يُعدُّ البيمارستان العضدي في بغداد واحدًا من أشهر المؤسَّسات العلاجيَّة التي أُنشئت في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، بل في العصور الوسطى، كما أنَّه أعظم إنجازات عضد الدولة البويهي؛ لما كان يتميَّز به من نظامٍ دقيقٍ وترتيبٍ غاية في الإحكام.

عضد الدولة بن بويه

هو أبو شجاع فنَّاخُسرو، الملقب عضد الدولة (324-372هـ=936-983م)، ابن الحسن الملقب رُكْن الدولة ابن بويه الديلميِّ البويهي، من أشهر حكام الدولة البويهية الشيعيَّة (320-447هـ=932-1055م) التي استولت على بغداد عاصمة الخلافة العباسية في زمن ضعفها وهزالها، استمرَّت أكثر من مائة عام، خضع لهم أثناءها خلفاء بني العباس، ولم يبقَ لهم من النفوذ والسلطان إلَّا بعض المظاهر الدينية كالدعاء لهم في الخطب، وكتابة أسمائهم على السكة، بينما استأثر البويهيون بالحكم وتلقَّبوا بألقاب الملوك والسلاطين.

آلت إلى عضد الدولة رئاسة البيت البويهي بعد وفاة والده ركن الدولة سنة (366هـ=976م)، وانفتح الباب أمامه لانتزاع العراق من ابن عمه بختيار، فزحف إليه، واشتعلت بينهما عدة معارك انتهت لصالح عضد الدولة، وتمكن من القبض على بختيار وقتله في سنة (367هـ=978م)، واستولى على ما تحت يديه، واستقرَّ في بغداد، وأصبحت عاصمة الخلافة عاصمة لبني بويه، وخُطب له على منابرها إلى جانب الخليفة العباسي.

وبعد ذلك شرع في مواصلة سياسة التوسُّع الإقليمي، فاستولى على الموصل وديار بكر وديار ربيعة وما حولها من الحمدانيين، وضمَّ الأقاليم الخاضعة لأخيه فخر الدولة بسبب وقوفه إلى جانب بختيار، فاستولى على همدان والري وما بينهما من البلاد، وبسط نفوذه إلى بلاد جرجان وطبرستان، فتعاظم بذلك نفوذ عضد الدولة وذاع صيته، وخلع عليه الخليفة الطائع العباسي ما لم يخلعه على غيره، وعقد له لواءين، ولقبه بالملك وبتاج الملك، وأمر أن يُخطب له على منابر بغداد، فكان أول من خطب له بعد الخلفاء، وأول من لُقِّب في الإسلام "شاهنشاه".

الإنجازات الحضارية

بلغت الدولة البويهيَّة شأنًا كبيرًا في عهد عضد الدولة البويهي، وشهدت إنجازات حضارية راقية على يديه، إلى جانب نجاحه في توحيد مناطق الدولة وجمعها تحت نفوذه، فبعد دخوله في بغداد بدأ في عمارتها وإعادة ما تهدَّم من مساجدها وأسواقها، وأقام الميادين، والمتنزَّهات، وأصلح الطريق بين مكة والعراق، وأقام سد السهيلة بالقرب من مدينة النهروان بالعراق، وأعاد حفر الأنهار التي اندثرت وهو ما أسهم في ازدهار الزراعة.

وكان عضد الدولة رافضيًّا شيعيًّا، قال الذهبي: "وكان بطلًا شجاعًا مهيبًا، نحويًّا، أديبًا، عالمًا، جبَّارًا، عسوفًا، شديد الوطأة... وكان شيعيًّا جلدًا أظهر بالنجف قبرًا زعم أنَّه قبر الإمام علي، وبنى عليه المشهد، وأقام شعار الرفض، ومأتم عاشوراء". ويذكر له أنَّه أمر بإخراج أموال الصدقات وتسليمها للقضاة والأعيان؛ لإعانة من يستحق من الفقراء وذوي الحاجات، وإعانة العاطلين الذين لا يجدون أعمالًا يقتاتون منها.

وشهدت الحياة العلميَّة في عهده ازدهارًا واسعًا؛ حيث قرب إليه العلماء، وأكرم وفادتهم، وأغدق عليهم العطاء، وأحاطهم بكل مظاهر التكريم والتبجيل، وكان مجلسه منتدى يجتمع فيه الفقهاء والمحدثون والنحاة، والأدباء والشعراء، والأطباء والمهندسون، تدور فيه المناقشات العلمية، وتطرح القضايا على مائدة البحث، يدلي كلٌّ منهم بما عنده، وكان عضد الدولة يشترك معهم في هذه المناقشات.

ومن أبرز من اتصلوا به: أبو علي الفارسي وهو واحدٌ من أكبر علماء العربية، ألَّف له كتاب "الإيضاح" و"التكملة" في النحو، وكان عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي في النحو، ومنهم -أيضًا- أبو إسحاق الصابي الذي ألَّف له كتاب "التاجي في أخبار بني بويه"، وعلي بن العباسي المجوسي الذي صنف "الكناش العضدي" في الطب، وأبو الحسن ابن عمر الرازي، وكان فلكيًّا كبيرًا صنع لعضد الدولة كرةً كبيرة تُمثِّل السماء بما فيها من نجومٍ وكواكب.

وكان عضد الدولة يُحبُّ الشعر ويتذوَّقه، ويغمر الشعراء بكريم عطاياه، فقصدوا بلاطه، ويأتي في مقدمتهم أبو الطيب المتنبي الذي خصَّه بمدائح عظيمة، وأبو الحسن السلامي أبرز شعراء العراق في ذلك الوقت، وكان عضد الدولة يقول عنه: "إذا رأيت السلامي في مجلسي، ظننت أنَّ عطارد قد نزل من الفلك إليَّ ووقف بين يدي".

ولم تطل الحياة بعضد الدولة بعد أن قام بتلك الأعمال بعد توحيده العراق وفارس تحت حكمه وازداد نفوذه، فتوفي بداء الصرع في بغداد في (8 من شوال 372هـ=26 من مارس 983م) عن ثمانية وأربعين عامًا.

البيمارستان العضدي

غير أنَّ أعظم إنجازات عضد الدولة البويهي إنشاؤه لبيمارستان كبير نُسب إليه، فعُرِفَ باسم البيمارستان العضدي، يقع هذا البيمارستان على طرف الجسر من الجانب الغربي من مدينة بغداد، وكان قد فرغ من بنائه عام (368هـ=978م)، وفتحه في يوم الخميس لثلاث خلون من صفر وقيل بل لليلة خلت من ربيع الآخر عام (372هـ=983م).

وزوده عضد الدولة بما يحتاج إليه من الأطباء والممرضين والخدم والطباخين والأدوات، ونقل إليه من الأدوية والأشربة والعقاقير شيئًا كثيرًا ومن كلِّ ما يحتاج إليه، كما رتب فيه الأطباء والخدم والوكلاء والخُزَّان، وألحق به بيمارستانًا للمجانين، وكان يعمل به ما يزيد عن ستين طبيبًا في مختلف الاختصاصات، كما استقدم بعضهم عضد الدولة للعمل في البيمارستان من أماكن مختلفة، ومن هؤلاء الأطباء: جبرائيل بن عبيد الله بختيشوع، وأبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة، وكان يتولى رئاسة الأطباء في البيمارستان.

ترتيبات وأنظمة المارستان العضدي

ويُعدُّ البيمارستان العضدي واحدًا من أشهر المؤسسات العلاجية التي أُنشئت في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، وكانت -كغيره من البيمارستانات الإسلامية- يسير وفق نظامٍ دقيقٍ وترتيبٍ غاية في الإحكام؛ فكان ينقسم إلى قسمين منفصلين، أحدهما للذكور والآخر للإناث، ويضمُّ كلُّ قسمٍ قاعات فسيحة لمختلف التخصصات الطبية؛ كالأمراض الباطنية، والجراحة، والكحال (الرمد)، والتجبير (العظام).

ولكلِّ قسمٍ من هذه الأقسام مجموعةٌ من الأطباء الاختصاصيِّين في مختلف فروع الطب يتناوبون العمل فيما بينهم، ويقوم على كلِّ طائفةٍ منهم رئيسٌ لإدارتها وتفقُّد أحوال المرضى، ويُعاون الأطباء مساعدون من الممرضين والمشرفين والخدم يقومون على خدمة المرضى وتقديم الطعام والعلاج لهم.

وللمستشفى مديرٌ عامٌّ يُسمَّى (ساعور)، ولكلِّ قسمٍ من أقسامه رئيس، وهنالك رئيسٌ للأمراض، ورئيسٌ للجراحة، ورئيسٌ للكحالين، ورئيسٌ للرجال، ورئيسٌ للنساء الذين تمَّ إعدادهم لخدمة المرضى، ومن الوظائف الكبيرة في هذا المستشفى وظيفة رئيس الأطباء ورئيس الجراحين ورئيس الكحالين، وكانت تُعقد حلقات علمٍ بالمستشفى لتعليم مهنة الطب.

وإلى جانب هذا النظام الداخلي لعلاج المرضى كان يوجد عيادات خارجيَّة تقوم على خدمة المرضى وعلاجهم ممَّا لا تحتاج حالتهم إلى استبقائهم داخل البيمارستان، وهي الصيدلية التي تُسمَّى "خزان الشراب"، ولها رئيسٌ يسمى "شيخ صيدلي البيمرستان"، فكان الطبيب يجلس على دكة يكتب لمن يرد عليه من المرضى أوراقًا يعتمدون عليها، ويأخذون بها الأدوية والأشربة من صيدلية البيمارستان ليُتابع العلاج في بيته، وهي تعدُّ جزءًا مهمًّا من مرافق البيمارستانات يقوم عليها الصيادلة، وتحتوي على أنواع مختلفة من الأدوية والأشربة والمعاجين.

وكانت هنالك ملاحق في البيمارستان العضدي كدار المجانين المغلوبين على عقولهم، وفي المستشفى مساكن كثيرة ومخازن للأغذية والدواء، وكان للمستشفى نظامٌ خاصٌّ في معالجة المرضى وإعطائهم الدواء والغذاء، وكان الأطباء يتفقَّدون مرضاهم كلَّ يوم اثنين وكلَّ يوم خميس، ويُطالعون أحوالهم ويُرتِّبون لهم ما يحتاجون إليه.

الإشراف الطبي

كان الإشراف الطبي في البيمارستان العضدي من صلاحية رئيس الأطباء فقط، الذي كان يتم اختياره من خلال امتحانٍ يحضره مائة منافسٍ له ليُبيِّن أنَّه أمهرهم في مجاله، وبعد تسلُّمه لمنصبه يكون له فريقٌ من الأطباء يُجاوز عددهم الأربعة والعشرين، منهم المختصُّ بالأمراض الداخليَّة، ومنهم بالأمراض العصبيَّة، ومنهم الجرَّاحون البارعون، ومنهم المتضلِّعون في أمراض المفاصل والعظم، ومنهم أطباء العيون، وكان كلُّ واحدٍ منهم يتسلَّم إدارة قسمٍ ما مدَّةً من الزمن، ثم يتركه لزميله في الاختصاص وهكذا.

الرعاية الطبية في المستشفى العضدي

لقد كانت الرعاية الطبية في المستشفى العضدي حقًّا للجميع على حدٍّ سواء، وكان المرضى يُفحصون بعنايةٍ كبيرة، وتُدوَّن أسماؤهم في سجلاتٍ خاصَّةٍ لمعرفة سير المرض فيهم ومتابعته يومًا بعد يوم، وكان يُقدَّم لهم الغذاء والدواء مجانًا، ويظلُّون تحت الرعاية حتى الشفاء التام، وعند المغادرة يُصرف لكلِّ واحدٍ منهم ثوبٌ وبعض المال ليقوم بنفقاتهم الضروريَّة في فترة النقاهة، كما توافرت كلُّ أسباب الرفاهية في هذا البيمارستان من أسِرَّةٍ وثيرةٍ ناعمة إلى حمَّاماتٍ فاخرة، بالإضافة إلى قاعات مخصَّصة للمكتبات.

وقد كان هناك اهتمامًا كبيرًا بصحَّة المكان، من حيث الحرارة والرياح والرطوبة، وإنارة البيمارستان ومدى الحرارة فيها، ونقاوة هوائها وطهارة مائها وعن إمكانيات الاغتسال به. وكان هناك حرصٌ دائمٌ على إنزال المرضى في أنسب الأمكنة موقعًا وهواءً وصحةً ونظافةً، فكان يُشدد على النظافة دومًا وتغيير هواء الغرف بشكلٍ متواصل، وكان الناس في بعض الأحوال يتمارضون ليحظوا بدخول البيمارستان والتنعُّم بما فيها، وكان الأطباء المناوبون يغضُّون الطرف عن هذا التحايل أحيانًا إذا كان هناك متَّسع.

التعليم الطبي في البيمارستان العضدي

كان التعليم في البيمارستان العضدي يعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على التعليم السريري الذي يتضمَّن تشخيص المرض، والتعرُّف على أعراضه، والمدواة، وكان الأستاذ يجلس أمامه الطلاب حيث يحتلُّ الصف الأول من حلقة الدرس تلامذته النابهون والمتقدِّمون في الدراسة، ويلي هذا الصف التلاميذ الذين دونهم في التحصيل أو القدم، ويكون في العادة أحد التلاميذ رئيسًا على الحلقة (كالمعيد)، ويبدأ الدرس العملي بمناقشة حالة المريض بين طلاب الصفِّ الأول، فإذا صعب عليهم أمرها دخل بينهم المعلم ليحلَّ لهم ما عسر عليهم فهمه، ولا زال هذا الأسلوب متَّبعًا حتى الآن بذات الترتيب: من طبيبٍ معاودٍ، إلى طبيبٍ مقيمٍ، إلى مدرِّسٍ، إلى أستاذ.

ولقد وصل التعليم السريري ذروته في التطبيق في أيام المماليك حتى صار قريبًا من أسلوب التدريس السريري في الوقت الحالي؛ فقد كان المعلم يمرُّ على المرضى في المستشفى ومن ورائه عددٌ من التلاميذ، حيث يستجوب المريض عن شكواه، ثم يفحص بدنه، ثم ينظر إلى قارورة بوله، وقارورة بُصاقه، وما إلى ذلك من شواهد المرض وعلاماته على المريض، وبعد المعاينة ينسحب المعلم إلى إيوانٍ خاصٍّ (كقاعة المحاضرات) فيجلس على دكَّةٍ فيه، ويقعد التلاميذ من حوله على بُسُطٍ مفروشة، ويبدأ المعلم يستعرض أمام تلاميذه ما يشكو منه المريض، والعلامات والأعراض المرضيَّة التي لاحظها عليه. ويربط بين هذه وبين شكواه، ويصل بالاستنتاج إلى تشخيص المرض، ثم يذكر طريقة معالجته، فإذا صعب على المعلم تشخيص المرض أو طريقة علاجه التقط كتابًا من الخزانة الملحقة بالإيوان، وقرأ ما فيه عن ذلك المرض، ويطول الدرس التطبيقي أو يقصر حسب عدد المرضى أو صعوبة الحالات المرضيَّة.

أطباء البيمارستان العضدي

خدم البيمارستان العضدي عددٌ كبيرٌ من مشاهير الطب في زمانهم، فخدم فيه من الطبائعيِّين: جبريل بن بختيشوع، وأبو الحسن علي بن كشكرايا، وأبو يعقوب الأهوازي، وأبو عيسى بقية، ونظيف النفس الرومي، ومن الكحَّالين الفضلاء: أبو النصر الدحني، ومن الجرائحيِّين: أبو الخير وأبو الحسن بن تفاح وجماعة، ومن المجبِّرين: أبو الصلت.

كما تعاقب على رئاسته أبو الحسن بن سنان بن ثابت بن قرة الصابي، وهارون بن صاعد بن هارون الصابي، والطبيب أبو نصر، وأبو الحسن علي بن هبة الله بن الحسن، وأمين الدولة ابن التلميذ، وجمال الدين بن أثردي، وابن المارستانية، وأبو علي ابن أبي الخير مسيحي ابن العطار النصراني.

وقد تعرَّض المستشفى العضدي لفيضان دجلة عام 569هـ فأُعيد بناؤه، وقد أشاد الرحالة ابن جبير بالبيمارستان العضدي حينما زار بغداد عام (580هـ=1184م)، ولا يُعرف بالضبط إلى أيِّ تاريخٍ استمرَّ هذا البيمارستان في خدماته، غير أنَّه يبدو أنَّه استمرَّت إلى أواخر القرن (السابع الهجري=الثالث عشر الميلادي)؛ حيث يذكر أحمد عيسى أنَّ آخر ساعور (مدير البيمارستان) كان يعمل فيه هو أبو علي بن الخير، الذي كان حيًّا عام (608هـ=1211م)، كما تولَّى شيخ معتزلة بغداد ابن أبي الحديد (586-656هـ=1190-1258م) إدارة هذا المستشفى، ويبدو أنَّه تعرَّض للدمار عقب دخول التتار إلى بغداد.

_________________

المصادر والمراجع:

- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر – بيروت، 1402هـ=1982م.

- ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر – بيروت، 1978م.

- ابن الفوطي: الكتاب: مجمع الآداب في معجم الألقاب، تحقيق: محمد الكاظم، الناشر: مؤسسة الطباعة والنشر- وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إيران، الطبعة: الأولى، 1416هـ.

- كمال السامرائي: مختصر تاريخ الطب العربي، دار النضال – بيروت، 1409هـ=1989م.

- أحمد عيسى، تاريخ البيمارستانات في الإسلام، دار الرائد العربي، بيروت 1981م.

- عبدالوهاب مصطفى ضاهر: البيمارستان العضدي، موقع شبكة الألوكة.

- أحمد تمام: البيمارستان العضدي .. رعاية فوق العادة، موقع شبكة إسلام أون لاين.

- طارق حرب: أول مستشفى في بغداد البيمارستان العضدي، جريدة الزوراء العراقية، أكتوبر 2016م.

قصة الإسلام