في عام 1972 اقترح عالم الحفريات البارز ستيفن جاي جولد وزميله نايلز إلدريدج فكرة حول الطريقة التي يعمل بها التطور، وهي الفكرة التي تسببت في نشأة جدال كبير في الأوساط العلمية، إلا أن النمذجة الجديدة التي كشف عنها مايكل لانديس وجوشوا شرايبر من جامعة تمبل في ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة، تضيف وزنًا إضافيًا كبيرًا لهذه الفكرة.
ما هي الفكرة؟
سعى جولد وإلدريدج إلى تفسير ما يسمى الثغرات في سجل الحفريات، ويقصد بها الأحافير المفقودة المفترضة التي تمثل المراحل الانتقالية بين الأنواع القديمة والأخرى الحديثة التي تطورت، وقد بنيت فكرة هذين العالمين على أن هذه الأحافير هي مجرد وهم وغير موجودة.
التطور، كما اقترحوا، لم يكن عملية تدريجية، تميزت ببطء تراكم الخصائص الجديدة، بل ذكروا أن «تاريخ التطور ليس واحدًا من الكشوفات المبجلة، ولكنه يمثل قصة توازنات مستمرة، لا تضطرب إلا نادرًا، عبر أحداث سريعة وعرضية تؤدي إلى نشأة نوع جديد.
حسنًا، ربما هذه الفكرة التي يعرفها العلم الآن باسم «نظرية التوازن النقطي» هي بحاجة إلى المزيد من التفصيل.
التوازن النقطي (الذي يطلق عليه أيضًا التوازنات المتقلبة) هو نظرية في علم الأحياء التطوري الذي يقترح أنه بمجرد ظهور الأنواع في السجل الأحفوري فإنها تصبح مستقرة، مما يدل على حدوث تغير تطوري طفيف لمعظم تاريخها الجيولوجي، وتسمى هذه الحالة «ركود»، وعندما يحدث تغير تطوري كبير، تقترح النظرية أنه يقتصر عمومًا إلى أحداث جيولوجية سريعة ونادرة تكون الأنواع الفرعية، والتي تدعى « كلادوجينيسيس –cladogenesis».
وتعد كلادوجينيسيس هي العملية التي ينقسم بها نوع إلى نوعين مختلفين، بدلًا عن نوع واحد يتحول تدريجيًا إلى نوع آخر.
وبشكل مختصر يمكن القول أن هذه النظرية تفترض أن التطور يشمل فترات طويلة من التوازن، أو شبه التوازن، ووصف «منقطة» أي تتخللها فترات قصيرة من التغييرات الهامة كظهور أنواع جديدة أو انقراض أخرى.
وعادة ما يتناقض التوازن المنقط مع «phyletic gradualism»، وهي الفكرة التي تقول إن التطور عمومًا يحدث بشكل موحد والتحول يكون مطرد وتدريجي. في هذا الرأي، ينظر إلى التطور على أنه سلس بشكل عام ومستمر.
في عام 1972، نشر علماء الحفريات نايلز إلدريدج وستيفن جاي جولد ورقة تاريخية لتطوير نظريتهما، وأطلقا عليها التوازنات المنقطة، واقترح إلدريدج وجولد أن درجة التدرج التي تعزى عادة إلى تشارلز داروين غير موجودة تقريبًا في السجل الأحفوري، وأن الركود يهيمن على تاريخ معظم الأنواع الأحفورية.
مبدآن هامان
وهناك مبدآن هامان يدعمان تفسير جولد وإلدريج لنظرية التوازنات المنقطة.
الأول هو أنه بمجرد تطور الأنواع، تميل إلى البقاء إلى حد كبير على ما هي عليه حتى تبدأ مرحلة الانقراض، والثاني هو أنه عندما يصبح جزءًا من هذه الأنواع معزولًا عن البقية، وبالتالي يقع تحت ضغط عملية اختيار جديد، فإذا ما كان هذا الجزء من الأنواع على وشك أن يتطور إلى شيء جديد فإنها ستفعل ذلك بسرعة كبيرة (على الأقل، على النطاق الجيولوجي).
وكتب العالمان في نظريتهما «إذا نشأت أنواع جديدة بسرعة كبيرة في المجتمعات المحلية الصغيرة المعزولة محيطيًا، بالتالي فإن التوقع الكبير من التسلسل الأحفوري المتدرج – بشكل غير معقول – هو كيميرا». ويقصد بالكيميرا كائن واحد يتكون من خلايا من ملقحات مختلفة. هذا يمكن أن يؤدي إلى وجود الأجهزة التناسلية للذكور والإناث، أو وجود نوعين من الدم، أو الاختلافات الدقيقة في الشكل، أي أننا لو افترضنا حدوث تطور سريع طبقًا للتدرج المعتاد في السجل الأحفوري فإننا نتجه نحو تكون كائن هجين، وهو ما لا يحدث.
وقد هوجمت النظرية من قبل بعض الأصوات البارزة الأخرى في الميدان، وقال ريتشارد دوكينز في كتابه «The Blind Watchmaker» إن التوازن المنقط هو فكرة «لا تستحق قدرًا كبيرًا من الدعاية»، وانتقد الفيلسوف دانيال دينيت أيضًا، في كتابه « Darwin’s Dangerous Idea»، رأي جاي جولد.
وبالرغم من أن جولد توفى عام 2002، ودينيت يبلغ من العمر الآن 75 عامًا، فإن المناقشة حول هذه النظرية لا تزال بعيدة جدًا عن الهدوء والاستقرار.
بعد 35 سنة.. دعم جديد للنظرية
ومع ذلك، فإن لانديس وشرايبر، عبر نشرهم لمقالة بحثية جديدة، أعادا الجدال مرة أخرى لصالح تكون الأنواع باعتباره عملية سريعة نسبيًا، بدلًا عن عملية تدريجية.
وقد خدم عنوان ورقتهم البحثية أيضًا هذا الاستنتاج أو النظرية الجديدة: «التطور المنقط يشكل تنوع الفقاريات الحديثة». وقد شيد الباحثان نموذجًا رياضيًا يقوم على توزيع الاحتمالات العشوائية ويتغذى على مجموعات بيانات مستمدة من الخصائص المورفولوجية (الشكلية) لحوالي 50 من فصائل الحيوانات (التي ترتبط وراثيًا) والتي تغطي الثدييات والطيور والزواحف والأسماك والبرمائيات.
النتائج التي جرى تركيبها بشكل أفضل ضمن إطار من التطور المنقط، مع فترات طويلة من الركود – متوسط حوالي 10 مليون سنة – بين «عمليات القفز» الخاصة بالتطورات الفجائية التي استمرت ما لا يقل عن 100 جيل.
جميع البيانات المستخدمة تتعلق بالأنواع الحديثة. ويشير لانديس وشرايبر إلى أن العمل المستقبلي الذي يدمج عملهما مع ركيزة البحوث التطورية للحفريات التي بدأها جولد وإلدريدج سوف يلقيان أدلة أكثر تفصيلًا حول كيفية ارتباط طفرات التطور والتطور السريع.
بين التوازن النقطي وداروين
وقد لوحظ منذ زمن طويل عملية الظهور المفاجئ لمعظم الأنواع في السجل الجيولوجي، وعدم وجود أدلة على حدوث تغير تدريجي كبير في معظم الأنواع – منذ ظهورها الأولي حتى انقراضها. حتى تشارلز داروين، صاحب نظرية التطور الشهيرة، استعان بفكرة النقص في السجل الأحفوري كتفسير مفضل بين العلماء.
عند تقديم أفكار داروين في مقابل التأثيرات السائدة من الكوارث والخلق المتسارع، التي تصور أن الأنواع يجري إنشاؤها بشكل خارق على فترات، داروين بحاجة إلى التأكيد بقوة على الطبيعة التدريجية للتطور وفقًا للتدرجية التي يروج لها صديقه العالم تشارلز ليل. وأعرب بشكل خاص عن قلقه، مشيرًا في هامش مقالته عام 1844، «من الأفضل أن تبدأ بهذا: إذا كانت الأنواع حقًا، بعد الكوارث، خلقت في أشكال متفرقة في جميع أنحاء العالم، فإن نظريتي غير صحيحة».
وكثيرًا ما يفترض بشكل غير صحيح أنه أصر على أن معدل التغيير يجب أن يكون ثابتًا، أو ثابتًا تقريبيًا، ولكن حتى الطبعة الأولى من كتابه «أصل الأنواع» تنص على أن «الأنواع من الأجناس والطبقات المختلفة لم تتغير بنفس المعدل، أو في نفس الدرجة. في أقدم الأسر في الكائنات الحية يمكن العثور على عدد قليل من الأصداف الحية في وسط العديد من الأشكال المنقرضة».
وفي الطبعة الرابعة (عام 1866) من أصل الأنواع كتب داروين أن «الفترات التي خضعت خلالها الأنواع للتعديل، على الرغم من أنها مقاسة بالسنوات، ربما كانت قصيرة بالمقارنة مع الفترات التي يحتفظون فيها بنفس الشكل».
من هنا يتضح لنا أن نظرية التوازن النقطي بشكل عامتتفق مع مفهوم داروين للتطور.
ووفقًا للنسخ المبكرة من التوازن المنقط، تعتبر الأنواع المعزولة جانبيًا ذات أهمية حاسمة بالنسبة للأنواع، ومع ذلك، كتب داروين: «لا يمكنني بأية حال من الأحوال الموافقة على أن الهجرة والعزلة هي عناصر ضرورية، على الرغم من أن العزلة ذات أهمية كبيرة في إنتاج أنواع جديدة. أنا أميل إلى الاعتقاد بأن سعة حجم المنطقة لا تزال أكثر أهمية، وخاصة لإنتاج الأنواع التي سوف تثبت أنها قادرة على التحمل لفترة طويلة، وتنتشر على نطاق واسع».
وقد لعبت أهمية الانعزال في تكوين الأنواع دورًا كبيرًا في التفكير المبكر لداروين، كما هو مبين في مقالته لعام 1844. ولكن بحلول الوقت الذي كتب فيه كتابه، كان قد قلل من أهميته، وهكذا يتناقض التوازن المنقط مع بعض أفكار داروين فيما يتعلق بآليات التطور المحددة، ولكنه يتفق عمومًا مع نظرية داروين للتطور عن طريق الانتقاء الطبيعي.