أنعشت موجة الربيع العربي مساحات الفعل السياسي في الدّول التي تخلّصت مرحليًّا – أو إلى الأبد- من أنظمة الحزب الواحد والشخص الواحد. ورغم أنّ فترة ما قبل هذه التّحوّلات عرفت وجود أحزاب وتيارات سياسية، إلا أنّ مناخ الاستبداد لم يسمح بأن يكون التدافع سياسيًّا بين سلطةٍ ومعارضة، بل كان مُقاومةً أحيانًا، وتواطئًا مع الأنظمة المستبدّة، وسعيًا وراء فتاتها أحيانًا أخرى.
غياب مساحات الفعل السياسي، وتعطيل عجلة تطوّر الشّعوب لمدّة ربع قرن أو يزيد، جعل من لحظة الانعتاق فرصةً لتدارك كل السنين التي مضت، ولإتمام معارك العقود الماضية، والتي لم يخرج منها منتصرًا.
ورغم تنوّع التّجارب والسياقات، كان للصّراع الأيديولوجي تأثيرٌ سلبي أودى بتجارب، وكاد أن يودي بتجارب أخرى، ما دفع العديد من الساسة والمُفكّرين لإعلان الكُفر بـ«الأيديولوجيا»، بل لإعلان انتهاء عصرها وتحميلها كل الإخفاقات التي بُليت بها شعوب المنطقة.
ما الأيديولوجيا؟
كان أول ظهور للمصطلح على يد الفرنسي ديستوت دوتراسي (1754 – 1836) في كتابه «حول ملكة التفكير»، وتجمع الكلمة لفظين «idea» وتعني فكرة، و«logos» وتعني علم أو دراسة. وعند تركيب اللفظين يصبح المصطلح هو «علم الأفكار» الذي يعرفه دوتراسي على أنه «العلم الذي يدرس الأفكار، بالمعنى الواسع لكلمة أفكار».
وقد انتشر استعمال هذا الاصطلاح بحيث أصبح لا يعني علم الأفكار فحسب؛ بل النظام الفكري والعاطفي الشامل الذي يُعبّر عن مواقف الأفراد من العالم والمجتمع والإنسان. وقد طُبق هذا الاصطلاح بصورة خاصة على المواقف السياسية، التي هي أساس العمل السياسي، وأساس تنفيذه، وشرعيته. والأيديولوجيا السياسية هي الأيديولوجيا التي يلتزم بها ويتقيد بها رجال السياسة والمفكرون إلى درجة كبيرة، بحيث تؤثر في حديثهم وسلوكهم السياسي، وتحدد إطار علاقاتهم السياسية بالفئات الاجتماعية المختلفة.
ومتى حاولت أن تجد تعريفًا مُحدّدًا للأيديولوجيا فإنّك ستتوه حتمًا فيما خطّه الفلاسفة والمُفكّرون على مرّ الزمان، باعتبار أن هذه التعاريف كانت دائمًا تعبّر عن موقف صاحبها من هذا المفهوم الطّارئ؛ إلا أن أكثر التعاريف حيادًا يُقدّم الأيديولوجيا على أنّها: «نسق من المعتقدات والمفاهيم، والأفكار الواقعية والمعيارية معًا. ويسعى هذا النسق في عمومه إلى تفسير الظواهر من خلال منظور يوجه ويبسط الاختيارات السياسية والاجتماعية للأفراد والجماعات». ويوضح هذا التعريف الدلالات الحيادية للأيديولوجيا، التي اكتسبها المفهوم من تعدد الأنساق الفكرية التي عملت على إظهار مدى التوازن بين الجانبين الواقعي والمعياري، بوصفهما يمثلان مقومات الأيديولوجيا.
وتتميز الأيديولوجيا بأنها غير ثابتة ثباتًا مطلقًا، وإنما تتمتع بخاصية الدينامية؛ لأنها تشهد عمليات نمو وتحول وربما اختفاء وظهور جديدة. ويحدث ذلك في ضوء الأوضاع والمواقف الاجتماعية المختلفة والمتغيرة. فكثيرًا ما تتعرض المجتمعات لمشاكل داخلية أو خارجية، تظهر في شكل انحرافات معينة عن الأيديولوجيا السائدة، أو في شكل تغيرات مهمة في البنية الاجتماعية والاقتصادية، أو في شكل صراع بين القيم الخاصة، والعامة، والآراء، والاتجاهات.
انتهاء الأيديولوجيا مقولة أيديولوجية
كان عالم السياسة الأمريكي الشهير فرنسيس فوكوياما أبرز من بشّر بانتهاء زمن «الأيديولوجيات» في تاريخ الإنسانية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه، وانتهاء الحقبة الشيوعية في العديد من بلدان شرق ووسط أوروبا في نهاية عقد الثمانينات ومطلع عقد التسعينات من القرن العشرين.
واعتبر فوكوياما أن انتهاء الحرب الباردة في أوروبا هو بمثابة البرهان على أنه لم تعد هناك حاجة للأيديولوجيات، باعتبار أنّ البشرية قد «اهتدت» أخيرًا إلى أنه لا يوجد سوى نموذج واحد صالح لها، يتلخّص على الصعيدين السياسي والاجتماعي في: «الديمقراطية الليبرالية الغربية»، وفي نظام السوق المفتوحة اقتصاديًّا، دون وجود أي منافسة جدية من أي نوع آخر من الأيديولوجيات.
ودشّن فوكوياما نادي القائلين بانتهاء الأيديولوجيا الذي ضمّ أساسًا الكتاب والمفكرين المتمسكين بمفهوم الحرية الليبرالي، والمعادين للماركسية؛ ليعملوا ضمنيًّا على تغيير قواعد الصّراع بين الأيديولوجيتين الأبرز في تلك الفترة (الرأسمالية والشيوعية)، ناقلين إياها من حلبة المُفاضلة بين أفكار وقيم كل منها إلى قانون الإلغاء القطعي بإعلان فوز الأيديولوجيا الواحدة، وتسليم الجميع بها، وبالتالي انتهاء الأيديولوجيا بوصفها مفهومًا، وتحوّل الفائزة إلى نمط الحياة والتفكير الوحيد والأوحد.
مقولة انتهاء الأيديولوجيا انطلقت من تعريفٍ بسيط للأخيرة يرى أنها ثورة ويوتوبيا، وتقدير خاطئ أو مُتحامل لواقع الأشياء من خلال التسليم بألا بديل عن الرّأسمالية المتطوّرة والليبرالية وفق التصور الغربي، وأطلقت العنان لأحكام مجازفة أخرى أنهت التاريخ والجغرافيا والطبقات الاجتماعية بجرّة قلم، ثبُت صحّة بعضها لاحقًا، وعدم توفيق بعضها الآخر أيضًا.
إنّ مقولة انتهاء الأيديولوجيا في العمق كانت عبارة عن مقولة أيديولوجية نابعة من انتصار مُردّديها للنسق الفكري الذي يتبنونه، إلا أنّها كانت مقولة محدودة في الزمان، ومتفاعلة مع حدث سقوط جدار برلين، وانتهاء الحرب الباردة، وانخراط الإنسانية في العولمة مُتغافلةً عن إحدى أبرز سمات الأيديولوجيا، وهو الدينامية، ما يجعل الحكم الإطلاقي نبوءة حالمة في أحسن الأحوال لا واقعًا حتميًّا.
انتهت الأيديولوجيات الشمولية.. ولم تنتهِ الأيديولوجيا
بانتهاء الحرب الباردة ومشهد المُعسكرين انتهت الأيديولوجيات الشمولية، ومن تبنى مقولة انتهاء الأيديولوجيا اختزل الأيديولوجيا الأخرى في الشيوعية. وفي عالم الأفكار لا شيء يضيع، الكلُّ يتحوّل والاستعارة هنا لمقولة عالم الكيمياء الحديثة أنطوان لافوازييه في حديثه عن المادّة.
فسقوط جدار برلين، وانهيار الاتحاد السوفيتي وحلم الدولة الشيوعية الكبرى لم يُنهِ الفكرة السياسية اليسارية التي تجدّدت وسجّلت حضورها بأثوابٍ جديدة في مُحاولةٍ منها للتأقلم مع عصر العولمة، ولا أدلّ على ذلك من انتصار حرب تحرير شعبية مسلحة ذات أيديولوجية ماوية أطاحت الملكية وأقامت الجمهورية في نيبال في جنوب آسيا، والتصاعد غير المسبوق في شعبية اليسار، على تنوُّع فصائله، بين الثورية والديمقراطية والدينية، في غالبية بلدان أمريكا اللاتينية.
وفي السياق ذاته، تابعنا صعودًا تدريجيًّا أحيانًا، ومفاجئًا أحيانًا أخرى لقوى اليمين المتشدد مثلما حصل في فرنسا وهولاندا، دينيًّا أو قوميًّا أو ثقافيًّا واجتماعيًّا، في العديد من مجتمعات الدول الغربية بشكلٍ عام، ومجتمعات القارة الأوروبية على وجه الخصوص، وما حمله من انعكاسات إقليمية ودولية.
الليبرالية نفسها وبحكم بروز حدودها أصبحت اليوم ليبراليات، تتفق فيما بينها في أشياء، وتتباين فيما بينها في أشياء أخرى، ولم تكن لتبرز الليبرالية الاجتماعية مثلًا في موازاة الليبرالية الكلاسيكية إلا لشعور الإنسانية بحدود الفكرة الليبرالية التي اعتقد مُنظّروها أنها طريق الخلاص.
وبعيدًا عن الأيديولوجيات الكلاسيكية، مثّل بروز التّطرفين الدّيني والعنصري الحديثين اللذين يمكن لبعض المراقبين أن يحصروهما في تنظيم القاعدة، وداعش من جهة، وحركة بيغيدا (وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب)، والنازيين الجدد من جهة أخرى، وهذا دليل إضافيً على أن وهم انتهاء الأيديولوجيا لم يكن سوى ترف فكري استهان بقدرة التاريخ على توليد الثورة على كل الأنظمة، حتى النّظام العالمي الجديد الذي قام على حطام الحلم الشيوعي.
أيهما نتاج الآخر.. الإنسان أم أيديولوجيته؟
«لا يعرف كل الذين يشنون هجومًا على الأيديولوجيا أنهم غارقون في الأيديولوجية حتى آذانهم. فالأيديولوجيا هي الوعي المصوغ تعبيرًا عن المصالح، سواء كانت هذه المصالح حقيقية أو متوهمة. وهنا يكون الوعي مطابقًا أو زائفًا. لكن في كل الأحوال هذه أيديولوجيا. ولهذا فحين تُرفض الاشتراكية فهذه أيديولوجيا، لأن رافضيها لهم مصالح في نظام آخر، هو – كما يعبّرون- الليبرالية أو الرأسمالية. وهذا أيضًا وعي أيديولوجي. إذًا، الوعي والفلسفة والفكر كلها توضع في خانة الأيديولوجيا ما دامت صيغت تعبيرًا عن نوازع أفراد أو طبقات. وبالتالي لا تبقى الأيديولوجيا هي صفة تيار فكري فقط، بل صفة كل التيارات الفكرية، وكل فكر. لتصبح شيطنة الأيديولوجيا هي شيطنة للذات». هذا ما يقوله المفكر السوري سلامة كيلة.
في المُقابل؛ يعتبر عدد آخر من الفلاسفة والمُفكّرين أن الأيديولوجيا بحكم سطوتها على النّاس كانت وما زالت منتجًا أساسيًّا للعديد من المآسي التي عرفتها البشرية؛ حتى داخل الأيديولوجيا الواحدة، ومتى برزت تباينات في الفهم والتقدير عادة ما يكون المآل الاحتراب والتنافي. ويقول المُفكّر السوري أحمد نسيم برقاوي في إحدى مقالاته المعنونة بـ«وهم الأيديولوجيا القاتل» في حديثه عن الأيديولوجيا:
الأيديولوجيا هي أهداف انتظمت في خطاب مغرٍ للكائن البشري، خطاب يدفع المؤمن به لسلوك مطابق للأوامر الكامنة فيه، حتى لو كان هذا السلوك يؤدي بصاحبة للتضحية بالذات أو التضحية بالآخرين.
لكنّ السؤال الذي يُطرح هنا: هل العيب في الأيديولوجيا ذاتها؟ أم في معتنقيها وتطبيقاتها؟ هل الإنسان نتاج أيديولوجيته؟ أم أن الأيديولوجيا صنيعة الإنسان والظروف المُحيطة به في أبعادها المُختلفة؟