يُعدُّ إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (ت 478هـ) أحد عمالقة الفقه الإسلامي، والفكر الإسلامي، الذي شرَّق صِيتُه وغرَّب، واعترف بفضله القاصي والداني، وأثنى عليه السابقون واللاحقون والمحْدَثون إلى يومنا هذا، حتى قال فيه معاصره الإمام أبو إسحاق الشيرازي: "تمتَّعوا بهذا الإمام؛ فإنَّه نزهةُ هذا الزمان!". وقال له مرَّة: "يا مفيد أهل المشرق والمغرب، لقد استفاد من علمك الأوَّلون والآخرون". فمن هو الإمام الجويني وأهم آثاره؟ وما ملامح حياته وعبقريته؟
نسبه ومولده
هو الإمام الكبير، شيخ الشافعية، شيخ الإسلام، إمام الحرمين، ركن الدين، أبو المعالي عبد الملك ابن الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه الجويني، ثم النيسابوري، الشافعي.
وُلِد إمام الحرمين رضي الله عنه في (18 من المحرم سنة 419هـ=12 من فبراير سنة 1028م)، في بلدة جوين، وهي ناحيةٌ كبيرةٌ من نواحي نيسابور تشتمل على قرى كثيرة مجتمعة يُقال لها كويان، فعربت فقيل: جوين، ونيسابور من أشهر مدن إقليم خراسان، ذلك الإقليم الذي كان من مدنه: هراة، ومرو، وبلخ، وطالقان، ونسا، وأبيورد، وسرخس، وغيرها.
بيته ونشأته
وُلد إمام الحرمين في حِجْر الإمامة، فوالده هو الإمام أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، كان إمام عصره في نيسابور، برع في الفقه، وصنَّف فيه التصانيف المفيدة، وشرح المزني شرحًا شافيًا، وشرح الرسالة للشافعي، وكان ورعًا دائم العبادة، شديد الاحتياط مبالغًا فيه، تُوفِّي سنة 438هـ.
وأمَّا عمُّه، فهو أبو الحسن علي بن يوسف الجويني المعروف بشيخ الحجاز، كان -فيما حكاه ياقوت الحموي في معجمه- صوفيًّا لطيفًا ظريفًا فاضلًا، مشتغلًا بالعلم والحديث، صنَّف كتابًا في علوم الصوفية مرتَّبًا مبوَّبًا سمَّاه كتاب السلوة، ومات بنيسابور سنة 463هـ.
أمَّا جده، فكان علمه الذي نبغ فيه وعُرف به علمَ الأدب، قال ياقوت وهو يُترجم لوالد الإمام: إنَّه قرأ عليه الأدب في جوين، فجده أديب مرموق، وعمه محدِّثٌ صوفي، ووالده فقيه أصولي، وقد أحسن ابن عساكر التعبير عن ذلك في التبيين، فقال:"رباه حجر الإمامة، وحرَّك ساعدُ السعادة مهده، وأرضعه ثديُ العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه ونبغ".
الحياة العلمية في عصره
كان القرن الخامس الهجري يمثل أخصب فترات الحصاد لنهضة أمتنا العلمية الرائعة؛ فقد نبغ فيه أعلامٌ وأئمَّةٌ في كلِّ فن، نذكر منهم على سبيل المثال: أبو عبد الرحمن النيسابوري (ت 412هـ)، والقاضي عبد الجبار بن أحمد شيخ المعتزلة صاحب المغني (ت 415هـ)، والمروزي علَم الشافعية (ت 417هـ)، وأبو إسحاق الإسفراييني (ت 418هـ)، وابن مِسكويه (ت 421هـ)، وابن سينا الشيخ الرئيس (ت 428هـ)، وعبد القاهر البغدادي (ت 429هـ)، والبيروني (ت 440هـ)، وأبو عبد الله الخبازي عالم القراءات والتفسير (ت 449هـ)، والماوردي ( ت 450هـ)، وابن حزم ( ت 456هـ)، وأبو يعلى الفراء (ت 458هـ)، وابن سيده صاحب المحكم (ت 458هـ)، وأبو بكر البيهقي (ت 458هـ)، وابن عبد البر ( ت 463هـ)، والخطيب البغدادي ( ت 463هـ)، والقُشَيري صاحب الرسالة (ت 465هـ)، الحرة كريمة بنت أحمد راوية الصحيح (ت 465هـ)، وعبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، وأبو الوليد الباجي (ت 474هـ)، وشمس الأئمة السرخسي (ت 483هـ)، والراغب الأصفهاني (ت 502هـ)، وأبو حامد الغزالي حجة الإسلام، تلميذ إمام الحرمين (ت 505هـ).
هؤلاء الأعلام نماذج لآلاف من الأئمَّة كانت تموج بهم الحياة حول إمام الحرمين، في كلِّ مدن الإسلام وحواضره، كانت مدارس، ومعاهد، ومكتبات، ومجالس علم، ومناظرات، ومحاورات، وجدل وصراع، وهجوم ودفاع، كانت الحياة العلمية والفكرية تمور وتفور، تصطرع فيها تيارات، ومذاهب واتجاهات، كان هناك الفكر الوافد من الترجمات عن اليونانية (علوم الأوائل) وكان هناك بقايا من عقائد وملل بائدة، فظهرت الباطنية، والغنوصية، والقرمطية، والزندقة، إلى جانب الجدل الإسلامي المسيحي، إلى ما كان من تأثر بفلسفة اليونان، في الإلهيات، كل هذا جعل الحياة الفكرية العلمية تعيش أزهى فترات نشاطها، وتوثبها، وقوتها، وحيويتها، وفي هذا الخضم المتلاطم كان إمام الحرمين.
صفاته
وكان الأمر الثالث الذي ساعد على بلوغ الإمام الجويني هذه المكانة، وجعله يتبوَّأ هذه المنزلة هو ما يُعبَّر عنه في أيامنا هذه بالاستعداد الفطري والموهبة؛ فقد حباه الله سبحانه بصفات نادرة منها:
* أنَّه كان يتمتع بذاكرة نادرة، وحافظة لاقطة؛ روَوْا عنه أنَّه"كان يذكر دروسًا يقع كلُّ واحدٍ منها في عدَّة أوراق، ولا يتلعثم في كلمةٍ منها، ولا يحتاج إلى إبدال كلمة منها مكان غيرها؛ بل يمرُّ فيها مرًّا كالبرق الخاطف، بصوت مطابقٍ كالرعد القاصف".
* كما وهبه الله ذكاء نادرًا؛ فقد ظهرت عليه مخايل النجابة والنبوغ من صغره، حتى "كان أبوه يُزهَى بطبعه وتحصيله، وجودة قريحته، وكياسة غريزته، لما يرى فيه من المخايل". وقد هيأ له ذلك الذكاء، وهذا النبوغ، تلك المنزلة التي جعلت الأئمة يُقعدونه للتدريس مكان أبيه، وهو دون العشرين سنة، على حين كانت نيسابور تموج بالأئمة الأعلام.
* كما تميَّز بصبرٍ ودَأَبٍ نادرين في طلب العلم والبحث؛ فمع أنَّه أقعد للتدريس مكان أبيه مبكرًا، إلَّا أنَّ ذلك لم يشغله عن البحث والدرس، "فكان يقيم الرسمَ في درسه ويخرج منه إلى مدرسة البيهقي يتتلمذ على أبي القاسم الإسكافي". وروى ابن عساكر بسنده أنَّ إمام الحرمين كان يقول: "أنا لا أنام، ولا آكل عادة؛ وإنَّما أنام إذا غلبني النوم ليلًا كان أو نهارًا، وآكل إذا اشتهيت الطعام، أيَّ وقتٍ كان".
* التواضع؛ "فما كان يستصغر شأن أحدٍ أيًّا كان، حتى يسمع كلامه، شاديًا كان أو متناهيًا، فإن أصاب كياسةً في طبع أو جريًا على منهاج الحقيقة، استفاد منه صغيرًا أو كبيرًا، ولا يستنكف أن يعزو الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: هذه الفائدة ممَّا استفدته من فلان". ومع هذا التواضع، كان حرَّ الرأي والضمير، لا يُقلِّد أحدًا، ولا يلتزم إلَّا بالدليل، ولا يخضع إلَّا للبرهان؛ "فمنذ شبابه رفض أن يُقلِّد والده وأصحابه، وأخذ في التحقيق".
* كان من الكرم والسخاء مضرب الأمثال، ولم يشتغل بمالٍ يثمره، أو يدَّخره؛ بل "كان يُنفق من ميراثه، ومن معلوم له على المتفقهة".
* كذلك رزقه الله رقة القلب والخشوع؛ حتى إنَّه "كان يبكي إذا سمع بيتًا، أو تفكر في نفسه ساعة، وإذا وعظ ألبس الأنفس من الخشية ثوبًا جديدًا، ونادته القلوب: إننا بشر فأسجح، فلسنا بالجبال ولا الحديدا".
في هذه البيئة العلمية درج، وفي هذا البيت الطاهر نما، وبهذه المواهب الربانية سما ونبغ.
أساتذته وشيوخه
تكوَّن إمام الحرمين تكوُّنًا علميًّا قويًّا منذ صباه، فتتلمذ أول ما تتلمذ، وسمع أول ما سمع من أبيه، الإمام أبي محمد صاحب التفسير الكبير، والتبصرة، والتذكرة، وشرح الرسالة .. وغيرها، فقد "أتى على هذه المصنفات، وقلبها ظهرًا لبطن، وتصرف فيها، وخرج المسائل بعضها على بعض". أمَّا الحديث، فقد سمع من أبي بكر أحمد بن محمد بن الحارث الأصبهاني التميمي، وغيرها. وأمَّا القراءات؛ فقد كان يبكر كلَّ يومٍ إلى مسجد أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القراءات، ويقتبس من كلِّ نوعٍ من العلوم، وأمَّا النحو فقد درس -مع ما درس في مطلع حياته- كتاب إكسير الذهب في صناعة الأدب، على مؤلفه الشيخ أبي الحسن علي بن فَضَّال المجاشعي.
درس إمام الحرمين على هؤلاء الأعلام وغيرهم، ولم يكن هذا هو طريقه الوحيد طبعًا، فقد جاء في (تبيين كذب المفتري) عنه أنَّه قال عن دراسته لعلم أصول الفقه، على أستاذه أبي القاسم الإسكافي الإسفراييني: "كنت قد علَّقت عليه في الأصول أجزاء معدودة، وطالعت في نفسي مائة مجلَّدة". وبذلك يكون الإمام الجويني قد استوعب علوم عصره، وأحاط بآثار أعلام الأئمَّة في كلِّ فن، واستوعب علومهم.
وكانت لذَّته ولهوه ونزهته في مذاكرة العلم، وطلب الفائدة من أيِّ نوعٍ كان، قال عنه أحد شيوخه في النحو والأدب، وقد قرأ عليه بعض كتبه -وهو إمام الأئمَّة- مستزيدًا من العلم، وطالبًا له عند أهله، قال: "ما رأيت عاشقًا للعلم -أيَّ نوع كان- مثلَ هذا الإمام؛ فإنَّه يُطلب العلم للعلم!".
في الحجاز
كان نجم الجويني قد بدأ يلمع في نيسابور وما حولها، وانتشر صيته حتى بلغ العراق والشام والحجاز ومصر، لكنَّه تعرَّض لبعض العنت والتضييق، فاضطرَّ إلى مغادرة نيسابور، وتوجَّه إلى بغداد فأقام فيها فترة وتوافد عليه الطلاب والدارسون، وما لبث أن رحل إلى الحجاز فأقام بمكة وظلَّ بها أربع سنوات يُدرِّس ويفتي ويُناظر ويؤم المصلِّين بالمسجد الحرام، حتى لقَّبه الناس بـ"إمام الحرمين" لعلمه واجتهاده وإمامته، وكان يقضي يومه بين العلم والتدريس ويُقيم ليله طائفًا متعبِّدًا في الكعبة المشرفة؛ فصفت نفسه، وعلت همَّته، وارتفع قدره.
وقد عرف التصوُّف الحقُّ طريقه إلى قلب الجويني؛ فكانت مجالسه الصوفيَّة رياضةً روحيَّة وسياحةً نفسيَّة، يُحلِّق بها في آفاقٍ إيمانيَّةٍ، يبكي فيبكي الحاضرون لبكائه، ويجد فيها مجاهدةً لنفسه ومراجعةً لها، وعاد الجويني مرَّةً أخرى إلى نيسابور؛ حيث قام بالتدريس في "المدرسة النظامية" التي أنشأها له الوزير "نظام الملك" لتدريس المذهب السني، وظلَّ الإمام الجويني يدرس بالمدرسة النظامية، فذاع صيته بين العلماء، وقصده الطلاب والدارسون من البلاد الأخرى، وكانت هذه الفترة من أخصب الفترات في حياة الإمام؛ ففيها بلغ أوج نضجه العلمي، وصنف الكثير من مؤلفاته.
علومه وفنونه التي نبغ فيها
مثل كل علماء عصره وأئمته درس كل فنون العصر وعلومه، ما كان يعرف منها بعلوم الوسائل، وما كان يعرف بعلوم الغايات، وهكذا كان علماؤنا، وأئمتنا، ما كانوا يعرفون هذا الذي نُسمِّيه (الآن) التخصُّص الضيق، ولذا نجد كتب التراجم والطبقات تترجم لأحدهم، فتقول -بعد أن تذكر دراسته، وشيوخه- "وعلمه الذي نبغ فيه كذا...". نبغ إمامنا في علومٍ وفنون كثيرة، منها: علم الفقه وأصول الفقه وعلم الخلاف وعلم الجدل والسياسة الشرعية وعلم الكلام.
عبقرية متميزة
كان إمام الحرمين عبقريَّ زمانه -وما بعد زمانه- في العلوم التي تجمع بين العقل والنقل، وهي: علم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، والخلاف. وربَّما يظنُّ كثيرٌ من الناس أنَّ علم الفقه علمٌ نقليٌّ بحت -وهو كذلك عند الكثيرين- ولكنَّه -عند إمام الحرمين ومن جرى مجراه- له ارتباطٌ وثيقٌ بالعقل، في التأصيل والتدليل، والتقرير والتعليل، وربط المسائل بجذورها، وردِّ الفروع إلى أصولها، وقياس الأشباه بأشباهها، ومراعاة الجوامع والفوارق، ورعاية العلل والمقاصد.
كما تميَّز إمام الحرمين بالاستقلال في التفكير، والاستقلال في التعبير؛ فهو في أصول الدين أشعري، ولكنَّه قد يخالف الأشعريَّ، على الرغم من تعظيمه لقدره، وتقديره لفضله، وهو في فروع الفقه شافعي، ولكنَّه قد يستقلُّ عن الشافعيِّ بمسائلَ، وينفرد بنظراتٍ وأفكارٍ واجتهاداتٍ فقهيَّة لم يسبق بها أحد، وهو واضع اللمسات الأولى في مقاصد الشريعة؛ حيث أشار إليها في (البرهان) وتحدَّث عن المصالح الضروريَّة والحاجيَّة والتكميليَّة، ثم جاء تلميذه الغزالي وصاغها صياغةً جديدةً متكاملة، ووضع أسس البناء لهذه النظرية، التي توسَّع فيها الشاطبي فيما بعد.
وعبارات إمام الحرمين في أكثر من كتابٍ له بل في كلِّ ما عُرف من كتبه، تدلُّ على أنَّه شخصيَّةٌ مستقلَّةُ الفكر، وإن انتسب إلى الأشعريِّ اعتقادًا، وإلى الشافعيِّ فقهًا، فنجده يقول في كتابه (الغياثي - غياث الأمم في التياث الظلم): "ومعظم المتلقِّبين بالتصنيف في هذا الزمان السخيف، يكتفون بتبويب أبواب، وترتيب كتاب، متضمَّنه كلامُ من مضى، وعلوم من تصرَّم وانقضى". فهو إِذَنْ يبحث عن الجديد، ويعافُّ تكرار القديم، ثم يقول: "وحقٌّ على كلِّ من تتقاضاه قريحته تأليفًا وجمعًا وترصيفًا، أن يجعل مضمون كتابه أمرًا لا يلفى في مجموع، وغرضًا لايصادَف في تصنيف".
ويُعتبر إمام الحرمين أحد أركان علم الأصول الأربعة، هكذا قال ابن خلدون في مقدِّمته؛ حيث عد كتاب (البرهان في أصول الفقه) لإمام الحرمين أحد الكتب الأربعة التي قام عليها علم أصول الفقه، وإليها ترجع معظم المؤلفات في هذا العلم؛ حيث قال -وهو يتحدث عن علم الأصول-: "ومن أحسن ما كتب فيه المتكلمون، كتاب (البرهان) لإمام الحرمين وكتاب (المستصفى) للغزالي وهما من الأشعرية، وكتاب (العمد) للقاضي عبد الجبار بن أحمد وكتاب (المعتمد) لأبي الحسين البصري (وهما من المعتزلة)، وكانت الأربعة قواعدَ هذا الفن، وأركانه"ا.هـ.
الإمام الجويني وعلم الكلام
من المعروف والمشهور أنَّ إمام الحرمين كان من كبار متكلِّمي الأشاعرة، المؤوِّلين لآيات الصفات وأحاديثها، المدافعين عن التأويل، وقد برز في (علم الكلام) واشتهر به، وصنَّف فيه التصانيف التي سارت بذكرها الركبان، مثل (الشامل) و(الإرشاد) و(اللمع) و(النظامية) وغيرها، وأخذ عنه هذا العلم كثيرون من تلاميذه النوابغ، وكان يتكلَّف في تأويله والدفاع عن مذهبه الأشعري إلى حدِّ الاعتساف أحيانًا، الذي لايرضاه المنصفون، وهذا شأن البشر.
وقد ذكر مؤرِّخ الإسلام الحافظ الذهبي في (سير الأعلام) ما جرى بينه وبين أبي القاسم بن بَرهان من مناظرة في (أفعال العباد)، ومن المعروف لدى المتمرِّسين بمسائل الكلام أنَّ مذهب الأشعري في أفعال العباد من أضعف المذاهب، حتى ضُرب به المثل في الخفاء، فقيل: أخفى من كسب الأشعري، ومع هذا كان الجويني في أول أمره يُجادل عنه ويردُّ على خصومه، ويتأوَّل صريح القرآن، وهو ما نقله الذهبي عن العلَّامة الحنبلي ابن عقيل في (فنونه) قال: قال عميد المـُلك: قدم أبو المعالي فكلَّم أبا القاسم بن بَرهان في العباد: هل لهم أفعال؟ فقال أبو المعالي: إن وجدت آيةً تقتضي ذا فالحجة لك. فتلا: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63] ومدَّ بها صوته، وكرَّر: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}، وقوله تعالى: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42]؛ أي كانوا مستطيعين. فأخذ أبو المعالي يستروح إلى التأويل، فقال (أي ابن بَرهان): "والله إنَّك بارد، تتأوَّل صريحَ كلام الله، لتُصحِّح بتأويلك كلامَ الأشعري!! وأكَلَه ابن برهان (أي أعياه) بالحجَّة، فبهت".
هكذا كان أبو المعالي إمام الحرمين دهرًا من حياته، ولا غرو أن اعتبره بعض الباحثين المؤسِّس الثاني للمذهب الأشعري، وكتب الشيخ علي جبر في كلية أصول الدين رسالة الأستاذيَّة له عن (إمام الحرمين باني الأشعرية الحديثة) وإن لم نرها مطبوعة، ولكنَّ الله شرح صدره للحق، فوجدناه في أواخر حياته قد غيَّر نهجه، ورجع عن طريق التأويل -طريق الخلف- إلى طريق السلف في ترك الخوض، والانكفاف عن التأويل، كما أثبت أنَّ للإنسان قدرةٌ مؤثِّرةٌ في أفعاله بإقدار الله تعالى وتمكينه، وليست مستقلَّة عن القدرة الإلهية، ولم يستنكف عن إعلان ذلك بكلِّ صراحةٍ وجلاء، وهو ما ذكره في (الرسالة النظامية في الأركان الإسلامية)، حتى إنَّه قال:"فحقٌّ على ذي الدين أن يعتقد تنزُّه الباري عن صفات المحْدَثين، ولا يخوضَ في تأويل المشكلات، ويكلَ معناها إلى الرب، وعند إمام القراء وسيِّدهم الوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] من العزائم، ثم الابتداء بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، وممَّا استُحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنَّه سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، فقال: الاستواء معلوم، والكيفيَّة مجهولة، والسؤال عنه بدعة. فلتُجْرِ آيةَ الاستواء والمجي. وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، و{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وما صحَّ من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه، فهذا بيان ما يجب لله" ا.هـ.
ونقل الحافظ الذهبي عن الفقيه غانم الموشيلي قال: "سمعت الإمام أبا المعالي يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما اشتغلت بالكلام". وحكى الفقيه أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي قال: "حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه، قال: دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا عليَّ أنِّي قد رجعت عن كلِّ مقالةٍ تُخالف السنة، وأنِّي أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور". قال الإمام الشوكاني في (إرشاد الفحول): "وهؤلاء الثلاثة، أعني: الجويني والغزالي والرازي، هم الذين وسَّعوا دائرة التأويل، وطوَّلوا ذيوله، وقد رجعوا آخرًا إلى مذهب السلف، كما عرفت، فللَّه الحمد، كما هو أهله".
كتبه وآثاره
لم تقف جهود الإمام في سبيل الدفاع عن الدين والسنَّة عند مناظراته ودروسه، ومواعظه وخطبه؛ بل خلَّف مصنَّفاتٍ كثيرةً في معارف متنوعة، شملت: الكلام، وأصول الفقه، والخلاف، والجدل، والفقه، والتفسير، والخطب والمواعظ.
وقد بلغت هذه المؤلَّفات من التنوُّع والكثرة حدًّا جعل السبكي يستدلُّ بها على وجود الكرامات، حُسبت أعداد الأوراق التي احتوت عليها كتبه ومؤلَّفاته، وقُسِّمت على أيَّام عمره وساعاته، مع ما كان يلقيه من الدروس، ويحضره من مجالس التذكير، فوُجد أنَّ عمره لا يفي بذلك!! وقد بلغ عدد ما تحقَّقنا من نسبته إليه أكثر من أربعين عنوانًا، ومنها ما هو موجودٌ ومنها ما هو مفقود، ونكتفي الآن بسرد أشهرها سردًا مجرَّدًا، فمنها:
* في علوم أصول الفقه: التلخيص، والبرهان، والتحفة، والورقات.
* في علم الفقه: نهاية المطلب في دراية المذهب، ومختصر النهاية، والرسالة النظاميَّة في الأركان الإسلامية.
* في علم الخلاف والجدل: الأساليب، والغنية، غنية المسترشدين، والعُمد، والدرَّة المضيَّة فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، والكافية في الجدل.
* في السياسة الشرعية: الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم)، ومعناه: منقذ الأمم من الوقوع في الظُلَم.
* في علم الكلام: الشامل، والإرشاد، واللمع، وشفاء الغليل، والعقيدة النظامية، وقصيدة على غرار قصيدة ابن سينا في النفس، لم يذكرها أحد ممَّن ترجموا له، ولكنَّها وقعت لنا في غير مظانِّها، أثناء بحثنا عن مؤلَّفات الإمام في مكتبات العالم، وله -أيضًا- مسائل الإمام عبد الحق الصقلي وأجوبتها.
* وله كتاب (في التكفير والتبرؤ) هكذا قال: "لنا مجموع في التكفير والتبرؤ فليتأمَّله طالبه". ولكن لم نعرف عنوانه ولا موضوعه، وإن كان بعلم الكلام أشبه.
* كتاب في النفس: قال عنه في العقيدة النظامية: "إنَّه يقع في نحو ألف ورقة". ولسنا ندري عنوانه ولا حقيقة موضوعه.
* تفسير القرآن الكريم: ذكره السيوطي في مقدِّمة الإتقان.
تلاميذ الجويني
يظهر أثر إمام الحرمين الجويني رضي الله عنه في مجالٍ آخر؛ حيث لمع اسمُه في تاريخ الفقه الإسلامي بصفته أستاذًا ومعلِّمًا، وهذه منزلةٌ لا تُتاح لكلِّ عالم؛ فقد يكون الرجل فقيهًا باحثًا يترك أعظمَ المؤلَّفات، ولكن لا يكون له في تربية الفقهاء وتخريج المتفقِّهة شأن، ولم يكن إمام الحرمين من هؤلاء؛ فقد تولَّى التدريسَ وهو في نحو العشرين من عمره، فما إن استحصدت خبرته، ونضِجت معارفُه، وذاع صِيتُه، حتى صارت حلقته كعبةً يشدُّ إليها الرحال طالبو الفقه من أنحاء العالم الإسلامي، وحين تربَّع على عرش المدرسة النظاميَّة بنيسابور التي بناها (نظام الملك) باسمه، صارت نظاميَّة نيسابور ميدان بحث ومناظرة، تخرَّج فيها على يد إمام الحرمين من الأئمَّة ما تزدهي بهم نيسابور، ويزهو بهم الفقه الإسلامي إلى اليوم.
ولو رحنا نعدُّ هؤلاء الأعلام الذين ذكرت الكتب أنَّهم تفقَّهوا بإمام الحرمين -وناهيك بمن لم تذكر- لطال بنا الكلام، ولاستعصى علينا الحصر والإحصاء، ألم يقولوا: إنَّهم كانوا عند وفاته نحو أربعمائة تلميذ، ولذلك يكفي أن نذكر منهم:
حجَّة الإسلام الغزالي، والكيا الهراسي، والخَوافي، والباخرزي، وعبد الغافر الفارسي الذي قالوا عنه: "أورثته صحبة إمام الحرمين فنًّا من الفصاحة، وأكسبته إيَّاه سهرًا حُمد صباحُه". ومنهم: الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم القشيري، ومنهم: هاشم بن علي بن إسحاق بن القاسم الأبيوردي، وغانم الموشيلي، وعبد الكريم بن محمد الدامغاني، وعبد الجبار بن محمد بن أبي صالح المؤذن، وأبو عبد الله الفُراوي، وأبو المظفر الأبيوردي، وأبو الفضل الماهياني، وسعد بن عبد الرحمن الأستراباذي.
وممَّا يُذكر في هذا المجال أنَّ إمام الحرمين كان أستاذًا بصيرًا بتلاميذه، يُحسن رعايَتهم ويُشجِّعُهم، ويُسعَد بنباهتهم ونبوغِهم، وقد وردت عنه كلماتٌ تدلُّ على أستاذيَّةٍ ماهرةٍ حاذقة؛ فقد كان الغزالي والكيا الهراسي والخَوافي أندادًا، وتناظروا يومًا أمامه، فقال موازنًا بينهم: "التحقيق للخَوافي، والجزئيَّات للغزالي، والبيان للكيا"، وقال مرَّةً أخرى: "الغزالي بحرٌ مغدق، والكيا أسدٌ محدق، والخَوافي نارٌ تحرق".
أثر الإمام الجويني
لقد كان إمام الحرمين الجويني رائدًا مجدِّدًا مجتهدًا في أكثر من فن: في الفقه، والأصول، وعلم الخلاف والجدل، والسياسة الشرعية، وعلم الكلام، وكان له الأثر والريادة والقيادة بما جدَّد واجتهد في هذه الفنون، وكان له الأثر بما خلَّف من مؤلَّفاتٍ ظلَّت تحمل علمه وفكره على مرِّ العصور والدهور، وكانت زادًا ومرجعًا وموئلًا لمن جاء بعده واقتفى أثره، رأينا أثر هذه المؤلفات في آثار كثيرٍ من الأئمَّة، خاصَّةً أنجب تلاميذه حجَّة الإسلام الغزالي؛ فمؤلَّفاته تحمل فكر شيخه وعلم إمامه، وأحيانًا بألفاظ إمامه وعباراته نفسها.
كتاب نهاية المطلب في دراية المذهب
فهو ذخيرةٌ ثمينةٌ من ذخائر تراثنا الفقهي الزاخر، يعرفه المشتغلون بفقه المذهب الشافعي، ويُدركون قيمته؛ فهو أحد الأعمدة التي يستند إليها ويعوِّل عليها، ألَّفه إمام الحرمين في سنواته الأخيرة؛ أي بعد أن اكتمل نضجه، وأخرج زرعُه شطأه، واستغلظ واستوى على سوقه، أراد أن ينهض بمهمَّةٍ في المذهب لا يقوم بها غيره، من تهذيب المذهب بكتاب "يحوي تقرير القواعد، وتحرير الضوابط والمعاقد، في تعليل الأصول، وتبيين مآخذ الفروع، وترتيب المفصَّل منها والمجموع، ويشتمل على حلِّ المشكلات، وإبانة المعضلات، والتنبيه على المعاصات" كما قال رحمه الله في مقدِّمة الكتاب. بل قال في مقدِّمته هذه الكلمة المعبِّرة عن نظرته إلى الكتاب وقيمته عنده: "وهو -على التحقيق- نتيجةُ عمري، وثمرة فكري في دهري"!.
ومن قرأ لفقهاء الشافعية بعد إمام الحرمين وجدهم مزهوِّين كلَّ الزهو، فخورين كلَّ الفخر، بكتاب إمامهم هذا، فطالما نوَّهوا به، وعظَّموا قدره، وأشاروا إلى تفرُّده وتميُّزه؛ انظر إلى ما قاله ابن عساكر عنه في كتاب (تبيين كذب المفتري): إنَّه ما صُنِّف في الإسلام مثله!. وقد اعتبره الإمام النووي في (المجموع) أحد كتبٍ أربعةٍ تُعدُّ أساسيَّة في المذهب. وقال تاج الدين السبكي: ومن تصانيفه (النهاية) في الفقه: لم يُصنَّف في المذهب مثلها فيما أجزم به.
قالوا عن الإمام الجويني
والإمام الجويني إمامٌ وابنُ إمام، وفقيه وابن فقيه، أخذ العلم كابرًا عن كابر، ويكفي أنَّه في فقه الشافعية: إذا قيل: قال الإمام، أو اختاره الإمام، أو نحو ذلك، فلا إمام غيره، ولا تُقال بهذا الإطلاق على أحدٍ سواه.
قال معاصره الإمام أبو إسحاق الشيرازي: تمتَّعوا بهذا الإمام؛ فإنَّه نزهةُ هذا الزمان!. وقال له مرَّةً: يا مفيد أهل المشرق والمغرب، لقد استفاد من علمك الأولون والآخرون. وقال الحافظ أبو محمد الجرجاني: هو إمام عصره، ونسيج وحده، ونادرة دهره. وقال قاضي القضاة أبو سعيد الطبري، وقد قيل له: إنَّه لُقِّب إمام الحرمين: بل هو إمام خراسان والعراق، لفضله وتقدُّمه في أنواع العلوم.
وقال العلَّامة تاج الدين ابن السبكي في ترجمته في (طبقات الشافعية): هو الإمام شيخ الإسلام، البحر الحبر، المدقِّق المحقِّق، النظَّار الأصولي المتكلم، البليغ الفصيح الأديب، العَلَم الفرد، زينةُ المحقِّقين، إمام الأئمَّة على الإطلاق. ونقل ابن السبكي عن الحافظ عبد الغافر الفارسي قولَه فيه: فخر الإسلام، إمام الأئمَّة على الإطلاق، حبر الشريعة، المجمَع على إمامته.. من لم ترَ العيون مثله قبله ولا ترى بعده.. رباه حِجرُ الإمامة.. وأرضعه ثدي العلم والورع إلى أن ترعرع فيه ويفع. اهـ.
وقال السبكي: فالفقه فقه الشافعي، والأدب أدبُ الأصمعي، وحسن بصره بالوعظ للحسن البصري.. وكيفما كان فهو إمام كلِّ إمام، والمستعلي بهمَّته على كلِّ هُمام.. إذا تصدَّر للفقه فالمزني من مُزْنته قطرة، وإذا تكلم (من علم الكلام) فالأشعري من وَفْرته شعرة، وإذا خطب ألجم الفصحاء!". وقال ابن خلكان في ترجمته: "أعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق، المجمَع على إمامته، المتَّفق على غزارة مادَّته، وتفنُّنه في العلوم، من الأصول والفروع والأدب، وغير ذلك".
وفاته رحمه الله
وبعد رحلة حياةٍ حافلةٍ بالعلم والعطاء، أُصيب الجويني بعلَّةٍ شديدةٍ كانت فيها وفاته، قال السبكي: " فأدركه قضاء الله الذي لا بُدَّ منه بعد ما مَرِضَ قبل ذلك مرض اليرقان، وبقي به أيَّامًا ثم برأ منه وعاد إلى الدرس والمجلس، وأظهر الناسُ من الخواصِّ والعوامِّ السرورَ بصحَّته وإقباله من علَّته، فبعد ذلك بعهدٍ قريبٍ مرض المرضة التي تُوفِّي فيها وبقي فيها أيَّامًا، وغلبت عليه الحرارة التي كانت تدور في طبعه إلى أن ضعف وحُمل إلى "بشتنقان" لاعتدال الهواء وخفَّة الماء، فزاد الضعف وبدت عليه مخايل الموت، وتُوفِّي ليلة الأربعاء بعد صلاة العتمة (25 من شهر ربيع الآخر من سنة 478هـ=20 من أغسطس 1185م)... وتُوفِّي وهو ابن تسع وخمسين سنة" ا.هـ.
_____________________
* المصدر: هذا المقال نقل من مقدِّمة تحقيق كتاب نهاية المطلب في دراية المذهب للإمام الجويني، الذي خطَّه بيده محقِّق الكتاب وصانع فهارسه العلامة أ.د/ عبد العظيم الدِّيب، وتصدير العلَّامة فقيه العصر فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، الناشر: دار المنهاج، الطبعة: الأولى، 1428هـ=2007م.
قصة الإسلام