- هههه ههههه ههههه
استيقظت على صوت قهقهة عالية، قد صدعت رأسي المملوء بالصور، كنت أظن انها لا تُخزن في ذاكرتي مثلما تخزنها كاميرتي بشكلٍ مؤقت.. بحثت عن مصدر القهقهة . ما زال يرتج المكان بصداها، المكان غرفة صغيرة تقبع في الطابق الثاني بفندق يقع في شارع الصادق لا يكلفني مشي العودة إليها بضع دقائق... الغرفة متآكلة الجدران والرطوبة تشكل بقعاً صفراً، يحتلها سرير قديم يهتز بي إذا ما عطست. ومائدة صغيرة عليها بقايا شاي، انقلب القدح وظل ممدداً على الطبلة. ومنشفة معلقة على الجدار المقابل للباب. مروحة جدارية عاطلة استغلها الذباب مكاناً ملائماً يمسح فيه مؤخرته بعد أن يذرق.. أقراص وأشرطة وأفلام كاميرا كانون مرمية أسفل السرير، غرفة ساخرة .. أقول في سري : "هكذا تكون غرفة الشاب ليستمتع بهذه الفوضى".
التقط صوراً لغرفتي كلما أجد مزاجي ملائماً، أو أن أمد بكاميرتي من النافذة، ألتقط صوراً للشارع وهو يضج بالمرضى، مرضى يبحثون عن طبيب سمعوا بشهرته ومرضى نزقون يغازلون البنات والنساء وهم اغلبهم جنود قادمون من ثكناتهم، لا يملكون ثمن العودة إلى منازلهم ، فقط يهمسون ويلمزون ويلمسون ويحكون أكتافهم بأكتافهن المغطاة بألف قطعة للحشمة ولم يسلمن من رعونتهم ..
***
تساءلت بصمت، وأنا ألوك بقايا النعاس العالق في جفنيَّ المثقلين
- من ضحك في أذني ؟
برهة تفكير عميق
- أصبحت الوسادة مصدر الكوابيس والأحلام ..
بحثت عن استنتاج أو جواب آخر لما يجول حولي، القدح المنقلب وبقايا الشاي على المنضدة هو سبب الضحكة أم أن ارتماء القدح تبادر في ذهنه ضحكة!، أم أن المكان مسكون. ركضت عيني إلى الساعة المعلقة على الحائط تذكرت مراسيم التشييع التي لا بد أن أحضرها لرجل من مدينتي التي غادرتها بحثاً عن عمل ، وجئت لمدينة كل شيء فيها ممنوع وسكنت في قلبها المفتوح وشريانها البهر لا يخزن إلا قداسة وعبادة وصلاة وحلوات متبرجات يغطين رؤوسهن بخمارات محكمة وأجسادهن المتلفعة بالسواد ، كل النساء ملفوفات بالسواد ! أهي مدينة اللباس الأسود ؟ مدينة تسورها المقابر ، وموتى مبتسمون لدفنهم قرب ضريح الإمام .
ليس أهل المدينة فقط ، بل حتّى القادمون من المحافظات يخفين النساء نصف وجوههن أو يغطينه بقطعة سوداء ، المضحك المبكي، أن امرأة وبناتها منقبات طلبن مني أن ألتقط لهن صورة ، شبهتهن بالباذنجان ، كان غذاء الفقراء ..
***
ابحث عن حصاة ألقمها نحو الصور المعلقة في ذاكرتي .. أحطم كل المرايا المقابلة لها، حيث كانت تعكسها فتشوب تفكيري.. دون جدوى.. تتراقص الصور معلنة حفلة المزحة والسخرية .. حتى صور القبور ترقص، حتى الموتى يرقصون على نايات وحدتهم، الميت لا يرى ميتاً يرقص جنبه هذا ما تقوله الجدات وهن يحكين الخرافات على الأحفاد . لكنني أجد نفسي ممسكاً بالكاميرا ومصوباً بها المرآة الوحيدة داخل شقتي. لم يفززني صوت التحطم، بل أن خدشاً أصاب كفي ودماً تناثر على الحائط، محدثا لوحة سوريالية كلوحاتي التي تركتها في أدراج الضياع ، ربما افترشتهن أمي أمام الضيوف لتقديم وجبة طعام .!
***
لو أني استطعت أن اعبر الزمن واقرأ شواهد القبور التي ستدسها عدسة كاميرتي أو أن اقرأ شاهدة قبري ما سيكتب عليها (الفنان المصور ...) أم سيكتبون المرحوم وفقط. فيرجع بي التذكر فملامح اللقطة الأولى كانت لمدخل (سوق الحويش) العابق برائحة الكتب في عام 1995 وقد احتفظت بتلك اللقطة العفوية، فازت في مسابقة الجمهورية واحتفظ بما قاله النقاد عنها.. وكذلك من مصوراتي القديمة ـ طير يقف على كتف متسول ـ أشعث الشعر لحيته كثة حمراء ، كان يجوب شوارع المدينة متأبطا عصاه اليابسة ، قالوا لي هذه العصى لم يتركها فهي بيده منذ سنوات طويلة ، لكن لا احد يعرف أصله ومنذ متى هو هنا ، اسمه عايد أبو الجرايد ، لكن رجلا كبير بالسن أوشى إليَّ، كان عايد نهماً بقراءة الجرائد ، وذات صباح كان يقرأ وسرعان ما صرخ صوت شقق صمت جلّاس المقهى وراح يجوب المدينة يصرخ لا احد يفهم من صراخه شيء .
كان الطير قد حطَّ على كتف عايد أبو الجرايد ، إذ نزلت دمعته وبللت ريش وجهه، حاول أن ينقر قطعة خبز قد أخذها عنوة من مطعم شعبي ...
أخذتني قدماي للبحث عن قبر صديقي الفنان مهند عادل الذي وافته المنية بشكل مفاجئ .. بحثت مع دليل الدفن عن القبر، ضحك عندما قلت له الفنان مهند... قال جملته التي لما تزل تغرق في مخي وتطفو ، " خل يفيدكم الفن ، هناك تشبعون كتل " . بعد بحث مضني وقفت على قبره ، شاهدت القبر قد سُرِقتْ وخط على حجرة " هذا قبر مهند عادل " كانت تلك الكتابة بخط يد وبصبغ احمر ..
رجعت مكسور القلب ، دخلت شقتي ابحث عن نهايتي ...
تزداد القهقهة في رأسي ..
وقلبي وجل
وكامرتي ....
و
ل
و
ح
ا
ت
ي
إلى الضيا......ع
محمد الكريم
تم نشر القصة في جريدة المدى
المصدر
https://www.almadapaper.net/ar/news/531842/انكسار