الحب مقامٌ إلهيٌ .. وصف الحق تعالى به نفسه». *محيي الدين بن عربي))

الحب والعشق لدى البشر هما الانفعالات والعواطف التي تختلج بالقلب والنفس عند رؤية المحبوب، هما الرباط الواصل بين قلبين، والشوق والوجد والوله واللقاء، أما العشق الإلهي فله مذهب آخر عند المتصوفة، فعلى الرغم من أن الحب كعاطفة هو واحد، إلا أن الحب الإلهي هو حب منزه عن أية شهوة دنيوية أو رغبة مادية، هو الحب الروحاني الذي يواكب سمو الروح، وهو العشق الذي لا يزول، والإيمان اللا محدود.
يقول دكتور علي حيدر في كتابه مدخل لدراسة التصوف: إن لفظة صوفي أطلقت على الذين يتركون ملذات الحياة ونعيمها، ويخصصون أنفسهم للعمل الصالح، والزهد والتأمل، وهي صفات لا ترتبط حتمًا بالتصوف الإسلامي، فالمذهب الصوفي، على الرغم من اختلاف طريقته بين الديانات المختلفة السماوية منها والأرضية، إلا أنه ارتبط عند الجميع بمبادئ واحدة، وهي الحب، والتوق للمحبوب والزهد في متاع الدنيا والتأمل كطريقٍ للوصول للذات الإلهية، وعبر كافة المتصوفة عن تلك الرغبة في لقاء المحبوب عن طريق الشعر والأدب، والكتابات الخاصة بالمتصوفة، ومذكراتهم، سواء كان هذا التصوف إسلاميًا أم مسيحيًا، فيقول «ولتر ستيس» في كتابه التصوف والفلسفة: «التجربة الصوفية واحدة عند جميع المتصوفة: إذ تتفق التجارب الصوفية التي رواها: المسيحيون والمسلمون، واليهود والهندوس والبوذيون، وأيضًا المتصوفة الذين لم يتبعوا عقيدة دينية محددة، لكنها تختلف في تأويل كل متصوف لتجاربه تأويلًا عقليًا مستمدًا من خصائص ثقافية».


السمو الروحي بين التصوف المسيحي والإسلامي
كان النبي محمد ينعزل عن الناس في غار حراء، يتعبد ويصلي ويتأمل الوجود من حوله، ونزل عليه الوحي في عامه الأربعين، بحسب الرواية الإسلامية، وهو في سن النضج ليس الفكري فقط، وإنما الروحي، ففي سيرة ابن هشام يقول بن إسحق في ذكر الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها حدثته أن أول ما بدئ به رسول الله الرؤيا الصادقة، لا يرى رسول الله من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به رؤيا في نومه، إلا جاءت كفلق الصبح، قالت: وحبب الله إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده.
أما المسيح فكثيرًا ما كان ينفرد في الجبل ليصلي، كما ورد في إنجيل لوقا: «وكان في النهار يعلم في الهيكل، وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون » (لو 21 / 37 )، فكان يُعلم الناس في الهيكل في النهار فيأتون له من كل حدب وصوب ويستمعون له، وفي الليل كان يخلو بنفسه، فكانت الخلوة بالنفس والتعبد هي خطواتهم الأولى للوصول إلى الله.
والخلوة في التصوف الإسلامي، ليست فقط خلوة مع النفس ولكنها خلوة مع الله، ورياضة روحية، يجاهد بها المرء الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس؛ يجاهد كل الرغبات والشهوات التي يمتلئ بها العالم المادي، فالمُريد لا يحصل على مراده دون الدخول في الخلوة، فيقول ابن عطاء الله السكندري: «ما نفع القلب شيء مثل خلوة دخل بها ميدان فكره»، فالعزلة تطهر القلوب، وتجعلنا نتأمل في مخلوقات بارئ السموات والأرض، وقد تكون العزلة هي عزلة القلب، أن تتفكر وتتأمل رغمًا عن أن جسدك حاضرًا في مجالس الناس، لأنها عزلة فكر أكثر منها عزلةً جسدية.
تقول رابعة العدوية عن هذا في مقام المشاهدة القلبية: «ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي، وأبحت جسمي من أراد جلوسي، فالجسم مني للجليس مؤانس، وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسٌ».

أما الخلوة في التصوف المسيحي، فهي المبدأ الثاني للرهبنة، وكانت تتم في الصحاري والجبال والمناطق النائية، فيقول الأنبا يوأنس في كتابه مذكرات في الرهبنة المسيحية عن الوحدة والاعتزال عن الناس في المسيحية أنها شعور لازم المسيحيين منذ أيام المسيحية الأولى، فقد شعروا بعزلة عن العالم وأن لسيرة إيليا ويوحنا المعمدان أثر على الفكر المسيحي في هذا الشأن، فإيليا عاش عند نهر كريت وكانت الغربان تطعمه، أما يوحنا المعمدان فكان في البراري، وبولس الرسول بعد إيمانه انطلق إلى الصحراء العربية شرقي دمشق، ويستكمل: لذلك كانت الخلوة نافعة جدًا ولازمة لإنعاش الروح، فبقدر ما تتسع الصحاري والجبال، تتسع آفاق النفس والقلب والفكر.
يقول القديس يوحنا والمعروف باسم الشيخ الروحاني في مناجاة له مع الله عن الخلوة: «أقطع حديثي مع الناس لأتحدث معك، أغلق بابي لتفتح أنت لي بابك. أحرم نفسي من الشمس الطبيعية لتشرق أنت لي، يا شمس البر والشفاء في أجنحتها».

الفقر الاختياري.. ما الذي يفعله التجرد والزهد في النفس الإنسانية؟

تقول رابعة العدوية: «إن كنت أعبدك طمعًا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفًا من نارك فاحرقني بها، وإنما أعبدك لأنك أحق بالعبادة».
فهدف المحبة في التجربة الصوفية الإسلامية، هو الفناء في ذات الله، وهو أمرًا ليس هينًا، فالصوفي يجب أن يدأب ليل نهار لتطهير نفسه من كل المظاهر المادية والدنيوية، فكان السهروردي مؤسس المدرسة الإشراقية في التصوف، مذهبه أن الله هو نور الأنوار وأصل الموجودات، فمتى تجردت النفس عن علائق البدن وشهواته، تيسر لها الاتحاد بالله والاتصال بنوره، وهو الأمر الذي جعله يختار الجوع كنوع من أنواع الرياضة الروحية، لترويض شهوات البدن، ففي كتابه حكمة الإشراق يقول إنك إذا أردت حقيقة الحكمة وكنت مستعدًا لله، فأخلص لله تعالى، وانسلخ عن الدنيا انسلاخ الحية من جلدها، لعلك تظفر بها.
وقد تعرض السهروردي للقتل واتهم بالكفر ويقال إنه حُكم عليه بالصلب والخنق، ولذلك أطلقوا عليه السهروردي المقتول، ولكن يقال إنه اختار الموت جوعًا، لأن الجوع كان رياضته الروحية المفضلة، فيقول في قصيدة: أبدًا تحنُ إليكم الأرواح وكأنه يتنبأ بمقتله:
للعاشِقينَ تَكلّفوا ستر المَحبّةِ وَالهَوى فَضّاحُ
بِالسرِّ إِن باحوا تُباحُ دِماؤُهم وَكَذا دِماءُ العاشِقينَ تُباحُ

أما التجرد في الرهبنة المسيحية فهو ليس تابعًا لهوى المرء، لأنه أحد أسس الرهبنة الأساسية، فيعيش الراهب فقيرًا زاهدًا في متاع الدنيا كما عاش معلمه وسيده المسيح، ولكن هذا التجرد هو التخلي عن الأموال والثروات بإرادة الراغب في ذلك الكاملة، ولذلك يطلق عليه الفقر الاختياري، وهو أحد أهم تعاليم المسيح حيث قال: «لا تكنزوا لكم كنوزًا في الأرض، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء؛ لأنه حيث يكون كنزك يكون هناك قلبك أيضًا».
وكان الرسول بولس أحد هؤلاء الزاهدين في المال، فلم ينه فقط عن محبة المال؛ لأنها أصل الشرور، بل طلب من المؤمنين أن يهربوا منها فيقول: «لأننا لم ندخل العالم بشيء، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منها بشيء، فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما».
أما القديس فيلوكسينوس فيقول: «الإنسان لا يستطيع أن يسير في طريق الكمال ما دام يملك شيئًا جسدانيًا، لأنه حسب مقدار الامتلاك تكون رباطات النفس التي تهبط جناحات العقل، فتعطل طيرانها إلى طريق السماء».


لوازم الحب الإلهي

يقول ابن عربي في كتابه لوازم الحب الإلهي: «لوازم الحب تكسوني هويتها .. ثوب النقيضين مثل الحاضر الساهي»

ويستعرض ابن عربي في كتابه ما رآه فرضًا ولزامًا علينا للوصول لتلك الدرجة من الحب الإلهي، فيقول: إن مشاهدة المحبوب هي البغية، ولها آداب تتبع، فعلينا أن نكون أكثر استعطافًا لرضا المحبوب واستلطافًا به، فنصل لدرجة من الوله الغالب على القلب، وأن الدمع والبكاء لشوقٍ أو لحنين يطهران القلب المُحب، وأن البوح والإفشاء والإعلان لا يأتيان، إلا بعد أن يغلبنا سلطان الحب؛ فنعشق، ويقول عن هذا: إن البوح أبلغ في المحبة من الكتمان، فصاحب الكتمان ذو سلطان على الحب، أما البائح فيغلبه سلطان الحب، فهو أعشق.
وفي كتاب الدكتور محمد مصطفى حلمي «الحب الإلهي في التصوف الإسلامي» يقول: إن هناك حبين، حبًا إلهيًا، وحبًا نبويًا، والحب الإلهي هو الذي يتخذ فيه المُحب موضوع حُبه من الذات الإلهية، ويتحدث فيه عن الحب المتبادل بين الله والإنسان، أما الحب النبوي فهو الذي يستقي موضوع حبه من النور المحمدي الذي هو أسبق في الوجود من كل موجود، وقد عبر شعراء المتصوفة عن كلا الحبين في أشعارهم، ولكنهم خلطوه برموز الحُب الإنساني من عبارات الغزل والخمر، التي اتخذوها كاستعاراتٍ مكنية ومجازات.
يقول الباحث مصطفي حلمي: «لقد التمسوا ألفاظهم وعباراتهم من معجم الشعر الغزلي والخمري، الذي خلفه المحبون من العذريين الذين تغنوا في شعرهم عن الحب الأفلاطوني العفيف على نحو ما فعل مجنون ليلى وجميل بثينة»، ويستكمل: «فالعشق والصبابة والهيام، والشوق والأسى والغرام، والصد والرد، ومجالس الشراب والندمان، والسُكر ونشوته، كل هذا وغيره من الألفاظ الغزلية والخمرية نجده منبثًا هنا أو هناك في روائع الشعر الصوفي الإسلامي»، والتي قد فسرها بأن من يقف على شعر هؤلاء، دون أن تكون نفسه قد صفت من شهواتها ونزواتها سيتخذها كما اتخذها عليهم المتعصبون بافتراض سوء النية والفطرة السيئة، ولكن هذه الألفاظ والعبارات الغزلية إنما هي استعارات ورموز لن تفهمها قلوب هؤلاء الغارقين في بحور المادية، وظلمات الحياة الحسية.

أما لوازم الحب الإلهي في التصوف المسيحي، فيقول عنها القديس بولس: إن الفضائل الإلهية ثلاث: الإيمان، والمحبة، والرجاء، والإيمان به نصل للحقيقة والمعرفة، التي یعرف الله بھا ذاته الممنوحة للإنسان بنوع جزئي، فيقول المونسینیورغي: «بالإيمان یصبح نور الله نورنا وحكمته حكمتنا وعمله علمنا وروحه روحنا وحیاته حیاتنا». الإيمان يوسع دائرة معرفتنا بحقيقة الله، وأنه موهبة يجب على المبتدئين أن يجاهدوا كثيرًا ليثبتوا إيمانهم.
أما المحبة فهي من الله، فبما أنه ملأ الكيان والكمال والصلاح فهو محبوب للغاية. يقول يسوع في إنجيل متى: «تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك»، والتي يشرحها القديس فرنسيس سالس أن علينا أن نجعل تلك المحبة لله تفوق كل محبة في أنفسنا فتتفوق على أهوائنا.
أما الرجاء فهو لازم لبلوغ غاية الخير المرجوة، فهو يجرد النفس من كل الرغبات المادية بتضرع إلى غاية كبرى وهي السعادة الأبدية.
ويعتبر سفر نشيد الإنشاد هو خير ما عبر عن تلك التجربة الصوفية المسيحية الروحانية، كشعر صوفي خالص تمامًا، ككتابات ابن الفارض، وابن عربي، كما أنه تعرض مثلهم لنفس الاتهامات التي لاحقت الشعراء الصوفيين لاستخدامهم الاستعارات الغزلية والخمرية
اِجْعَلْنِي كَخَاتِمٍ عَلَى قَلْبِكَ، كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ. لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ. الْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَالْهَاوِيَةِ. لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ لَظَى الرَّبِّ.
مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ، وَالسُّيُولُ لاَ تَغْمُرُهَا. إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ، تُحْتَقَرُ احْتِقَارًا.

من هنا نجد التشابه الكبير بين التجربة الصوفية المسيحية والإسلامية، حيث يعتمد الاثنان على تطهير النفس مما علق بها من الأهواء والشهوات المادية، من أجل الوصول إلى تجلي الله في النفس، وهو ليس تجليًا ماديًا، وإنما هو تجليًا أخلاقيًا في اتباع تعاليمه.

الفروق التي تفصل بين التجربة الصوفية الإسلامية والمسيحية

على الرغم من أن الحب واحد، إلا أن هناك فرقان جوهريان بين كلتا التجربتين الروحانيتين: المسيحية والإسلامية، فالبتولية في الرهبنة المسيحية تقوم على أساس اقتضاء ببتولية مريم العذراء والمسيح الذي ظل عازبًا حتى قضى نحبه، فعدم الزواج في الحياة الرهبانية هو تشبه بالملائكة فيقول المسيح عنها في إنجيل متى: «لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء»، ولكنه أبقى الأمر لمن أرادوا واستطاعوا.
أما الفارق الآخر والذي يتخذه الفلاسفة كفرق جوهري، هو أن التصوف الإسلامي قائم على تضئيل الذات، بل فنائها لأن الله هو كل شيء، ولا وجود لأي شيء آخر بما في ذلك الكيان الإنساني، ففي النصف الثاني من القرن الثالث للهجرة ظهرت فرقة من فرق الصوفية وهي فرقة الملامتية، والتي تعني بمجاهدة النفس ورياضتها رياضة تنتهي بالسالك نحو إنكار الذات، وهي تعاليم الزهد الإسلامي في صورته الأولى، أما التصوف المسيحي فوجود الله فيه لا ينفي وجود الكيان البشري، ولا يلغيه، بل يوثق رباط المحبة بين الكائن البشري والله، عن طريق الاتحاد بالله.
والحقيقة أنه في التجربتين المعنى واحدأ حتى وإن اختلف التعبير، فإنكار الذات من أجل أن يحل بها التجلي الإلهي الأخلاقي، هو نفسه السمو بالذات فوق الماديات عن طريق الاتحاد بالله للوصول لنفس التجلي.