السيارات الكورية... ولدت بالأمس ونضجت اليوم



السيارات الكورية أعجوبة صناعية حقيقية؛ فقد شهدت العقود الماضية بروز صناعة السيارات في كوريا الجنوبية كواحدة من أهم قصص النجاح الصناعية بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة أنها بدأت من لاشيء تقريباً كما يقول الخبراء، واليوم تحتل صناعة السيارات في كوريا الجنوبية المركز الخامس على مستوى العالم من حيث عدد السيارات المصنعة، وهي كذلك الخامسة عالمياً من حيث حجم الصادرات من السيارات.

وعلى الرغم من أن صناعة السيارات في كوريا بدأت بتجميع قطع غيار السيارات المستوردة من الخارج، إلا أن كوريا الجنوبية تعتبر اليوم من أكثر دول العالم تطوراً في صناعة السيارات، حيث وصل حجم الإنتاج السنوي إلى مليون سيارة عام 1988 ، وفي التسعينيات أنتجت صناعة السيارات الكورية العديد من الموديلات محلية التصنيع، التي تعرض قدرات مميزة من حيث التصميم والأداء والتكنولوجيا المستخدمة ، مؤذنة ببداية عصر جديد في عالم السيارات.

بداية السيارات الكورية
يعود تاريخ صناعة السيارات الكورية إلى عام 1955 ، عندما قام رجل الأعمال الكوري (تشوي مو سونغ) واثنان من إخوانه بوضع محرك (جيب) معدل على هيكل سيارة مصنوعة من قطع الخردة ، ليصنعوا أول سيارة في تاريخ كوريا الجنوبية ، وأطلقوا عليها اسم (سيبال) – وتعني "بداية جديدة" بالعربية، وفي عام 1960 أطلقت شركة (شينجين أوتوموبيلز) سيارة (شينجين ببليكا) ضمن "اتفاقية ترخيص تقنية" مع شركة (تويوتا).

ولتطوير صناعة السيارات المحلية أعلنت الحكومة الكورية عن سياسة تشجيع صناعة السيارات عام 1962 ، ومرسوم حماية صناعة السيارات لحماية هذه الصناعة الوليدة ومساعدتها على النمو، حيث تم منع شركات السيارات من العمل في كوريا إلا من خلال مشاريع مشتركة مع الشركات المحلية ، وأدت جهود الجكومة إلى تحول عدد من الشركات في قطاعات أخرى إلى قطاع تصنيع السيارات، لتحرك بذلك عجلة صناعة السيارات في كوريا.
وتم تأسيس ثلاث شركات عام 1962 ، شركة (كيونجسيونج بريسيجن) والتي غيرت اسمها لاحقاً إلى (
كيا) وبدأت بتجميع السيارات بالتعاون مع شركة (مازدا) اليابانية عام 1964 ، والثانية شركة (ها دونج هوان أوتوموبيل) التي أصبحت لاحقاً تعرف باسم (سانج يونج موتور) ، وشركة (ساينارا أوتوموبيل) التي تأسست بمساعدة فنية من شركة (نيسان) ، حيث كانت أول شركة في كوريا الجنوبية تزوّد بخطوط تجميع حديثة,

أما شركة (آسيا موتورز) فتأسست عام 1965 و تأسست شركة (هيونداي موتور) عام 1968 بمساعدة فنية من شركة (فورد) الأمريكية، ولكن كل هذه الشركات كانت تقوم تجميع السيارات فقط ، وتستورد قطع السيارات من الشركات الأجنبية.

السبعينيات
بدأت تويوتا تُظهر بعض التردد في مواصلة علاقتها بشركة (شينجين) عام 1970 ، وفي النهاية انسحبت تويوتا بالكامل عام 1972 ، ما دفع شركة (شينجين) إلى التعاون مع (جنرال موتورز) الأمريكية لتأسيس شركة (جنرال موتورز كوريا) ، والتي أعيدت تسميتها عام 1976 إلى (سايهان موتورز) ، بينما افتتحت كيا مصنع (سوهاري) للسيارات عام 1973 .

أما
هيونداي فقدمت أول سيارة كورية الصنع عام 1975 ، وهي سيارة (هيونداي بوني) ، ونجحت في تحقيق هذا الإنجاز بعد أن عينت البريطاني (جورج تيرنبول) في منصب نائب رئيس الشركة ، وجاءت النتيجة النهائية كثمرة لجهود مشتركة بين عدة شركات ؛ ومنها شركة (إتالديزاين) الإيطالية التي وضعت التصميم ، وشركة ميتسوبيشي التي قدمت المحرك والجير.

كما حققت هيونداي إنجازاً تاريخياً آخراً عندما قامت بتصدير (بوني) إلى أسواق أمريكا الجنوبية في دول (كولومبيا) و (فنزويلا) و (الإكوادور) بين عامي 1976 و 1982 ، لتكون بذلك أول سيارة كورية يتم تصديرها.
وفي عام 1982 سيطرت شركة (دايو) على شركة (سايهان موتورز) ، وغيرت اسمها إلى (دايو موتورز) في العام التالي.

الثمانينيات
عانت صناعة السيارات في كوريا بشكل كبير جراء أزمة النفط الثانية عام 1979 وما لحقها من كساد محلي ، ما دفع بالحكومة إلى إلى تطبيق سياسة (ترشيد صناعة السيارات) لتخفف من حدة المنافسة بين صانعي السيارات الأربعة (هيونداي) و (كيا) و (جنرال موتورز كوريا) و (آسيا موتورز) ، كما أوقفت الحكومة سياسة الاستيراد الحر للسيارات.
وغيرت شركة (شينجين) اسمها إلى (جيوهوا) عام 1981 واستحوذت عليها شركة (دونغ A موتورز) عام 1985 ، ثم أعيدت تسمية الشركة إلى (سانج يونج موتور) في العام التالي.

وبعدما كان توطين صناعة قطع غيار السيارات هو الهدف الأهم في السبعينيات ، أصبح تطوير نظام التصنيع بكميات كبيرة لغايات التصدير هو عنوان المرحلة في الثمانينيات ،
ودخلت هيونداي إلى سوق الولايات المتحدة الأمريكية عام 1986 بطراز (اكسيل) ، وحققت رقماً قياسياً لبيع أكثر عدد من السيارات في عامها الأول في الولايات المتحدة الأمريكية مقارنة بأنواع السيارات الأخرى، وبلغ حجم مبيعاتها 126 ألف سيارة، وحقق السيارة نجاحاً كبيراً بسبب سعرها المنخفض حتى تم ترشيحها لجائزة أفضل 10 منتجات .

ولكن جودة السيارات كانت منخفضة وكانت كثيرة الأعطال ، ما منحها سمعة سيئة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومع نجاح تجربتها في التصدير بدأت هيونداي عام 1989 بإنتاج موديلات مصممة ومصنعة محليا مثل سيارة (سوناتا) ، التي احتفظت على الرغم من ذلك بالكثير من القطع واللمسات التصميمية من سيارات (ميتسوبيشي).

التسعينيات
بلغ إجمالي صادرات هيونداي إلى الولايات المتحدة الأمريكية مليون سيارة عام 1990، وفي عام 1992 فازت سيارتها (سكوب تيربو) في رالي (بايكس بيك) ، بينما تم اختيار سيارة (إلانترا) عام 1993 كأفضل سيارة للعام في أستراليا ، وفازت سيارة (هيونداي آكسنت) بجائزة أفضل سيارة عام 1995 ، وفازت كذلك سيارة (أفانتي) برالي (آسيا والمحيط الهادي) في نفس العام ، ولكن وعلى الرغم من كل هذا النجاح كانت المشاكل تتراكم أمام هيونداي .

فعلى الرغم من النجاح الذي لاقته (اكسيل) في البداية إلا أنها أضرت بسمعة سيارات هيونداي بشكل عام بسبب أعطالها الكثيرة، كما انخفضت جودة السيارة أكثر بسبب سياسة الشركة في تخفيض النفقات ، وبالطبع ومع انتشار السمعة السيئة عن سيارات هيونداي بدأت المبيعات تتراجع بشكل كبير في الولايات اامتحدة الأمريكية ، ولم يعد تجار السيارات في أمريكا مهتمين بالحصول على وكالات هيونداي .
ولكن هيونداي لم تيأس ، وأعادت النظر في سياسة تخفيض النفقات التي أضرت سمعتها ، فبدأت عام 1998 باستثمار المزيد من الأموال في رفع جودة سياراتها وتصاميمها وتصنيعها وفي قطاع البحث والتطوير بعيد المدى ، وللتغلب على انخفاض المبيعات رفعت كفالة السيارة إلى 10 سنوات أو ما يزيد على 160 ألف كم في الولايات المتحدة الأمريكية .
وآتى هذا الجهد ثماره بالفعل ، حيث حققت هيونداي عام 2004 نفس مستوى سيارات هوندا من حيث الجودة وفقاً لأراء المستهلكين في المرتبة الثانية بعد تويوتا، في الدراسة التي أجرتها دار (J.D Power) للأبحاث.

وفي عام 1990 بدأت شركة (دايو) بالتوسع في أنحاء العالم، وحتى عام 1996 كانت سياراتها تعتمد على موديلات جنرال موتورز ، وبعد الأزمة المالية الآسيوية التي بدأت عام 1997 استحوذت (دايو) على شركة (سانج يونج) المتخصصة في مركبات SUV عام 1998 ، ولكنها تعرضت لمتاعب مالية عام 1999.

ودمجت شركة (آسيا موتورز) بالكامل مع شركة (كيا موتورز) ، بينما تعرضت (كيا) لمتاعب مالية عام 1997 ساهمت في توريط البلاد في الأزمة المالية الآسيوية، وفي نهاية المطاف استحوذت عليها شركة (هيونداي) عام 1998.
أما مشاركة (سامسونج) في قطاع صناعة السيارات فلم يكتب لها النجاح أيضاً، فبعد أن تأسست عام 1994 وبدأت ببيع سياراتها عام 1998، عصفت بها الأزمة المالية الأسيوية ، واضطرت الشركة لبيع 70% من أسهمها لشركة (رينو) عام 2000 ، وأصبح اسمها (رينو سامسونج موتورز) .

صعوبات السيارات الكورية في بداية الألفية الجديدة
مع نهاية القرن العشرين بدأ الضغط يتزايد على قطاع صناعة السيارات في كوريا ، مع تنامي السوق المحلي وتزايد المنافسة، كما أصبح التلوث وهدر الطاقة و الازدحامات المرورية على قائمة القضايا الملحة، ما دفع بالحكومة إلى فرض المزيد من الضرائب والرسوم على السيارات، وبنسبة تعد الأكبر بين الدول المصنعة للسيارات.
ولتوضيح حجم الأزمة عزيزي القارئ، تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن عدد السيارات المرخصة في كوريا عام 1985 بلغ مليون سيارة ، بينما ارتفع هذا العدد إلى 8 ملايين عام 1995.

ومع كل هذه الضغوط أصبحت شركات السيارات الكورية أكثر شراسة من حيث الأسعار والجودة ، وبدأت بتصنيع سيارات أكبر ووسعت من دائرة منتجاتها لتلاقي الأذواق المختلفة للزبائن.
كما دفعت الضغوط المحلية بشركات السيارات الكورية نحو الأسواق العالمية
ولكن عاملين مهمين دفعا بصناعة السيارات الكورية للتركيز بشكل كبير على التصدير إلى السوق الأمريكي تحديداً ، وهما شراء شركة (جنرال موتورز) لشركة (دايو) عام 2002 ، وافتتاح هيونداي لمصنع ضخم في ولاية (ألاباما) الأمريكية عام 2005 بكلفة بلغت مليار دولار أمريكي ، في خطوة جعلت هيونداي تسجل اسمها في تاريخ السيارات كثالث شركة سيارات أجنبية تقيم مصنعاً في ولاية (ألاباما) ، كما قامت هيونداي بافتتاح مصنع مشابه عام 2009 لصنع سيارات كيا.

السيارات الكورية اليوم
محاطة بالعمالقة (الصين واليابان وروسيا) ، نجحت كوريا الجنوبية في إثبات وجودها على خارطة العالم ، بعدما أنشأت في وقت قياسي قطاعاً تصنيعياً متكاملاً لإنتاج السيارات، وللوصول إلى المعرفة اللازمة لتحقيق هذا الإنجاز اختارت كوريا الطريق السهل والذي يتمثل في عقود الشراكة والتعاون مع مصنعي سيارات بدلاً من إنشاء مراكز البحث والتطوير من الصفر.

وفي الحقيقة وعلى الرغم من بعض الانتقادات حول جودة السيارات الكورية، إلا أن السيارات الكورية اليوم تقف جنباً إلى جنب كمنافسة قوية لا يستهان بها في سوق السيارات العالمي من حيث التصميم والأداء، فقد حققت شركة هيونداي على سبيل المثال مبيعات قياسية عام 2015 في منطقة الشرق الأوسط تجاوز 3 ملايين سيارة، إلا أن التحدي الماثل أمام السيارات الكورية اليوم يكمن في المحافظة على معدلات نمو مبيعاتها المرتفعة في الأسواق العالمية من خلال الاستثمار في جودة التصنيع وعملية التطوير المستمر.