البيمارستانات جميعها كانت ولا زالت تحظى باهتمام الباحثين في تاريخ الطب وعلماء الآثار، وأصبح كثيرٌ منها متاحف ومزارات للسائحين، وهناك الكثير من البيمارستانات الهامَّة والشهيرة الأخرى في هذه البلاد وفي أغلب الحواضر والمدن الإسلامية الأخرى، وقد عرفت فلسطين بيمارستانات القدس وعكا وصفد وغزة والرملة ونابلس، التي أُنشئت في عهود مختلفة.
وعلى الرغم من ضياع الكثير من المخطوطات والمراجع إلا أنَّ ما توفَّر منها يُشير إلى أنَّ أول بيمارستان عرفته القدس كان بيمارستان الوليد بن عبد الملك عام (88هـ=707م)، وقد اشتهر فيما بعد البيمارستان العبيدي الفاطمي الذي أُنشئ فيما يبدو حوالي سنة (400هـ=1009م)، ثم بيمارستان القدس الصلاحي سنة (583هـ=1187م) نسبةً إلى صلاح الدين الأيوبي، الذي كان من أكبر وأشهر البيمارستانات في زمانه، وقد أسَّس صلاح الدين كذلك بيمارستان عكَّا.
تاريخ وموقع بناء بيمارستان القدس
البيمارستان الصلاحي هو واحدٌ من عدَّة مؤسَّسات علميَّة وخيريَّة أنشأها صلاح الدين الأيوبي في الديار المقدَّسة؛ فقد رحل السلطان صلاح الدين إلى القدس في اليوم الرابع عشر من شهر رمضان سنة (583هـ=1187م) بعد تحريرها في معركة حطين، وأمر بتشييد أسوار المدينة، وزاد في وقف المدرسة التي عملها بالقدس، وهذه المدرسة كانت قبل الإسلام تُعرف بـ "صند حنه"، ويذكرون أنَّ بها قبر جنَّة أم مريم عليها السلام، ثم صارت في الإسلام دار علمٍ قبل أن يملك الصليبيون القدس، ثم لمـَّا ملك الإفرنج القدس سنة (492هـ=1099م) أعادوها كنيسةً كما كانت قبل الإسلام.
ولمـَّا فتح السلطان صلاح الدين القدس أعادها مدرسةً وفوَّض تدريسها إلى القاضي بهاء الدين بن شدَّاد، وأمر ببناء مارستانًا في الحيِّ المعروف الآن بالدباغة على مسافة من كنيسة القيامة، وكان فيما مضى يشمل المكان المعروف بسوق البازار والبقعة الكائنة في شماله، وشطرًا من الأرض التي تقوم عليها كنيسة الدباغة، وشطرًا من الأرض التي تقوم عليها سوق أفتيموس للروم الأرثوذكس؛ أي في هذه المواقع المعروفة بهذه الأسماء في الوقت الحالي.
ويجب الإشارة إلى أنَّ أرض البيمارستان قد اشتملت على الأرض التي أُقيمت عليها لاحقًا كنيسة الفادي الإنجيليَّة اللوثريَّة "Redeemer" في عام 1898م، وهي ربَّما الكنيسة التي قصدها عارف العارف في كتابه "المفصل في تاريخ القدس" بقوله: "كنيسة سوق الدباغة". وقد أُنشئ سوق أفتيموس من قِبَلِ بطريركية الروم الأورثوذوكس في عام 1903م في الشطر الغربي من أرض البيمارستان.
وجاء في كتاب أحمد عيسى "تاريخ البيمارستانات في الاسلام": أنَّ السلطان صلاح الدين -عندما فتح القدس- أمر بأن تُجعل الكنيسة المجاورة لدار الاسبتار بيمارستانًا للمرضى، ووقف عليها مواضع، وزوَّدها بالأدوية والعقاقير الغزيرة، وفوَّض القضاء والنظر في هذه الوقوف إلى القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع أبي تميم (اشتهر بابن شداد، وشدَّاد هو جده لأمِّه وقد عُرف بعلمه وكفاءته). وقال النويري: "قد عزم السلطان صلاح الدين على الحج ثم عاد إلى القدس ورتَّب أحواله، وعيَّن الكنيسة التي في شارع قمامة البيمارستان، ونقل إليه العقاقير والأدوية".
وأشار ابن القفطي إلى بيمارستان القدس بقوله: "إنَّ يعقوب ابن صقلان النصراني أقام على حالته بالقدس في مباشرة البيمارستان إلى أن ملكه المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر أبن أيوب سنة 615هـ".
وقد خصَّص صلاح الدين الأوقاف والأموال لدعم البيمارستان، واستحدث وظيفة ناظر البيمارستان تحت صلاحية القاضي، وعيَّن لذلك القاضي بهاء الدين ابن شداد؛ لمتابعة الشئون المالية الخاصَّة بهذه الأوقاف، وأمر صلاح الدين أن تُصرف الأدوية والعقاقير بهذا البيمارستان للمرضى بالمجان؛ جاء في كتاب "سيرة صلاح الدين" لابن شداد ما يلي: "وأمرني السلطان بالمقام في القدس الشريف لعمارة بيمارستان أنشأه فيه، وإدارة المدرسة التي أنشأها فيه إلى حين عوده، وسار من القدس الشريف ضحوة نهار الخميس في (سادس شوال 588هـ=15 أكتوبر 1192م)".
وقد استمرَّ الاهتمام بالبيمارستان من قِبَل الحكَّام الأيوبيين، الذين استلموا الحكم بعد صلاح الدين؛ فقد عُرف اهتمام الأيوبيين بصفةٍ عامَّةٍ وصلاح الدين بصفةٍ خاصَّة ببناء البيمارستانات والمدارس، وتكريم العلماء والأطباء، كما تظهر آثار الأيوبيين والمخطوطات القديمة.
وصف البيمارستان الصلاحي
وممَّا ذُكر في وصف البيمارستان الصلاحي بالقدس أنَّه كان يتكوَّن من مجموعة دعامات حجرية تعلوها عقود، وقد قسمت مساحته إلى عددٍ من القاعات المغطاة بسقوفٍ ذات أقبيةٍ متقاطعةٍ وسقوفٍ برميلية، وكانت كلُّ قاعةٍ من تلك القاعات مخصَّصةٌ لأمراضٍ مختلفة، على نحو ما هو مألوفٌ في بيمارستانات ذلك العصر.
أشهر أطباء بيمارستان القدس الصلاحي
ذاع صيت هذا البيمارستان في عهد صلاح الدين وفي العهود التي تلته؛ إذ كان يُداوي الجرحى والمرضى من الجنود والأهلين، ويُوزِّع الأدوية والعقاقير على الناس بلا مقابل، ومن أشهر الأطباء الذين عملوا في المارستان الصلاحي بالقدس:
1- يعقوب بن صقلان: (أو سقلان أو سقلاب) النصراني المقدسي المشرقي الملكي، مولده بالقدس الشريف، قرأ الحكمة والطب، وأقام بالقدس في مباشرة البيمارستان إلى أن ملكه الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل فنقله إلى دمشق، فاختصَّ به وارتفعت عنده حاله، وأدركه نقرس ووجع مفاصل فأقعده عن الحركة، حتى قيل: إنَّ الملك المعظَّم إذا احتاج إليه في أمر مرضه استدعاه في محفَّةٍ تُحمل بين الرجال، وبقي في دمشق إلى أن تُوفِّي فيها في حدود سنة 626هـ.
2- رشيد الدين الصوري: هو أبو المنصور بن أبي الفضل بن علي الصوري، كان أوحد زمانه في معرفة الأدوية المفردة وماهيَّاتها، واختلاف أسمائها وصفاتها، وتحقيق خواصها، ذكره ابن أبي أصيبعة في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" وعدَّد مناقبه.
وُلِدَ الصوري في مدينة صور في سنة 573هـ، ونشأ فيها ثم انتقل عنها، وقد اشتغل بصناعة الطب على يد الشيخين؛ موفَّق الدين بن عبد العزيز، وموفق الدين بن عبد اللطيف بن يوسف البغدادي. وتميَّز في الطب، وقد عَمِلَ في بيمارستان القدس لسنتين، وصحب الشيخ الورع أبا العباس الجياني الذي كان ملمًّا بالأدوية المفردة ومتقنًا لعلومٍ أخرى، وتعلَّم منه رشيد الدين الصوري خصائص الأدوية المفردة، وانتفع منه كثيرًا وتفوَّق على كثيرٍ من أربابه، وعندما كان الملك العادل أبو بكر بن أيوب متوجِّهًا إلى الديار المصرية اصطحبه معه من القدس وبقي في خدمته هناك، وخدم بعده الملك المعظَّم عيسى بن أبي بكر، والملك الناصر داود بن الملك المعظَّم الذي فوَّض إليه رياسة الطب، وعندما توجَّه الملك الناصر إلى الكرك أقام رشيد الدين الصوري في دمشق، وكان له فيها مجلسٌ للطب، والجماعة يتردَّدون إليه ويشتغلون بالصناعة عليه، وبقي في دمشق إلى أن تُوفِّي يوم الأحد أول شهر رجب سنة 639هـ=1242م.
3- ومن الأطباء الذين عرفتهم القدس في فترة حكم الأيوبيين، تسعة أطباء من عائلة الطبيب المعروف "أبو سليمان داود بن أبي المنى بن أبي فانة المقدسي النصراني"، الذي كان له خمسة آباء، احترف أربعة منهم صناعة الطب.
4- ومن أطباء القدس -أيضًا- الطبيب البغدادي "أبومحمد بن يوسف البغدادي": الذي عاش في القدس فترة من الزمن (1162–1232هـ)، وكانت له حلقة تدريسٍ في المسجد الأقصى استمرَّت زهاء عشر سنين، وكانت له الكثير من المؤلَّفات الطبيَّة.
5- ومنهم كذلك الطبيب "فتح الدين أبو العباس أحمد بن عثمان بن هبة الله المقدسي": الذي وُلِد وترعرع قي القدس في عهد السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، ثم قصد دمشق وانتقل منها إلى مصر وقد أصبح رئيسًا للأطباء في عصره، وله كتابٌ في أمراض العيون وعلاجها "نتيجة الفكر في علاج أمراض البصر".
6- ومن أطباء العهد الأيوبي في القدس كذلك "الطبيب المارديني": وقد وُلد في ماردين ولكن أصله من القدس، واسمه فخر الدين محمد بن عبد السلام بن عبد الرحمن المقدسي الأنصاري، وهو طبيب غازي بن صلاح الدين.
7- ومن الأطباء المقدسيين في العهد الأيوبي -أيضًا- الطبيب "رشيد الدين أبو سعيد بن موفق الدين يعقوب": وهو من نصارى القدس، وله كتاب "عيون الطب".
أحوال البيمارستان التاريخية
استمرَّ البيمارستان الصلاحي في القدس بتقديم خدماته الطبية طيلة الفترة العثمانية الأولى (1516-1831م)، للمقدسيِّين وغيرهم من الحجَّاج والزائرين، عاش البيمارستان الصلاحي فترة قياسية في عمر أيَّة مؤسَّسةٍ صحيَّةٍ في البلاد العربية، ومع نهاية القرن (الثاني عشر الهجري=الثامن عشر الميلادي) توقَّف عن تقديم خدماته.
يُشير بعض المؤرِّخين إلى أنَّ هذا البيمارستان لم يُعمَّر طويلًا، وأنَّه اندثر نهائيًّا في الزلزال الذي حدث عام (863هـ=1458م)، لكن عارف العارف استنادًا إلى سجلات المحكمة الشرعية بالقدس يجزم أنَّه استمرَّ حتى القرن (الثاني عشر الميلادي=الثامن عشر الميلادي)؛ فقد ذكر عارف العارف في كتابه "المفصل في تاريخ القدس" أنَّ الأستاذ رئيف الساعاتي قال: "إنَّ هذا البيمارستان انْهارَ كغيره من المباني مع الأيام، وإنَّ الزلزال الذي حدث عام (1458م=863هـ) أتى على البقية الباقية من أنقاضه، ولعلَّه يقصد البناء الأصلي الذي شيَّده صلاح الدين؛ إذ إنَّ السجلات التي عثرنا عليها في المحكمة الشرعية بالقدس تدلُّ على أنَّه كانت هناك في أواسط القرن الثامن عشر مؤسَّسةٌ تُعرف بـ "المارستان الصلاحي"، حتى إنَّ القاضي عيَّنَ "زينَ بن إمام قلعة البرك" في وظيفة خدمة المرضى والمجانين بالمارستان الصلاحي؛ عوضًا عن حجازي بن العجمية لوفاته، وقد أمره بتقوى الله في عمله، وبالاستنابة عند الحاجة، وفي سنة (1167هـ=1753م) كان متولِّي وقف البيمارستان الصلاحي محمد بن نجم الدين أفندي العلمي".
وذكر أحمد عيسى في كتابه "تاريخ البيمارستانات في الإسلام" أنَّ الأستاذ العالم عادل جبر بك مدير المتحف الإسلامي ودار الكتب بالقدس الشريف، كتب إليه عن هذا بيمارستان القدس، فقال: "إنَّ بالقدس حارةً تُسمَّى الدباغة، والمشهور المتداول على ألسنة الناس أنَّ البيمارستان الصلاحي كان في هذه الجهة، ثم أدركه الخراب كما أدرك غيره من الآثار، ثم حدثت زلزلة في سنة (863هـ=1458م) فجعلته أثرًا بعد عين، فعفيت آثاره واختلست أرضه، وتصرَّف فيه الحكام وغيرهم من الناس بالبيع والهبة، فوهب السلطان عبد الحميد قسمًا من خراباته إلى الدولة الألمانية لمناسبة زيارة ولي عهدها للقدس الشريف سنة 1896م، فبنى فيه الألمان كنيسةً افتتحها الإمبراطور غليوم الثاني سنة 1898م، وقال: إنَّهم عثروا في خراباته على حجارة مكتوبة ناطقة باسم صلاح الدين وخلفائه من بعده".
___________________
المصادر والمراجع:
- ابن شداد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين الأيوبي)، تحقيق: الدكتور جمال الدين الشيال، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الثانية، 1415هـ=1994م.
- مجير الدين العليمي الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، النجف، 1968م.
- عارف العارف، المفصل في تاريخ القدس، القدس: مكتبة الأندلس - القدس، 1961م.
- أحمد عيسى: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، الناشر: دار الرائد العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الثانية، 1401هـ=1981م.
- رائف يوسف نجم وآخرون، كنوز القدس، عمان: مؤسسة آل البيت، ط1، 1983م.
- مدونة "بيمارستان القدس" على الإنترنت.
قصة الإسلام