عُرف عن آبائنا وأجدادنا اهتمامهم بالأمثال، وهي دليل البلاغة والفصاحة، فكما يقال: (البلاغة في الإيجاز)، وعندما نحسن توظيفها تزداد جمالًا، وتزداد بلاغة المتكلم، فمن البلاغة أن يكون لكل مقام مقال، واليوم سأقص عليكم أقصوصة أوظّف فيها بعض الأمثال الشعبية، التي عُرفت عند العامة، وجرت على ألسنتهم.قصة أم العزتبدأ أحداث القصة في بيت أم العز، فأم العز امرأة لا يؤمن شرها، وكما يقول المثل: (جوابها على رأس لسانها)، ولا يستطيع أحد أيًا كان أن يجاريها في الحديث، وهذا ما جعلها منبوذة في الحي، ومن يرها يتحاشَ الحديث معها.
وكما يقول المثل: (لسانها بسبع شطلات) يعني وكأن لسانها أطول من ألسنة بقية البشر لكثرة ثرثرتها، وسلاطة لسانها، فلم تسلم منها جارة ولا كَنَّة ولا ابنة.
أما قصتها مع جارتها فتحتاج إلى مسلسل بمئة وسبعين حلقة؛ ففي كل يوم مشكلة، وأصواتهم دائمًا مرتفعة.
تبدأ نهارها بالصراخ بأعلى صوتها كي تيقظ بناتها، فتقول: “استيقظي يا مريم، استيقظي يا عبير، ألم تتعبوا من كثرة النوم، هل صرتم مثل بعض الناس الأكابر لا تستيقظوا حتى تنتصف الشمس في وسط السماء؟
وكالعادة تخرج البنات من الغرفة وتقول (باستنكار): نحن مستيقظات يا أمي منذ الساعة السابعة فجرًا، لماذا تناديننا؟ فتقول: اسكتي يا بنت، كما يقول المثل: (الحكي إلك يا كنة لتسمعي يا جارة).
فتطل الجارة عليها، وتقول: هل تقصدينني؟
فترد عليها أم العز: يقول المثل (يلي فيه مسلة تنغزه) لو لم تكوني كذلك لما اعتبرت هذا الكلام موجه لك.
فتقول الجارة: ما بالك منذ الصباح؟ دائمًا عندك مزاج للمشاكل؟! ارحمي نفسك وارحمينا، صحيح المثل الذي يقول: (الجار قبل الدار) وفعلًا أخطأنا عندما اشترينا هذا المنزل.
أم العز: ماذا تقصدي؟ هل تقصدين أننا جيران سوء.
الجارة: لا أقصد شيء، ولكن أتمنى أن تعتقينا لوجه الله تعالى، يقول المثل: (يا جاري أنت بحالك وأنا بحالي).
أم العز: من كلمك أصلًا؟ أنت التي شاركتنا الحديث فجأة، وتدخلت بيني وبين بناتي مثل (حمصة الكي).
الجارة: أنا حمصة الكي؟ أم أنت التي (لابسة وجهك بالمقلوب).
أم العز: من أفعالك الجميلة
الجارة: أي أفعال؟
أم العز: لماذا تتكلمين عني أمام الجيران، ألا تعلمي المثل الذي يقول (الجار جار ولو جار).
الجارة: من حزني على كنّتك المظلومة، أعانها الله وصبرها على تحمل طباعك، يقول المثل: (الكنّة بدها كنّة “يعني مداراة”)، رحم الله أجدادك الذين قالوا: (الواعة الكبيرة تتسع الواعة الصغيرة) يعني لا ينبغي أن تجوري عليها، وإلا ستترك أولادها وتهج من تصرفاتك.
أم العز: وما شأنك أنت؟ هل اشتكت لك؟ والله كنتي مثل ما يقول المثل: (فضيحة وإلها ريحة)، ولا أستبعد أن تثرثر بأسرارنا لك، يقول المثل: (من يفضح الوزير؟ الكنة والأجير).
الجارة: أيّة أسرار؟ أسراركم كلها عندي بسبب أصواتكم المرتفعة دومًا.
أم العز: حسبي الله ونعم الوكيل من هذه الكنة، (قدها قد الفارة وصوتها ملأ الحارة).
الحلقة الثانية من مسلسل النكد الطويل
وفي هذه الأثناء تبدأ الحلقة الثانية من مسلسل النكد الطويل.
تدخل الكنة إلى الغرفة، وهي تفرك عينيها وتقول: صباح الخير يا جماعة.
أم العز (تقول بتهكم): (مكتوب على ورق الخيار يلي بدو يسهر بالليل بدو ينام بالنهار) لا صبحك الله بخير، من أين يأتي الخير، وأنا عندي كنة مثلك، ولكن ابني المعتوه أحبك، كما يقول المثل: (كل قمحة مسوسة لها كيال أعور).
الكنة: ما بالك اليوم غاضبة، الآن استيقظت، ولم أفعل شيء يضايقك مني.
أم العز: غاضبة من أفعالك الحميدة، ألم أقل لك لا تثرثري بأسرارنا لأحد.
الكنة: أقسم لك لم أفتح فمي بكلمة.
أم العز: يقول المثل: “قالوا للحرامي احلف قال لهم جاء الفرج”.
الكنة: أنا لا أحلف، فهذا أمر لا يستحق أن أحلف لأجله، سأعد الفطور.
الحماة: تريدين أن تأكلي؟ (إذا قالوا لها قومي اشتغلي تقول لهم مريضة وإذا قالوا لها قومي كلي تقول أين ملعقتي العريضة).
الكنة: والله يا حماتي أعرف المثل الذي يقول: (إذا قالت جوعانة صدقوها).
الحماة: ألم تعلمك أمك تتمة المثل (وإذا قالت تعبانة لا تصدقوها).
الكنة: البارحة لم أستطع النوم من تعبي، والمثل يقول: (العمر بيخلص والشغل ما بيخلص).
الحماة: أي عن تعب تتكلمي؟ وعن أي عمل؟ (شفناكي فوق وشفناكي تحت)، (ستي من غير وحام مصفرة)، قومي بسرعة وابدئي بتنظيف المنزل، ألم تتعلمي المثل الذي يقول: (غسل وجهك ما بتعرف مين يبوسه، ونظف بيتك ما بتعرف مين يدوسه)؟
ليتك تكوني مثل ابنتي ميساء، لم أدخل منزلها يومًا من الأيام إلا وجدته في قمة الترتيب والنظافة.
الكنة (بصوت لا يكاد يسمع): (ما حدا بقول عن زيته عكر).
وتتابع الحماة: أما ابنتي غيداء فما دخلت عليها يومًا إلا وكانت في قمة أناقتها وجمالها.
الكنة (تتمتم): (شافت البزّاقة – الحلزون – بنتها على الحيط، قالت لها: تسلمي لي مثل اللؤلؤة بالخيط).
(وتتابع بصوت مرتفع): نعم سأقوم بتنظيف المنزل الآن بسرعة، وأطبخ مفركة بالبطاطا، وأذهب للسوق.
الحماة: يقول المثل: (أكلة الشطاطة –المرأة التي تخرج من المنزل كثيرًا – مفركة بالبطاطا)، وما هذه العادة الجديدة؟ كل يوم خروج من المنزل؟! البارحة كنت عند أهلك، واليوم تريدين الذهاب للسوق، أعان الله ابني عليك.
الكنة: لم أقل لك أريد أن أتنزه، قلت لك أريد أن أذهب إلى السوق لأشتري خضار للمونة.
الحماة: يقول المثل: “المونة بدها ركونة ما بدها امرأة مجنونة”.
الكنة: هل تقصدين أني مجنونة، لاااااا (طفح الكيل)، لماذا تعامليني بهذا الشكل (لا يعجبك العجب ولا صيام برجب) هل تقصدين إزعاجي كي أهج وأترك البيت؟
الحماة: ابني هو الذي مل منك، ومن طلباتك اللامتناهية.
الكنة: أتمنى ألا تتدخلي بيني وبين زوجي، يقول المثل: (يا داخل بين البصلة وقشرتها لا ينوبك غير ريحتها).
الحماة: أتريدينني أن أسكت عن وجع ابني، والله لئن خرجت من هذا المنزل لأزوّجنّه فورًا، يقول المثل: (أعذب دهر ولا أرمل شهر).
الكنة: حسبي الله ونعم الوكيل فيك، لن أخرج من هذا البيت، وهذا البيت بيتي.
الحماة: (مالك بالقصر إلا من البارحة العصر) وتريدين أن تتحكمي فينا، يبدو أن ابني أعطاك أكثر من حجمك.
الكنة: والله أنا قدري عظيم من أول يوم دخلت به لهذا المنزل، ولم أعد أستطيع تحمل المزيد من الإهانات، سأخرج الآن ولن أعود حتى يشتري زوجي لي منزلًا جديدًا، واعلمي أني إن خرجت (سأترك الجمل بما حمل) سأترك كل شيء حتى الأولاد.
الحماة: مع السلامة حبيبتي (الباب بفوت جمل)، الله معك (درب يسد ما يرد).
خروج الكنة إلى بيت أهلها غاضبة
وبعد هذه المشاحنة التي دامت لساعات بين أخذ ورد. خرجت الكنة من بيت زوجها قاصدة بيت أهلها وهي تبكي، وقد ملأت الدموع وجنتيها.
الأم: ما بك حبيبتي، ما الذي يبكيك؟
ابنتها: حماتي طردتني.
الأم: سامحك الله يا ابنتي، ألم تعتادي عليها؟ بإمكانك أن تلاطفيها بكلمة طيبة، يقول المثل: (الكلمة الحلوة تخرج الحية من وكرها).
الابنة: ويقول المثل: (الذي يعرف يعرف والذي لا يعرف يقول كف عدس).
الأم: أنا أعرف أن عليك إطاعة أم زوجك.
الابنة: يا أمي (قط لا يهرب من عرس) لو كان هناك أمل في إصلاح الأمور لأصلحتها، ولكن يقول المثل: (شو بدي أتذكر منك يا سفرجل كل عضة بغصة).
هذه القصة الأزلية للكنة مع الحماة، ومازالت القصة مستمرة، وفي كل فصل من فصولها يتجدد النكد مع أم العز، التي ينطبق عليها المثل الذي يقول: (على ابنها حنونة وعلى كنتها مجنونة).
تطرقت اليوم لبعض الأمثال، وهو جزء يسير جدًا من موروث ثقافي ضخم، فهناك مالا يعد ولا يحصى من الأمثال، التي قد تختلف في اللفظ من بلد لآخر إلا أنها تتشابه في المعنى لأنها في النهاية خلاصة تجارب وخبرات آبائنا وأجدادنا، وواجبنا تجاهها هو المحافظة عليها من الضياع والنسيان.