لقد وَضَع التشريع الإسلامي نظامًا متكاملًا للتكافل الاجتماعي وإغاثة الملهوف؛ حيث يتناول جميع الفئات المستحقَّة له، ولم يُهْمِلِ التشريع الإسلامي أيَّ فئةٍ من فئات المجتمع، ولم يَهْتَمَّ بمجموعةٍ على حساب مجموعةٍ أخرى.
فكلُّ إنسانٍ قد يتعرَّض لتقلُّبات الزمن فيحتاج إلى التكافل أو الإغاثة في وقتٍ ما أو تحت ظرفٍ ما؛ فقد يُبتَلى بالمرض، أو بخسارة تجارته، فيستدين من أَجْلِ نفقاته وأسرته فيصير غارمًا، أو بسرقة أمواله؛ فيُصبح فقيرًا، أو قد يكون المنكوب بلدًا بكامله؛ يتعرَّض لكارثةٍ عامَّةٍ كفيضانٍ أو زلزالٍ أو بركان، أو لحربٍ ضروسٍ تأكل الأخضر واليابس، وتَدَعُ أهله بين قتيلٍ وجريحٍ ومُعْدَم.
لذا ليس غريبًا أن نجد القرآن الكريم -عندما يُحَدِّد المصارف التي يتمُّ صرف الزكاة فيها- يتناول أصنافًا عدَّة من الناس تشمل كثيرًا من مستحقِّي التكافل والإغاثة؛ فقد قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
وبنظرةٍ فاحصةٍ إلى هذه الأصناف نجد أنَّها جميعًا تدخل في نطاق الإغاثة، إذا استثنينا العاملين عليها والمؤلَّفة قلوبهم؛ لأنَّهم ربَّما يكونون أغنياء، ويُعطَون مع ذلك من الزكاة.
"وقد عُنِيَ القرآنُ الكريمُ بمصارف الزكاة أكثر ممَّا عُنِيَ بمصادرها ووعائها؛ لأنَّ جباية الأموال قد تكون سهلة على أصحاب السلطان بوسائل شتَّى، ولكن الصعب حقًّا هو صرفها في وجوهها، وإيتاؤها أهلها، ووضعها موضعها، ومن ثَمَّ لم يَدَع القرآن تحديد مصارف الزكاة لرأي حاكمٍ وهواه، ولا لطمع طامعٍ يريد أن يُزاحم المستحقِّين بالباطل، فنزل كتاب الله يُبَيِّن الأشخاص والجهات التي تُصرَف لها وفيها الزكاة"[1].


مستحقُّو التكافل والإغاثة:
ممَّا سبق يتَّضح لنا ملامح مَن يشملهم هذا النظام الإسلامي بعد أن عَلِمْنَا يقينًا أنَّ الشرع يوفِّر لهم منابع فيَّاضة بالخير، ويخصُّهم بمزيد من الاهتمام والرعاية.
ومن الأهميَّة بمكانٍ أن نذكر هاهنا أنَّ أولويات الإغاثة تختلف من مكانٍ لآخر حسب حاجة كلِّ مجتمعٍ وما يُحيط به من ظروفٍ وأحوال، لكنَّها تتَّفق في أنَّ الأقربين أولى بالمعروف.
وفي هذه الصفحات نستعرض هؤلاء الذين يستحقُّون التكافل والإغاثة من خلال ما يلي:
أولًا: مستحقو الزكاة.
ثانيًا: أنواع أخرى.


مستحقُّو الزكاة
مستحقو الزكاة هم المذكورون في الآية السابقة، والمنصوص عليهم بأنَّهم ثمانية أصناف، والملاحظ أنَّهم يُمثِّلون كلَّ نواحي الضعف والعجز في المجتمع، وتفصيل ذلك -كما جاء في الترتيب القرآني- ما يلي:


أولًا: الفقراء:
لخصوصيَّةٍ خاصَّة، ولحكمةٍ قد لا نعلمها ابتدأ الله عز وجل آية الزكاة بالفقراء، فكان لهم فيها أوَّل سهم، وهو إن دلَّ على شيءٍ فإنَّما يدلُّ على أنَّ من أهداف الإسلام في بناء المجتمع الإسلامي القضاء تمامًا على الفقر وحالات العَوَز والحاجة.
وقد اختلف المفسِّرون والفقهاء في تعريف الفقير؛ وذلك لتمييزه عن المسكين، في سبيل معرفة أيُّهم أسوأ حالًا؛ إذ الغالب أن كِلا الصنفين من أهل الفاقة والعَوَز؛ وقد رَجَّح الطبري شيخ المفسِّرين أنَّ المراد بالفقير هو: المحتاج المتعفِّف الذي لا يَسأل[2].
وهذه الحاجة تدور حول مِلْك النصاب (نصاب الزكاة) أو مِلْك الكفاية، والجمهور في ذلك على أنَّ الفقير هو مَن لا يملك شيئًا، أو يملك أقلَّ من نصف الكفاية[3]، كمَنْ يحتاج -مثلًا- إلى عشرة دراهم في اليوم ولا يجد إلَّا أربعة، أو أقلَّ منها.
فليس المقصود إِذَنْ إعطاء المـُعْدَم الذي ليس عنده شيءٌ فقط؛ وإنَّما يدخل في ذلك -أيضًا- الذي عنده ولكن لا يكفيه.


ثانيًا: المساكين:
كان الاختلاف في تعريف الفقير في سبيل تمييزه عن المسكين، ومِنْ ثَمَّ فَقَدِ اختَلف المفسِّرون والفقهاء -أيضًا- في تعريف المسكين، وكما رَجَّح الطبري أنَّ المراد بالفقير هو: "المحتاج المتعفِّف الذي لا يَسأل"، فقد رَجَّح أن المراد بالمسكين هو: "المحتاج المتذلِّل للناس بمسألتهم".
وقد قال في ذلك: "وإنَّما قلنا إن ذلك كذلك، وإن كان الفريقان لم يُعْطَيا إلَّا بالفقر والحاجة، دون الذلَّة والمسألة؛ لإجماع الجميع من أهل العلم أنَّ المسكين إنَّما يُعطى من الصدقة المفروضة بالفقر، وأنَّ معنى "المسكنة" عند العرب الذلَّة، كما قال الله جلَّ ثناؤه: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ{وَضُرِبَت عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61]، يعني بذلك: الهوان والذلَّة، لا الفقر. فإذا كان الله جلَّ ثناؤه قد صنَّف من قَسَم له من الصدقة المفروضة قسمًا بالفقر، فجعلهم صنفين، كان معلومًا أنَّ كلَّ صنفٍ منهم غير الآخر، وإذا كان ذلك كذلك، كان لا شكَّ أنَّ المقسوم له باسم "الفقير"، غير المقسوم له باسم الفقر و"المسكنة"، والفقير المعطَى ذلك باسم الفقير المطلق، هو الذي لا مسكنة فيه، والمعطَى باسم المسكنة والفقر، هو الجامع إلى فقره المسكنة، وهي الذلُّ بالطلب والمسألة".
ثم قال في معنى الآية المذكورة أوَّلًا التي شملتهم: "فتأويل الكلام إذا كان ذلك معناه: إنَّما الصدقات للفقراء: المتعفِّف منهم الذي لا يَسأل، والمتذلِّل منهم الذي يسأل"[4].
أمَّا ما جاء في الحديث الصحيح "لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ"[5]. فليس يعني به التعريف اللُّغوي للمسكين، وإنَّما هو من باب: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ"[6]. ونحوه[7].
ولهذا قال الإمام الخطَّابي في حديث المسكين السابق: في الحديث دليلٌ على أنَّ المسكين -في الظاهر عندهم والمتعارف لديهم- هو السائل الطوَّاف، وإنَّما نفى صلى الله عليه وسلم عنه اسم المسكين؛ لأنَّه بمسألته تأتيه الكفاية، وقد تأتيه الزيادة عليها فتزول حاجته، ويسقط عنه اسم المسكنة، وإنَّما تدوم الحاجة والمسكنة بمن لا يَسأل، ولا يُفطَن له فيُعطى[8].
وكما ذكرنا أنَّ هذه الحاجة تدور حول مِلْك النصاب أو مِلْك الكفاية، وأنَّ الجمهور في ذلك على أنَّ الفقير هو مَن لا يملك شيئًا، أو يملك أقلَّ من نصف الكفاية، فإنَّهم -أيضًا- على أنَّ المسكين هو الذي يملك نصف الكفاية فأكثر[9]، كمَنْ يحتاج -مثلًا- إلى عشرة دراهم في اليوم فيجدُ سبعة أو ثمانية.


وهناك أنواعٌ تندرج تحت مسمَّى الفقراء والمساكين، ومن هؤلاء:


1- أصحاب الكوارث:
حرص الإسلام على أن يعيش كلُّ فردٍ من أبنائه في كفايةٍ من العيش، وأمنٍ من الخوف؛ ليستطيع أن يُؤدِّي عبادة الله أداء خشوعٍ وإحسان، ولهذا ذكَّر الله قريشًا بنعمتين عظيمتين امْتَنَّ عليهم بهما، وهما: الكفاية والأمن، فقال تعالى: لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 - 4]. وشرُّ ما يُصاب به بَلَدٌ أن يُحْرَم هاتين النعمتين، كما قال الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
ومن أجل ذلك رأينا التشريع الإسلامي يكفل لكلِّ مَن يعيش في ظلِّ دولته -مسلمًا كان أو غير مسلم- مستوًى ملائمًا من المعيشة يجدُ فيه الغذاء والكساء والمسكن، كما يجدُ سُبُل العلاج والتعليم مُيسَّرة له.
وقد رأينا في تشريع الزكاة كيف عَمِلت على معالجة مشكلة الفقر بتهيئة العمل للعاطل وإعطاء الكفاية للمحتاج: كفايته وعائلته لمدَّة عام -على قول- أو كفايته العمر كله على قولٍ آخر، ومَن كان عنده بعض الكفاية أُعطِي تمام ما يكفيه رفعًا لمستوى معيشته.
وقد تتعدَّد أنواع الكوارث التي تُصيب الإنسان، فيتحوَّل حاله من العيش الهنيء إلى الضيق والشدَّة، فيُصبح فقيرًا بعد غِنًى، ذليلًا بعد عزٍّ، مضطربًا بعد طمأنينةٍ وأمان، تلك هي الكوارث المفاجئة، التي لا يَدَ للإنسان في جلبها ولا دفعها.
والإسلام قد تميَّز على المجتمع الغربي بنظام تأمينٍ وتكافلٍ يُؤَمِّن أفراده بطريقته الخاصَّة، "فبيت مال المسلمين" هو شركة التأمين الكبرى التي يلجأ إليها كلُّ مَن نَكَبه الدهر فيجدُ فيه العون والملاذ.
لا يترك المصاب تحت رحمة تبرُّعات قد تصل إليه من الخيِّرين من الناس، وإن كان الإسلام لا يمنع ذلك، بل يُرغِّب فيه؛ تنميةً لعواطف الخير ومشاعر الرحمة بين الناس، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما شكا إليه رجل جائحة حلَّت به: "تَصَدَّقُوا عَلَيهِ". فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيهِ[10].
بل يوفِّر له الحماية والتكافل من بيت مال المسلمين، وسيرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُقدِّم نموذجًا عمليًّا للتكافل والإغاثة في الكوارث والمحن.


2- اللقيط:
اللقيط في الشرع: هو المولود الذي لا يُعرَف له أبٌ ولا أمٌّ، ويجب على من رآه أن يلتقطه إن عَلِم أنَّه يَهلك إن لم يأخذه، ولا سيَّما إن كان في صحراء أو مكانٍ لا يمرُّ به أحد؛ لِمَا فيه من السعي لإحياء نفسٍ وإغاثة إنسان، قال تعالى: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وفي التقاطه رحمة بالصغار، وعلامة للإيمان؛ لِمَا روى أبو داود والترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا"[11].
وتعود إعالة اللقيط وكفالته على الدولة، ودليل ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جاءه رجلٌ بلَقِيطٍ فقال له: نفقته علينا وهو حرٌّ[12].
ومَن أراد من المسلمين أن يقوم برعاية اللقيط والإنفاق عليه متبرِّعًا فلَهُ في ذلك أجرٌ كبير، ومثوبةٌ عظيمةٌ عند الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7].
وقد راعى الإسلام نفسية اللقيط، فأوجب تربيته، وتعليمه القراءة والكتابة والحرفة، وأوجب كذلك أن تُسند الوظائف إليه، وأن تُقبل شهادته، وأن يُعتبر مسئولاً عن جميع تصرُّفاته وأعماله، حتى لا يشعر بنفسه أنه هَمَل من سقط المتاع، وحتى لا تتولَّد في تصوُّراته مُركَّبات النقص، والعُقَد النفسية، وبهذه المعاملة الحسنة نكون قد أعددنا مُواطنًا صالحًا ينهض بواجباته، ويضطلع بمسئولياته[13].


3- طالب العلم الفقير:
إن ديننا الإسلامي يُقدِّر قيمة العلم أعظم تقدير، والقرآن مليء بالآيات التي ترفع قَدر العلماء، فيقول الحقُّ عز وجل: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، وقال تعالى أيضًا: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
كما روى عاصم بن رجاء بن حيوة عن قيس بن كثيرٍ قال: قَدِمَ رجلٌ من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال: ما أقدمك يا أخي؟ فقال: حديثٌ بلغني أنَّك تُحدِّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أما جئت لحاجة؟ قال: لا. قال: أما قدمت لتجارة؟ قال: لا. قال: ما جئت إلَّا في طلب هذا الحديث..."[14].
وإيمانًا من العلماء بقيمة العلم جعلوا كفالة طالب العلم من العَوَز والفقر من مصارف الزكاة؛ فقد أجاز الشيخ تقيُّ الدين الأخذ من الزكاة للمحتاجين من طلبة العلم؛ لشراء الكتب التي تُعِينهم على عِلْمِهم[15].


ثالثًا: العاملون عليها:
أي الذين يعملون في التحصيل، والذين يعملون في التوزيع[16]، وقد يكونون من غير مستحقِّي الإغاثة لغناهم، ولكن يُعطَون من الزكاة، ومن ثَمَّ فَهُم الموظفون الذين يقومون بجمع الزكاة من أربابها وتوزيعها على مستحقِّيها، وقد كان هذا النظام متَّبعًا في صدر الإسلام والعهود التي احتفظت الزكاةُ بنظامها الخاصِّ في التحصيل والتوزيع، ولذلك كان لها بيتُ مالٍ خاصٌّ منها، وله رئيسٌ خاصٌّ سُمِّي والي الصدقات، وهؤلاء يُعطَون على قدر أعمالهم، وكفاية أمثالهم من نفس مال الزكاة؛ لأنَّ العمل في الزكاة له أجر الأجير[17].


رابعًا: المؤلَّفة قلوبهم:
هم الكفار الذين يُرجى إسلامهم أو إسلام من خلفهم، أو المسلمون حديثًا الذين يحتاجون إلى التثبيت، أو هم الذين دخلوا الإسلام حديثًا وانقطعوا عن أهليهم وعشائرهم، فيُعطَون من مال الزكاة؛ لكيلا يكون عليهم حرجٌ في إسلامهم، ولئَّلا تضطرُّهم الحاجة إلى الرِّدَّة، ومنهم من يُعطَى للكفِّ عن أذى المسلمين، ومنهم من يُعطَى ترغيبًا لعشائرهم وقومهم في الإسلام، فيُعطَون ما يُمكِّنهم من دعوة أقوامهم.
وقد اختلف الفقهاء في سهم المؤلَّفة، فقال مالك: لا مؤلَّفة اليوم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: بل حقُّ المؤلَّفة باقٍ إلى اليوم، إذا رأى الإمام ذلك، وهم الذين يتألَّفهم الإمام على الإسلام[18].
على أنَّ إعطاء المؤلَّفة قلوبهم من الأموال استمرَّ حتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه جاء رجلان إليه وطلبا منه أرضًا قائلين: إنَّ عندنا أرضًا سَبِخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيتَ أن تُعطيها لنا. فأَقْطَعها إيَّاهما، وكتب لهما عليها كتابًا وأشهد، وليس في القوم عمر، فانطلقا إلى عمر ليَشهد لهما، فلمَّا سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تَفِلَ فمحاه، فتذمَّرا وقالا مقالةً سيِّئة، فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألَّفكما والإسلام يومئذٍ قليل، وإنَّ الله قد أغنى الإسلام، اذهبا فاجهدا جُهدكما كسائر المسلمين، لا يرعى الله عليكما إن رعيتما. فرجعا إلى أبي بكر متذمِّرين، فوافق أبو بكر عمر على ما فعله ورجع إليه[19].
وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد تصرَّف بما يُناسب وقته، ولم يُعطِ هذا الصنف لعدم الحاجة إلى تأليفهم، مشيرًا إلى أنَّ الإسلام كان في ضعف، أمَّا الآن وقد عزَّ وقويت شوكته، فلا حاجة بنا للتأليف، فإنَّ ذلك لم يكن نسخًا للحُكم حتى يستمرَّ للأبد هكذا؛ وإنَّما كان تصرُّفه تطبيقًا لوصف الاستحقاق.
وإنَّ هذا لَيَبدو واضحًا حين يحتاج المسلمون بعد ذلك إلى تأليف القلوب والدعوة للإسلام ونشر حقائقه، وخاصَّة في عصرنا الحاضر؛ وقد حدث ذلك بالفعل في عهد عمر بن عبد العزيز حين تألَّف قلب البطريق وأعطاه ألف دينار؛ وذلك لحاجة المسلمين ومصلحتهم، و-أيضًا- عملًا بالآية والسنة[20].
ولذلك فإنَّ أبا عبيدٍ يرى "أنَّ الأمر في المؤلَّفة ماضٍ للأبد"[21].


خامسًا: في الرِّقاب:
وهم كذلك العبيد الذين يتعاقدون مع مُلاَّك رقبتهم على أن يدفعوا إليهم ثمنها، في مقابل أن يتحرَّروا، فقد أوجب الإسلام أن يُعطوا من مال الزكاة ما يُعِينهم على فكِّ رقابهم من أغلال الرقِّ والعبودية، ونُسجِّل هنا بكل فَخار أن الإسلام أوَّل محارب للرقِّ في الوجود، وحسبه أن جعل مِن دَخْل الدولة قَدْرًا لفكِّ الرقاب، و-أيضًا- يجوز صرفه في تخليص الشعوب من رقَّة الاستعمار؛ فإنَّه رقٌّ عامٌّ دائم يَفرض على الأمم والشعوب ظلمًا واستغلالًا، فما أجدر هذا الرقِّ بالمكافحة والعمل على التخلُّص منه، ورفع ذُلِّه عن الشعوب لا بمال الزكاة فقط؛ بل بكلِّ الأموال والأرواح[22].


سادسًا: الغارمون:
الغارم: هو الذي عليه دَيْنٌ أكثر من المال الذي في يَدِه، أو مثله أو أقلُّ منه، لكن ما وراءه ليس بنصاب[23]؛ أي مَن ليس عنده ما يُوفي به دَيْنه، إذا كان الدَّيْن في غير معصيةٍ كشُرْب خمرٍ وقمار، ولم يستَدِنْ لأخذ الزكاة، كأنْ يكون عنده ما يكفيه وتوسَّع في الإنفاق بالدَّيْن لأجل أن يأخذ من الزكاة، فلا يُعطَى منها؛ لأنَّه قَصْدٌ مذموم، بخلاف فقيرٍ استدان للضرورة، ناويًا الأخذ من الزكاة، فإنَّه يُعطى قدر دَيْنه منها لحُسْن قصده، لكن إن تاب مَنِ استدان لمعصية، أو بقصدٍ ذميم، فإنَّه يُعطى على الأحسن[24].
على أنَّ أَخصَّ مَن يَنْطبق عليهم اسم "الغارمين" أولئك الذين أصابتهم الكوارث والملمَّات؛ الأمر الذي اضطرُّوا معه إلى الاستدانة؛ وقد قال مجاهد: "ثلاثة من الغارمين: رجلٌ ذهب السيل بماله، ورجلٌ أصابه حريقٌ فذهب بماله، ورجلٌ له عيالٌ وليس له مال، فهو يُدَان ويُنفق على عياله"[25].
وفي الحثِّ على الصبر على المدينين والمعسرين يقول الله عز وجل: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. قال ابن كثير: يأمر تعالى بالصبر على المعسِر الذي لا يجد وفاء[26].
بل إنَّ الله عز وجل رغَّب صاحب المال في التصدُّق به على هذا الغريم، قال تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]؛ أي أنَّ إسقاط الدَّيْن عن المعسر، والتنفيس عليه بإغنائه خير للجميع، وجعَله الله صدقة؛ لأنَّ فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف[27].
كما حثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغَّبَ في التخفيف عن المدينين، والعفو عنهم، والتصدُّق عليهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ"[28].
إنَّ الإسلام لم يترك الغارم المدين للتبرُّعات فحسب؛ بل جعل له سهمًا من أسهم الزكاة يُطالِب به وَلِيَّ الأمر، غير هيَّاب ولا خَجِل، فهو رجلٌ من المسلمين يطلب حقَّه من بيت مال المسلمين.


سابعًا: في سبيل الله:
في معناه يقول ابن الأثير: "السَّبيلُ في الأصل: الطَّريق. وسبيلُ الله عامٌّ يقع على كلِّ عملٍ خالصٍ سُلك به طريق التقرُّب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوُّعات، وإذا أُطْلِق فهو في الغالب واقع على الجهاد، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه"[29].
وقال الطبري: "وأمَّا قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) فإنَّه يعني: وفي النفقة في نُصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده"[30].
والخلاف بين العلماء في أنَّ معنى (فِي سَبِيلِ اللهِ) هل هو مقتصرٌ فقط على الجهاد، كما هو المتبادَر إلى الذهن؟ أم إنَّه يشمل المعنى الأصلي للكلمة في اللُّغة، فهو أعم؟ وفي ذلك فإنَّ الجمهور على قصر معنى: (فِي سَبِيلِ اللهِ) على الجهاد وما في معناه[31].


ثامنًا: ابن السبيل:
يقول الطبري في معناه: "وأمَّا قوله: (وَابْنِ السَّبِيلِ): فالمسافر الذي يجتاز من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ"[32]. وأَدخل البعض فيه الذي يُريد أن يُنشئ سَفرًا ولا يستطيعه[33]، وأَدخل آخرون صورًا حديثة كاللاَّجئين والمحرومين من المأوى[34].
فهو يُعطى من مال الزكاة ما يُتِمُّ به مهمَّته، ويُوصله إلى وطنه من غير استرداد -وقد يُعطَى ويستردُّ وليُّ الأمر ما أعطاه إذا عاد إلى أهله وماله- ويُشترط ألَّا يكون عاصيًا، وأن يكون سَفَره لغرضٍ صحيحٍ شرعًا؛ فليس منه المسافر لأجل النزهة والرياضة في البلاد الأجنبيَّة، ويَصرِف أمواله في غير بَلَدِه لا لحاجةٍ سوى الشَّهوة والمتعة[35].




المصدر:
كتاب رحماء بينهم، للدكتور راغب السرجاني.

[1] القرضاوي: مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ص85، 86.
[2] الطبري: جامع البيان في تأويل آي القرآن 14/309.
[3] شيخي زاده: مجمع الأنهر ودر المنتقى بهامشه ص220-223.
[4] الطبري: جامع البيان في تأويل آي القرآن 14/309.
[5] البخاري: كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى "لا يسألون الناس إلحافا" (1406)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه (1039).
[6] البخاري: كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب (5763)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب (2609).
[7] انظر في ذلك: القرضاوي: فقه الزكاة، ص 368، 369.
[8] الخطابي: معالم السنن 2/232.
[9] شيخي زاده: مجمع الأنهر ودر المنتقى بهامشه ص220-223.
[10] مسلم عن أبي سعيد الخدري t: كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين (1556)، وأبو داود (3469)، والترمذي (655)، والنسائي (4530)، وأحمد (11335)، وابن حبان (5033)، والحاكم (2275)، وابن أبي شيبة (23251)، وأبو يعلى (994).
[11] الترمذي عن أنس t: كتاب البر والصلة، باب رحمة الصبيان (1919) واللفظ له، وأبو داود (4943)، وأحمد (6733)، والحاكم (209)، والبخاري في الأدب المفرد (363)، والطبراني في المعجم الكبير (8154)، والأوسط (4812)، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع (5445).
[12] السرخسي: المبسوط 10/210.
[13] عبد الله ناصح علوان: التكافل الاجتماعي في الإسلام ص67، 68.
[14] الترمذي: كتاب العلم، باب فضل الفقه على العبادة (2682) واللفظ له، وأبو داود (3641)، وابن ماجه (223)، وأحمد (21763)، والدارمي (356)، وابن حبان (88)، والبيهقي في شعب الإيمان (1697)، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع (6297).
[15] مصطفى الرحيباني: مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى 5/273 بتصرف
[16] محمد بن أحمد الصالح: التكافل الاجتماعي في الشريعة الإسلامية ص89.
[17] عبد العال أحمد عبد العال: التكافل الاجتماعي في الإسلام ص123 بتصرف.
[18] ابن رشد الحفيد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1/220.
[19] انظر: الجصاص: أحكام القرآن 4/325.
[20] انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/258.
[21] أبو عبيد: الأموال ص607.
[22] عبد العال أحمد عبد العال: التكافل الاجتماعي في الإسلام ص123، 124.
[23] الكاساني: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 4/26.
[24] وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته 3/1957.
[25] مصنف ابن أبي شيبة 2/424.
[26] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/717.
[27] الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 2/562.
[28] مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (2699)، وأبو داود (4946)، والترمذي (1930)، وابن ماجه (225)، وأحمد (7421)، والطبراني في الأوسط (9241)، وابن أبي شيبة (26567)، والبيهقي في شعب الإيمان (1695)، وأبو عبد الله القضاعي في مسند الشهاب (458).
[29] ابن الأثير: النهاية في غريب الأثر 2/846.
[30] الطبري: جامع البيان في تأويل آي القرآن 14/319.
[31] راجع في ذلك القرضاوي: فقه الزكاة ص439 وما بعدها.
[32] الطبري: جامع البيان في تأويل آي القرآن 14/319.
[33] النووي: المجموع 6/214.
[34] انظر محمد بن أحمد الصالح: التكافل الاجتماعي في الشريعة الإسلامية ص93.
[35] عبد العال أحمد عبد العال: التكافل الاجتماعي في الإسلام ص125.