المصادر بالنسبة للمؤرخ تشكل أهمية كبرى؛ لأنه من دون توفر المصادر لا يستطيع أن يكتب أي بحث تاريخي، والتاريخ معرفة نقلية تعتمد على الأخذ من المصادر؛ لأن التاريخ خبر عن حدث وقع وانتهى، فلا يغني فيه الخيال والرجم بالغيب ولا التجارب العلمية، كما يفعل الأديب والقصصي والشاعر والعالم الفيزيائي، وما دامت المصادر بهذه الأهمية للمؤرخ فلابد أن يعتني بها غاية الاعتناء، وأن يرتبها الترتيب الصحيح وفق معايير نقدية محددة كدرجة الثبوت والثقة في المصدر، وكالقرب من الواقعة التاريخية سواء قرب المصاحبة والمعايشة أو القرب الزمني، فيقدم ماهو أوثق ثبوتًا كالنقل المتواتر ثم ما هو أقل من ذلك، وتقدم رواية من كان ألصق بالخبر على من لم تكن هذه صفته، لذا يلزم على الباحث في التاريخ بصفة عامة والتاريخ الإسلامي على وجه أخص أن يراعي أثناء نظره في المصادر واستقاء المعلومات التاريخية ونقدها:

اعتماد القرآن والسنة وتقديمهما على كل مصدر
وذلك أن القرآن الكريم كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد تكفل الله بحفظه من التحريف أو الزيادة والنقصان، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، والقرآن قعطعي الثبوت، آية آية وكلمة كلمة، ويأتي بعد القرآن في قوة الثبوت الحديث النبوي الشريف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -كما أخبر الله عنه - لا ينطق عن الهوى، وقد حفظ الصحابة رضي الله عنهم أقول الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وأدوها إلى من بعدهم كما سمعوها.

وقد اتبع علماء الحديث والرواية أرقى منهج علمي وأوثقه في تدوين السنة، وفي نقد الرجال والمرويات، وفي الكتاب والسنة وَرَدَ كثير من الأخبار التاريخية القديمة، كسير الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم، أو الأخبار المعاصرة لنزول الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم مثل بعض حوادث السيرة النبوية، ومواقف أهل الأرض من الدعوة الإسلامية، كما أنه قد جاء في الكتاب والسنة الإشارة إلى الأحداث المستقبلة سواء كان وقوعها في الحياة الدنيا أو في الآخرة، وذلك مثل علامات الساعة وأشراطها، ومثل أحداث اليوم الآخر، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم بما تؤول إليه حالة الأمة الإسلامية بعده، وما يصيبها من التفرق، وما يكون فيها من حركات الإصلاح والتجديد، كما أخبر أنه ستقع أحداث كثيرة بين يدي الساعة، وهي أشراط الساعة التي اعتنى العلماء بجمعها، وتخصيص أبواب لها في مصنفاتهم، بل قد أفردها بعضهم بكتب مستقلة.

وقد جاء في القرآن والسنة أيضًا الإشارة إلى جملة من القوانين التاريخية والسنن الربانية مما يعطي الباحث أو الدارس سعة وشمولًا في النظرة التاريخية وعمقًا في تحليل الأحداث ومقدرة على تشخيص ووصف الدواء.

أما الذين لا يعتمدون القرآن والسنة في مصادر دراساتهم وأبحاثهم، فإنهم يحرمون هذه الفوائد من النظرة الشمولية والتشخيص الدقيق لاتجاهات الأحداث، والتي لو عرفوا تشخيص بعض الأسباب، فإنهم لا يستطيعون وصف العلاج الحقيقي للأمراض الاجتماعية والخلقية التي تصيب المجتمعات فتؤثر في تطوير الأحداث وتوجيهها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وعلاج مثل هذه الأمراض والأدواء لا يتلقى إلا من الشارع الحكيم، ولا يصلح أن يتكلم فيه من ليس عنده علم من الشرع، لذا فإنه لابد من اعتماد المصادر الشرعية في كل دراسة تعالج وضعًا من الأوضاع الاجتماعية، وتساعد على توجيه المجتمع وتنميته سلوكيًا واجتماعيًا، وهذا العمل من أعظم وظائف المؤرخ وأهم ثمرة في ذلك.

فالمصادر الشرعية واجبة التقديم باعتبارين:
1- أنها أصدق من كل وثيقة تاريخية فيما ورد فيها من الأخبار، وذلك لصدق مصدرها وعلمه وهيمنته، كما أنها وصلتنا بأوثق منهج علمي، فالقرآن وصلنا بالتواتر الموجب للعلم القطعي في كل آية وكل كلمة بل حرف، وصحيح السنة وصلنا بمنهج علمي دقيق.

2- أنها تدل على السنن الربانية والنظرة الشمولية لتاريخ البشرية كلها على مدار الزمن ماضيًا وحاضرًا مستقبلًا، مما يهيئ للباحث المقدرة على اكتشاف القوانين العامة في حركة البشرية، وارتباط ذلك بالهدى والضلال، والكفر والإيمان سلبًا وإيجابًا.

والقرآن والسنة يعطيان الدارس التصورات والمفاهيم والقيم التي في ضوئها تفسر أحداث التاريخ ويحكم عليها، وقد حاول كثير من المؤرخين اكتشاف السنن والروابط التي تربط الأحداث أو ما يسمونه (فلسفة التاريخ) غير أنهم لعدم اهتدائهم بالمصادر الشرعية لم يصلوا إلى نتائج مطمئنة؛ بل بلغ الجنون بأكثرهم إلى القول بتفسيرات ومنظورات تاريخية تأخذ بالتفسير (الأحدي) لحركة تاريخ البشرية، ولذلك ظهرت مدراس متعددة في تفسير التاريخ مثل: المدرسة الاجتماعية، والمدرسة النفسية، والمدرسة المادية، والمدرسة القومية، والجغرافية، واللاهوتية الكنسية وغيرها.

فكل دراسة للتاريخ الإسلامي لا تعتمد المصادر الشرعية لابد أن تصاب بالنقص والتشوه والبعد عن التصور الإسلامي؛ لأن التاريخ الإسلامي جزء لا يتجزأ من الدراسات الإسلامية، وهو تاريخ أمة ذات عقيدة محركة لها ومسيطرة على نشاطها واتجاهاتها.

وبسبب الفصل الحاصل بين الدراسات التاريخية والدراسات الشرعية أُتيحت الفرصة لعدد غير قليل - من الذين لم يتلقوا قدرًا كافيًا من علوم الشريعة - للكتابة في التاريخ الإسلامي، ومن ثم جاءت كتاباتهم صدى للدراسات الاستشراقية، وتحمل كثيرًا من لوثة الانحراف الفكري والغزو الثقافي، وتمثل الفهم المشوه للشريعة، وحتى المخلصين من هؤلاء الباحثين لا يكادون ينجون من هذه الآثار، وذلك راجع إلى قلة البضاعة في الدراسة الشرعية، وللمناهج التي تلقوا بها دراسة التاريخ.

إن الواجب يقضي بأن كل من يتصدى لدراسة التاريخ الإسلامي وتدريسه يجب عليه دراسة القرآن الكريم، ومعرفة أسباب النزول وأصول علم التفسير، وأصول علم الحديث، ومعرفة الأحكام الشرعية، وعقيدة أهل السنة والجماعة، وعقائد الفرق المخالفة لها؛ لأن هذه من أهم المصادر لدراسة التاريخ الإسلامي، وخاصة في مجال التحليل والمنظور التاريخي والمنهجية العلمية.

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
كتاب "مهارات الكتابة والتأليف" أحمد المنزلاوي.