وكانت هنالك مقاومة سياسية وعسكرية، وفكرية للإسلام، فتعددت الآراء والمذاهب والحركات الباطنية والظاهرية. وصارت المذاهب الأربعة أصلًا للشريعة الإسلامية حتي قال بعضهم: "كلّ آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوحة، وكل حديث كذلك فهو مؤو أو منسوخ"، واتجه الفقهاء إلى التخصص في المذهب المعين وتعصب كلّ لمذهبه، وصار الطالب لا يدرس إلاّ مذهبه ولا يعرف غيره من المذاهب.

واختفت الروحانية من العلوم الإسلامية بل وانحرفت بعض العلوم من مسارها وأهدافها الحقيقية، وافتقدت صفاءها الذي كانت عليه في القرون الأولي للإسلام.

التفسير:
فالتفسير قد ازدحم بالإسرائيليات، وصار تفسير الآيات مجزأة، أي كلمة كلمة، وانصبت العناية علي تخريج الآيات من حيث الإعراب واللغة والبلاغة دون مقاصد القرآن العظيمة وكلياته الكبري التي تتضح بإيراد الآيات والأحاديث ذات الصلة بالآية المفسرة. وبقدر ما تهتز النفس لسماع القرآن وتؤخذ بمعانيه السامية تكل من التفسير الذي عني بالأشكال دون العناية بالروح والجوهر والمقاصد.

الفقه:
قدمنا أن القفه قد جرد من الروح وصار عبارة عن قواعد وشروط وتقسيمات وتفريعات وافتراضات لا يحتاج إليها الإنسان، وقدمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يسأل عن شيء لم يقع. وقد بلغت صور الرعاف 72 صورة في بعض كتب المالكية، وصنفت آراء الفقهاء إلي معتمد ومشهور وضعيف، واختفت حكمة التشريع في كثير من مسائل الفقه، وكثرت الحيل للتخلص من الأحكام الشرعية وجرد الفقه من أدلته إلاّ في القليل. وكثرت التعريفات وتخريجها ومحذراتها، وسيطر المنطق الشكلي علي كثير من مسائله، وصار التفقه براعة في صناعة المتون المعقدة وشرح المختصرات واختصار المطولات.

الأصول:
وأصبحت أصول الفقه أو علم الأصول قوالب وقواعد تحفظ لطريقة الاستنباط ولا يتعداها الأمر إلي استنباط حلول للمشكلات التي تجد بتجدد الحياة ومشكلاتها. فصار العالم بالأصول بارعًا فيما تلقي من قواعد وأمثلة لا يتعداها إلي غيرها. ولعل السبب في ذلك إقفال باب الاجتهاد، الشيء الذي يعتبر نقطة انحدار خطير في تاريخ العلوم الإسلامية والفكر الإسلامي.

الحديث:
الحديث من أكثر العلوم التي نالت قدرًا من الدراسة والتمحيص من سلفنا الصالح حتي خلصوا السنة من كلّ ما شابها من دس الدساسين، غير أن المتأخرين من الفقهاء سخروا الحديث لتأييد مذهبهم وإضعاف المذاهب الأخري، وكانت المحاولات تبذل لتضعيف الحديث الذي يخالف مذهبهم أو تأويله. وبلغ الأمر ببعضهم أن يضعف الأحاديث التي يستدل بها غيره من فقهاء المذاهب الأخري ويصفها بأحاديث الخصوم.

وإذا ذهبنا إلي مصطلح الحديث فإننا نجد فيه العديد من المصطلحات وأنواع وأقسام الحديث، مثل الحديث المفصل، المدلس، المقلوب، المدرج، المصحف، المبهم، المعلق .. الخ. وبطغيان الفلسفة وعلم الكلام قل الاهتمام بعلم الحديث منذ العصر العباسي الثاني.

علم الكلام:
انتشرت مذاهب الفرق في القرنين الثالث والرابع وكان هؤلاء المعتزلة، والقدرية، والكرامية، والخوارج، والروافض، والقرامطة والباطنية. قال المقريزي: »ما منهم إلاّ من نظر في الفلسفة وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره، فلم يبق مصرٌ من الأمصار ولا قطرٌ من الأقطار إلاّ وفيه طوائف كثيرة ممن ذكرناهم«. وفي أوائل القرن الرابع ظهر الإمام أبوالحسن الأشعري الذي أحيا مذهب السلف واستخدم الحجج والبراهين الكلامية والأصولية للدفاع عنه. وكان الحكام العباسيون يؤيدون المعتزلة. وكان أكثر ما يدور فيه الجدل هو صفات المولي سبحانه وتعالي، والقضاء والقدر، والصلاح والأصلح، والإمامة، والكبائر وعصمة الأنبياء.

وعلي الرغم من أن مذهب المعتزلة قد انقرض منذ قرون في جميع أنحاء العالم الإسلامي فإن آراءهم ما تزال تدرس وتفند في مقررات التوحيد، خاصة في المعاهد الإسلامية. وما يزال كتاب الجوهرة، والسنوسية، والعقائد النسفية تدرس في كثير من المعاهد الإسلامية، ويغلب علي هذه الكتب التعقيد والفلسفة والمنطق والخلافات بين المذاهب الكلامية والفرق. وهي بعيدة كلّ البعد عن صفاء العقيدة كما كان عليها المسلمون علي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، وكما عرضها القرآن الكريم والسنّة المطهرة.

السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي:
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياته مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بما نزل من قرآن، وبما سن من سنن ممثلة في أقواله وأفعاله وتقريراته ولا يمكن الفصل بين سيرته وما نزل من قرآن والسنّة. وتكاد كتب السيرة تخلو من هذا الربط الوثيق بين حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وما نزل من قرآن، والسنة. وآلت السيرة إلي وصف للأحداث التاريخية مجردة عن العبرة والعظة والقدوة الحسنة. وصار التاريخ الإسلامي وصفًا للحروب والانقلابات، وأهمل فيه الجانب الروحي والحضاري والفكري للأمة الإسلامية، وبرز جانب الترف والفسق وهو محصور في طبقة معينة. ظهر وكأنه سمة المجتمع عامة، واختفت من دراسة التاريخ الإشراقات الروحية والفكرية التي أنارت السبيل للأجيال البشرية مسلمين وغير مسلمين.

وكتب تاريخ الأمويين في العصر العباسي، وكتب تاريخ كلّ دولة في الفترة التالية لها فأصابها الكثير من التشويه والمبالغة وعدم الدقة وانعدام التوثيق. وأظهر منها الجانب المظلم وأخفي الجانب المشرق. وبذا صار التاريخ الإسلامي عبارة عن حروب ودماء وتقلبات من ضعف إلي ضعف علي مستويات الفكر والأدب والحضارة والسلطان. وأهمل تاريخ الدول الإسلامية والأقليات المسلمة خارج الوطن الإسلامي.

اللغة:
بدأ البحث في المسائل اللغوية متجهًا نحو خدمة كتاب الله وشرح غامضه، وتوضيح مراميه، وضبط آياته وكلماته وحروفه وقراءاته. ودونت اللغة وضبطت نظمها وقواعدها وحددت مخارج أصواتها وصفاتها.

ثم أصاب علوم اللغة ما أصاب علوم الشريعة، فأصبح التركيز في علوم اللغة علي أدواتها كالنحو والصرف والبلاغة وأهملت دراسة اللغة شعرًا ونثرًا، وصارت دراسة النحو تتكرر وتدور في حلقة مفرغة، وبلغ الأمر ببعض النحاة أن وصفوا القراءة المتواترة بالشذوذ لأنها لا تتفق مع القاعدة النحوية التي وصفوها (!!). وغلبت على البلاغة الصبغة الفلسفية والمنطق، وأصبحت قوالب تحفظ ويتم التمرين والتدريب عليها، ولا تساعد في ترقية الأسلوب والذوق اللغوي وتكوين الملكة الأدبية، وأهملت أمهات كتب اللغة والأدب كالعقد الفريد، والأمالي، والكامل، والأغاني.

أما في زماننا هذا، فلعل دراسة اللغة في الجامعات لا تتعدي مختارات من النحو والصرف والبلاغة والأدب لا تزيد الطالب كثيرًا عما تلقاه في المرحلة الثانوية، وينطبق ذلك علي المدارس كما ينطبق علي المعاهد الدينية، والأقسام المتخصصة في الجامعات.

هذه هي الصورة التي آلت إليها العلوم الإسلامية في العصور المتأخرة التي أطلق عليها عصور الضعف والانحلال، والتي انحدرت إلينا في عصرنا هذا.

ثم جاء الاستعمار فأضاف إليها ضعفًا علي ضعف، وذلك بتقليل قدر حملة الثقافة العربية والإسلامية، وإهمال المعاهد الإسلامية التي تتولي تدريسها، وتولي مهمة الاستعمار من بعده سدنته من عشاق الثقافة الغربية (المسلمين!)، فسخروا من التراث الإسلامي وحملة الثقافة العربية والإسلامية، أولًا: لأنهم لم يغتسلوا بماء الثقافة العربية، لغة وأدبًا وتفكيرًا، وثانيًا: لأن ما يحملونه من ثقافة ليس له مكانة محترمة في المجتمع الإسلامي المعاصر.

أما دراسة العلوم الكونية التي كانت جزءًا من مؤهلات العالم المسلم في العصور الأولي من الإسلام فقد اختفت تمامًا من ميدان التربية الإسلامية في العصور المتأخرة، كجزء أصيل من مواد التربية الإسلامية، ولما أعيدت هذه العلوم إلي مجالها في عصرنا هذا بدت كأنها هي علوم الغرب، فسميت حينًا بالعلوم المدنية وحينًا آخر بالعلوم الحديثة!.

وكأن تاريخ الإسلام وحضارته ومفكريه لم يعرفوا هذه العلوم ولم تكن شغلهم الشاغل في يوم من الأيام، ولا يعلم أبناء المسلمين أنّ كتب المسلمين الأوائل في الطب والهندسة والصيدلة والرياضيات والجغرافيا كانت تدرس في جامعات الغرب إلي وقت قريب، وأن بعض نظريات العلماء المسلمين ما يزال يجري العمل بها حتي يومنا هذا.

إصلاح المناهج بما صلح به أولها
ليس من اختصاص هذه الورقة الحديث حول إصلاح مناهج التربية الإسلامية، وإنما ترك ذلك لأوراق أخري. ولكن لا بأس من أن يكون ختام حديثنا عن تاريخ التربية الإسلامية وما وصلت إليه في عصرنا هذا أن نختم حديثنا بكلمة عن إصلاح مناهج التربية الإسلامية.

إنّ صلاح أمرنا لا يتم إلاّ بما صلح به أوله. وكما بدت به التربية الإسلامية علي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، تربط ربطًا وثيقًا بين المعرفة والسلوك وكلاهما ينبع من الكتاب والسنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، أولًا وقبل كلّ شيء. وأن تكون دراستنا للغة دراسة للغة أولًا وليس لنظمها النحوية والصرفية والبلاغة. ثانيا: فإن علوم الآلة هي دراسة للنظام الذي تسير عليه اللغة، ولكنها ليست اللغة ممثلة في تراثها من قرآن وحديث وشعر ونثر. وأن نبدأ دراسة مبادئ العلوم الكونية بما وصل إليه سلفنا الصالح ثم نضيف إليه ما جدّ من نظريات في العصور المتأخرة، وأن نوجه عناية خاصة لإسهام العلماء المسلمين المعاصرين في مختلف العلوم.
_______________
المصدر: مجلة آفاق الحضارة الاسلامية، (العدد: 10) لسنة 2010م، جمهورية السودان الإسلامية، جامعة الخرطوم - المعهد الدولي للغة العربية.