البيمارستان Al – Bimaristan كلمة فارسية مركبة من كلمتين، هما "بيمار" ومعناها المريض، و"ستان" ومعناها دار، وبذلك يكون المعنى: دار المريض. واختُصر هذا الاسم فيما بعد فصار مارستان، وقد كان في فلسطين حتى نهاية العهد المملوكي -أي خلال العصر العبيدي الفاطمي والصلاحي الأيوبي- ثماني بيمارستانات في القدس، وستَّة بيمارستانات أخرى في صفد والخليل وعكا والرملة وغزة ونابلس.

والجدير بالذكر أنَّ العلوم الطبيَّة ازدهرت وعدد الأطباء ازداد في العهد الأيوبي وما بعده، وكانت البيمارستانات مفتوحة الأبواب للفقراء، وكانت مشافي القدس تُقسَّم إلى جناحين؛ الأول للرجال والثاني للنساء، كما كان يوجد غرفٌ وأقسامٌ للجراحة، وأقسامٌ لأمراض العيون، وأماكن خاصَّة لأصحاب الأمراض العقلية، ويُشرف على هذه الأقسام أطباء مختصون، ومن أشهر هذه البيمارستانات:

أولًا: البيمارستان الفاطمي في القدس

هو على الأرجح أول بيمارستان بُني في فلسطين، وقد ورد ذكره في كتاب سفر نامة للرحالة الفارسي ناصر خسرو، الذي زار القدس في (5 رمضان سنة 438هـ=16 مارس 1047م)، حيث قال: "وفي بيت المقدس مستشفى عظيم، عليه أوقافٌ طائلة، ويصرف لمرضاه الكثيرين العلاج والدواء، وبه أطباء يأخذون مرتَّباتهم من الوقف المقرَّر لهذه المستشفى، ومسجد الجمعة على حافة المدينة من الناحية الشرقية، وإحدى حوائط المسجد على حافَّة وادي جهنم".

ولم يُعرف حتى الآن اسم بانيه أو سنة بنائه، لكن يُرجَّح أنَّه بُني في الزمن نفسه الذي بُنيت فيه دار العلم العبيدية الفاطمية في القدس؛ أي حوالي سنة (400هـ=1009م) في أيَّام الحاكم بأمر الله، وظلَّ عامرًا ما يقرب من قرن، إلى أن احتلَّ الصليبيون مدينة القدس عام (492هـ=1099م)، فأقاموا مكانه مشفى الإسبتارية (مشفى القديس يُوحنَّا)، والجدير بالذكر أنَّ الصليبيين اهتمُّوا بإنشاء المشافي، كما عملت القوميَّات المختلفة على إنشاء مشافيها الخاصَّة في مدينة القدس؛ فقد أسَّس الألمان مشفى لهم (1128م)، وبنى المجريُّون مشفى لهم شمال كنيسة القيامة (1135م)، ولَحِقَ بهم الأرمن فأنشئوا مشفى خاصًّا بهم ألحقوه بدير مار يعقوب عام (1142م).

ثانيًا: البيمارستان الصلاحي في القدس

هو من مآثر السلطان صلاح الدين الأيوبي، وقد جاء عنه في كتاب "الأنس الجليل" لمجير الدين العليمي الحنبلي ما يلي: "وجعل الكنيسة المجاورة لدار الإسبتار بقرب قمامة كنيسة القيامة بيمارستانًا للمرضى ووقف عليه مواضع، ووضع فيه ما يحتاج من الأدوية والعقاقير، وفوَّض النظر والقضاء في هذا الموقف إلى القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع ابن تميم المشهور بابن شداد؛ لعلمه بكفاءته".

وجاء في كتاب "سيرة صلاح الدين" لابن شداد ما يلي: "وأمرني السلطان بالمقام في القدس الشريف لعمارة بيمارستان أنشأه فيه، وإدارة المدرسة التي أنشأها فيه إلى حين عوده، وسار من القدس الشريف ضحوة نهار الخميس في (سادس شوال 588هـ=15 أكتوبر 1192م)". وكان السلطان قد أنشأ هذا البيمارستان سنة (583هـ=1187م) عندما فتح القدس، وكان يقع في الجزء الغربي من حارة الدباغة على مسافة من كنيسة القيامة، وكان واحدًا من عدَّة مؤسَّسات علميَّة وخيريَّة أنشأها صلاح الدين في المدينة وفي الديار المقدَّسة، وقام السلطان بوقف عقارات من مخازن وبيوت وأفران ودكاكين وطواحين وآبار وأراضي زراعية من أجل تطوير المشفى.

وكان من أوائل القائمين عليه يعقوب من صقلاب النصراني المقدسي الشرقي الملكي (تُوفِّي سنة 625هـ=1228م)، ورشيد الدين بن الصوري (573-639هـ=1177-1241م). ويُشير بعضهم إلى أنَّ هذا البيمارستان لم يُعمَّر طويلًا، وإنَّه اندثر نهائيًّا في العام (863هـ=1458م)، لكن عارف العارف استنادًا إلى سجلات المحكمة الشرعية بالقدس، يجزم أنَّه استمرَّ حتى القرن (الثاني عشر الهجري=الثامن عشر الميلادي)، بل واستمرَّ البيمارستان الصلاحي في القدس بتقديم خدماته الطبية طيلة الفترة العثمانية الأولى (1516-1831م) للمقدسيِّين وغيرهم من الحجَّاج والزائرين.

ثالثًا: البيمارستان الصلاحي في عكا

ففي سنة (583هـ=1187م) بعد أن فتح السلطان صلاح الدين بيت المقدس واستنفذه من أيدي الصليبيين، انصرف إلى دمشق واجتاز في طريقه إلى عكا، ولمـَّا وصل إليها نزل بقلعتها ووكل بعمارتها وتجديد محاسنها بهاء الدين قراقوش، ووقف دار الإسبتار نصفين على الفقراء والفقهاء، وجعل دار الأسقف مارستانًا، ووقف على ذلك كلِّه أوقافًا دارَّة، وولَّى نظر ذلك إلى قاضيها جمال الدين بن الشيخ أبي النجيب، وعاد إلى دمشق مؤيَّدًا منصورًا، جاء في "الأنس الجليل" ما يأتي: "ورتب أحوال عكا وأمورها، ووقف نصف دار الإسبتار رباطًا للصوفية ونصفها مدرسة للفقهاء، وجعل دار الأسقف بيمارستانًا للضعفاء".

رابعًا: البيمارستان المنصوري في الخليل

من أوقاف السلطان المنصور قلاوون، وقد عمَّره في سنة (680هـ=1287م) على حدِّ قول العليمي.

خامسًا: بيمارستان تنكز في صَفَد

ذكر ابن حجر أنَّ في صفد بيمارستانًا عمَّره الأمير تنكز نائب الشام في زمن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وذكر محمد بن شاكر الكتبي أنَّ الأمير الكبير سيف الدين تنكز نائب السلطنة بالشام عمَّر بصفد البيمارستان المعروف باسمه، وكانت وفاة الأمير تنكر في سنة (741هـ=1340م).

سادسًا: بيمارستان غزة

من أوقاف الأمير سنجر بن عبد الله الجاولي، وقد استنابه السلطان الناصر محمد بن قلاوون بغزة سنة (711هـ=1311م)، وكان هذا البيمارستان جزءًا من نشاطه العمراني في تلك المدينة.

سادبعًا: بيمارستانا الرملة ونابلس

وهما من أوقاف ناظر الجيش فخر الدين محمد ابن فضل الله القبطي، وقد بنى الناظر المملوكي الشهير عدَّة مساجد وبيمارستانات خاصَّة في الرملة ونابلس، واتَّصل بخدمة الناصر محمد بن قلاوون، وتُوفِّي في (رجب سنة 732هـ= أبريل 1332م).

ثامنًا: بيمارستانات فلسطين في العهد العثماني

اعتنى العثمانيون بالمشافي التي أُسِّست في العهد المملوكي وزادوا أوقافها، وكان في فلسطين ستُّ مشافي حكومية موزَّعة في القدس ويافا وحيفا وعكا ونابلس وغزة، ومنها:

المشفى البلدي:

أُنشئ هذا المشفى عام 1891م في عهد السلطان عبد الحميد الثاني في بالقدس؛ حيث اشترى الحاج سليم أفندي الحسيني رئيس بلدية القدس قطعة أرض في حي الشيخ بدر، وبنى عليها مبنى من طابقين يضمُّ 28 غرفةً و40 سريرًا، أمَّا طاقم المشفى تألَّف من 7 ممرِّضات و5 ممرِّضين وإمامًا يُمثِّل إدارة البلدية ويقوم بوظيفة سكرتير المشفى، وكان رئيس الأطباء يونانيًّا يُدعى فوتيوس افكليدس، يُساعده الطبيب المقدسي كامل الحسيني، وزُود المشفى بغرفة عمليَّات مجهَّزة بشكلٍ ممتاز، وصيدليَّة تحوي جميع الأدوية المعروفة في ذلك الوقت، وفي زمن متصرِّف القدس علي أكرم بك أُنشئت بناية صغيرة من ثلاث غرف، خُصِّصت للأمراض المعدية، وبعد الحرب العالمية الأولى حوِّل الاحتلال البريطاني دار المشفى إلى مقرٍّ لدائرة الصحة.

وقد اتَّسم العهد العثماني بازدهار مشافي الإرساليَّات الأجنبيَّة وخصوصًا في المدينة المقدَّسة، ومنها:

المشفى الروسي: يقع في المسكوبية، وبناه الروس سنة 1859م، لمن يفد بقصد الحج من أبناء روسيا.
مشفى الهوسبيس: بناه النمساويون على درب الآلام عند مفترق الطرق المؤدية إلى باب العمود وحارة باب الواد في القدس، وبُني أصلًا ليكون نُزُلًا لإمبراطور النمسا فرانسوا جوزيف عند زيارته للقدس، ولكنه لم يُستعمل كمشفى إلَّا في أواخر فترة الانتداب البريطاني.
المشفى الإنجليزي: أسَّسته الأسقفية البروتستانتية في القدس، وذلك لخدمة اليهود بمبادرة من مبشِّري جمعية لندن لنشر المسيحية بين اليهود، ووصل إلى فلسطين مُنشئ المشفى وأول مديرٍ له الدكتور ماكجوان سنة 1842م، ولكن مساعي المبشِّرين الانجلكانيِّين اصطدمت بمعارضة يهود القدس، وبمساعدة ماليَّة من موشه مونتفيوري -الثري اليهودي البريطاني- استطاع اليهود أن يبنوا مشفًى خاصًّا بهم، وقام المشفيان اليهودي والإنجليزي سويًّا عام 1844م.
المشفى الألماني: بُني سنة 1894م، ويُعرف باسم المشفى المجيدي؛ لأنَّ من يدخله من المرضى كان يدفع ريالًا مجيديًّا عثمانيًّا فقط مهما طالت إقامته، وقال عنه المؤرِّخ الفلسطيني عارف العارف: إنَّه أكبر المشافي التي قامت بالقدس.
المشفى الإيطالي: بُني حوالي عام 1920م على طريق القديس بولس، ويتكوَّن من ثلاثة طوابق، ويُعتبر أحدث المشافي الغربيَّة الكلاسيكيَّة عهدًا.
مشفى الأطفال: وهو مشفى صغير كان يقع شمال المسكوبية، ولم يضم سوى 15 سريرًا.



وممَّا يجدر ذكره أنَّ كلية صلاح الدين الإسلامية التي أُنشئت بالقدس سنة 1915م ضمَّت في برامجها التعليميَّة مادَّةً لتعليم مبادئ حفظ الصحَّة.

الصيدليات في فلسطين

وفيما ما يتعلَّق بالصيدليات الحديثة على الطراز الأوربِّي؛ فقد كان في آخر القرن التاسع عشر بعض الصيدليات الخاصَّة، وكان على كلِّ صيدليةٍ أن تأخذ إذنًا خاصًّا من إسطنبول، ويذكر الدكتور كامل العسلي أنَّه خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من حكم العثمانيِّين كان سنجق القدس يضمُّ 29 صيدلية، 11 منها في القدس، و17 في يافا، وصيدليَّة واحدة في بئر السبع.

مهنة الطب والقانون من وثائق المحكمة الشرعية

تفيد المراجع بأنَّ القدس عرفت في (القرن الحادي عشر الهجري=السابع عشر الميلادي) ما يُمكن تسميته أو ما يُشابه في وقتنا الحالي -النقابات الطبية، وكانت تُسمَّى الطوائف، ولها رئيسٌ يُديرها، وقد تولَّى رئاسة طائفة الأطباء محمد بن أحمد سويسوا بين عامي (1596-1610م).

أمَّا طائفة الكحَّالين فعُرف من أعضائها إسحاق بن شحاذة، وبالنسبة إلى طائفة البياطرة ترأَّسها خليل بن أبي زيد عام 1555م، وبلغ عدد أطبائها بين أعوام 1545 و1555م خمسة أعضاء، كان رئيس أو شيخ الطائفة يمنح الترخيص للأطباء لممارسة مهنة الطب، كما كان ذلك من جملة مهامِّ القاضي؛ حيث يعود له قرار تعيينهم أو رفضه.

خاتمة

هذه بيمارستانات فلسطين المذكورة في المصادر المتوفِّرة، وقد كان عددها كبيرًا إذا ما قورن بعدد البيمارستانات في باقي بلاد الشام، ويبدو أنَّ هذه المؤسَّسات كانت جزءًا أساسيًّا من تنظيمات الدولة، وكانت تهدف إلى غرضٍ عامٍّ هو مداواة الجنود والجرحى والعناية بهم، خصوصًا في العصر الأيوبي؛ إذ كان قسمًا كبيرًا منها أُسِّس إمَّا من مال الفدية وإمَّا من بيت المال.

ولا يُعرف إلَّا القليل عمَّا آلت إليه هذه البيمارستان فيما بعد، كما لا يُعرف إلَّا اليسير عن دقائق أمورها وأوقافها وأحوال القائمين عليها، وقد أصبح البيمارستان في العهد العثماني على ما يبدو مختصًّا بالأمراض العقليَّة دون سواها، على الرغم من أنَّ علم الطب ظلَّ مزدهرًا في فلسطين حتى القرن (الثاني عشر الهجري=الثامن عشر الميلادي) على الأقل.

___________________

المصادر والمراجع:

- ابن شداد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين الأيوبي)، تحقيق: الدكتور جمال الدين الشيال، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الثانية، 1415هـ=1994م.

- مجير الدين العليمي الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، النجف، 1968م.

- القفطي: تاريخ أخبار الحكماء، القاهرة، 1908م.

- أحمد عيسى: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، الناشر: دار الرائد العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الثانية، 1401هـ=1981م.

- مصطفى مراد الدباغ: بلادنا فلسطين، بيروت 1965–1976م.

- عارف العارف: المفضل في تاريخ القدس، مكتبة الأندلس - القدس، 1961م.

- أحمد سامح الخالدي: المعاهد المصرية في بيت المقدس، القدس 1946م.

من تاريخ الطب والصيدلة في المدينة المقدسة، موقع مؤسسة القدس للثقافة والتراث.

- البيمارستانات: الموسوعة الفلسطينية.

Dunlop D.M.: “Bimaristan”. Encyclopedia of Islam, New Edition.
د/راغب السرجاني
قصة الإسلام