صلاح فائق وسركون بولس
إذا كانت قيامة الرواية بالمعنى الفني الحديث قد بدأت في مصر ، فإن قيامة الشعر الحديث بدأت من العراق. و لا يمكن فصل هموم الحداثة ( شعريا ) عن فرسان العراق الثلاثة : نازك الملائكة ( من ناحية الشكل ) ، و البياتي ( في مضمار التجربة الذهنية و الروحية ) ، ثم أخيرا البياتي ( في الأسلوب و الخطاب).
و أعتقد أن الشاعر صلاح فائق سار على نفس ( بساط المراسم) السابق ، فقدم لنا قصائد رقيقة ، ليس لها حدود غير أحزان الشعر و قهر السقوط ، و ليس لديها أفراح خارج إطار الموت....
و هذه القصيدة منشورة في مجموعته ( رهائن ) التي صدرت في دمشق عام 1975 .
( ألف )
أيام لصلاح فائق
ابتعد الطائر الأخير
ابتعد العشب الذي لا يطاق
ابتعد مطر و ابتدأ عقاب المسافرين
ابتعدت العربات الأخيرة.
إني في سنة تراقب عقلي
إني سارق الدُمى
إني الذي كان يقرع الطبل
و في القتال كنت أنا الذي يوزع النبيذ.
إذ أكتب الآن
ذلك لأن الأفق يمتدّ
أكتب لأن الحقول لا تقول ما تريد.
و في كل مرة ، حين يعود ذلك الضجيج الغريب
ضجيج الزمن الزاحف ،
حين أسمع أسئلة غير بهيجة
و حين ألتقي في المنعطفات
بموتى قدامى مزدانين بالنياشين
يبتسمون ابتسامتهم الموروثة و قد وضعت الأرصفةُ تحت
تصرفهم
أقسّم نفسي على الأشجار مثل رجل مشبوه
و لا يبقى لي سوى آخر الحوانيت
لا يبقى غير زهو السجون بأملاكها.
***
أيّ فصل لم يترك شقاءه حين رحل ؟
كنت أجعل قهقهات الضيوف ملاذي
كنت أفرّ من المدن ، كنت أجرح أصابعي .
هذه نزهة الأعوام الأخيرة : مخلب يطفو ثم يختفي
و لا أحد يلمس الجدران
لا أحد يتسلق الليل
لا أحد يفهم براءة النهار
و المظهر الأنيق إنما هو محض جثة.
بعد هذا ، هل أنسلّ إلى أحلامي
هل أصير الصوت المهذب ، هل أقول لا شراشف لا أفواه ؟
أوشكت أن ألائم
أوشك انتباهي أن يصير ثكنات و متسابقين :
يهبّ الهواء و يرجع و نواح المرأة في المباني
يهب الهواء و يرجع و نواح المرأة على االجسور
يهب الهواء و يرجع و موعد الموت في المساء.
***
في الليل أفقد قبحي و أخرج من غرفة
لا ألتفت للمواكب لا أهتم بملك نائم
أحتفظ بأحداقي مفتوحة و أستمع ، أحيانا ، لمن يسرد آلام
الزوجة.
لا يريحني الطقس و لا الحفلات : حيث الآخرين مسافة
و الشوارع أرملات يبحثن عن أشجار الحور
إنما أتمدد في حديقة و أتامل نفسي في ثلاثة مقاطع :
1 ) رجل تعب من الأسفار
إنه ، الآن ، شاهد صامت لما رآه.
2 ) موتى كانوا ينقبون عن الآثار
مرئيون في شقة مزدحمة
أذهب نحوهم ، فأفاجأ بعازف كمان.
3 ) عائلة مشردة تفكك الضوء الأبيض و انعكاساته على أنقاض
قرى ، تفكك راية منصوبة في قبو قديم.
هل تتسلين هكذا أيتها العائلة المزججة ، هل تخلقين إشارة فقط ؟
- سؤال أرهب العصافير
فنهض ذلك الرجل و محى أشياء كثيرة ، لكنه أبقى
أنقاض القرى.
قال : بهذا أفصل بين الزمن و الوقت ، بهذا أجرب الاكتفاء
ببركان. و حلم لو يستطيع ، فوق ذلك كله ، إضافة " أحلام
الشتاء " لتشايكوفسكي بحيث تخرج منها الأرواح و هي تطير.
ثم سمع صراخ الولادة ، فجلس و قام و ركض يبحث عمن
وطأ القرن.
رأى منظر طفل في االفضاء ، رأى انعكاسه فوق
مياه قريبة
سمعهما يرفضان المجيء ، التطابق لأن الكلام
لأن المسدس....
***
تلك تفصيلات ضرورية لأبرر افتتاحيتي
لأفتتح عهدا لهواة الطوابع
لأجد نفسي مأهولة باستعراض عسكري
لأرقص لأشرب الخمر الرخيص
ثم لأخرج و أرى كم من أعمدة الرخام سقطت ، تكسرت ،
تفتتت أثناء القصف.
إنما ، هنا ، على الأمواج أن ترتفع
هنا ، علينا الاقتناع بأن سطوح المباني هي لاعتقال العذارى
هنا ، علينا أن نرى.
أكثر ما أخافه هو الأمل
أكثر ما أخافه هو أن أشوه طيران الغر اب بمعزوفة
لذا ، سأتابع إصطفاف المنازل فقط
سأجعل الخادمة تضحك أمام حيرة عصفور عجوز
و سأسقط دعواتي و بطاقاتي في الأعماق.
غير أني ، بين آن و آن ، سأفرح بثرواتي الباقية : جداولُ
تصرخ ، سفوحٌ تسير ، لا آفاق بل أسرى و ذكريات و تهامس
أشجارٍ يصير ريحاً خفيفةً تتحركُ على ورقة.
1973
- من مجموعته رهائن.