أزمات صنعت ابتكارات – 1: جوزفين كوكرين وآلة غسل الصحون!
الحاجة أم الاختراع وهي تفتق الحيلة، يمكنك إحالة كل عملٍ إبداعي أو مصيري في حياة الأفراد والشعوب لهذا المبدأ. إذا كفت الشعوب عن الشكوى، أي توقفت عن الحاجة فقد توقفت عن الإبداع والإنجاز والابتكار. الحاجة تمثل دوافع تحقيق الذات والمجتمعات، فإن كانت لديك رغبةً ما في تحقيق أحد منجزاتك الحياتية؛ فاسعَ جاهدًا لنقلها من حيز الرغبة إلى منطقة الحاجة واسمح لي أن نطلق عليها منطقة الطوارئ الرشيدة. عندما تنتقل طموحاتك من مجرد رغبة تلوح في الأفق إلى حاجة ملحة في منطقة الطوارئ الرشيدة؛ فأنت ستجد لها وسائل قوية لتنفيذها وتجسيدها في دنيا الواقع. ولربما تسأل: لما تُطلِق على منطقة الطوارئ “الرشيدة”؟ وهذا سؤال ممتاز؛ وجوابه أنَّ التعامل مع منطقة الطوارئ قد يكون بعشوائية، ويترتب عليه إضاعة الوقت في القلق والتوتر السلبي أو الدخول في حالة من الرثائيات والحسرة والتفكير السوداوي. على النقيض فإن استثمار الظروف وتهيئتها لخلق بيئة ابتكار رشيدة، وهذا ما نسعى لتحقيقه، أليس كذلك؟
خلال رحلتنا هذه ستقف بنفسك على أهمية أن تنقل الرغبات السطحية إلى حاجات عميقة؛ لتجد من السبل ما تترجم به هذه الحاجات في صورة إنجازات غير مسبوقة. إن كان أقصر طريق لقلب الرجل هو معدته؛ فإن هناك تبعات كثيرة يتعين على المرأة تحقيقها في سبيل الوصول لغرضها المنشود. عملية الطهي المضنية أحيانًا وما يسبقها من تحديد المواد الغذائية المطلوبة، ثم شراء تلك المواد ونقلها للمنزل، متبوعةً بتحضير الطعام وتناوله، مع انتظار كلمة شكر تثمن المجهود المبذول في إعداد هذا الطعام أو حتى الإشراف عليه؛ لاقتناص نشوة السعادة ببلوغ الهدف. كل هذا جيد لا خلاف عليه، ولكن تبقى مشكلة أخرى تؤرق المرأة وهي معركة غسل الأطباق، لا أبالغ في وصفها بالمعركة، فإن كنت تعارض هذه التسمية فحاول أن تمارس غسل الأطباق مرة أو مرتين ثم ناقشني في ذلك. بمرور الوقت يصبح مجرد هاجس غسل الأطباق يقض مضجع المرأة وقد تفترس الرجل إن سأل عن الطعام!
هذه مشكلة قد تختلف النساء بشأن حجمها كمشكلة يومية، ثم ماذا لو كانت المشكلة تفوق تصورنا؟ هنا تحديدًا تخرج المشكلة من إطار رغبة سيدة أو أكثر في التخلص من عناء غسل الأطباق إلى الحاجة الماسة لضرورة إيجاد بديل. وكلما كانت العزومات كثيرة في البيت كلما انتفخت أوداج المرأة واستشاطت غيظًا من هرم الأطباق الذي لا ينتهي، ولابد من وجود حل لهذه المعضلة. لابد من وجود حل .. هذه الجملة العبقرية تؤكد الحاجة لمخرج من هذا المأزق الراهن، وهذا بالفعل ما حدث للسيدة جوزفين كوكرين.
نشأت جوزفين كوكرين في بيتٍ اجتماعي من الطراز الأول؛ فالحفلات تتوالى والمنزل لا تنقطع ضيوفه. كان المنزل الكبير يضم عددًا كبيرًا من الخدم يكفون جوزفين تبعة غسل الأطباق فضلاً عن القيام بكل الأعباء المنزلية، ولذلك لا يوجد سبب مقنع للتحرك وبذل مجهود في هذا الشأن. كانت تمتلك جوزفين أطقُمًا خزفية ثمينة جدًا، كانت بعض هذه الأطقم الفاخرة تتعرض للكسر عندما يغسلها الخدم. شعرت جوزفين بغُصة تجاه ذلك، وتملكها شعور بالمرارة لحزنها على أطقمها الخزفية. اتخذت جوزفين قرارًا صعبًا بأن تقوم بنفسها بمهمة غسل أطقمها الخزفية للحفاظ عليها، كان القرار صعبًا لأنها لم تعتد على ممارسة هذه الأعمال؛ ولم تستمر في ذلك مما تسبب لها في مضايقة بالغة ليلَ نهار. كانت قناعة جوزفين بأهمية إيجاد حل بديل لا حدود لها، لابد من وجود طريقة أفضل للقيام بتنظيف الأطباق، هنا انتقل اهتمام جوزفين من مجرد رغبة في إيجاد طريقة أفضل لتنظيف الأطباق إلى حاجة ملحة وتتطلب حلاً عاجلاً.
<
حاولت كوكرين ابتكار تصميم يضمن ضخ المياه بقوة لإزالة الاتساخات الصلبة من الأطباق، وعملت جاهدةً على تحقيق هذا التصميم. خلال انخراطها في عملها توفى زوجها وتركها تغرق لأذنيها في الديون، ولم يثْنِها ذلك عن مرادها الذي أصرت على نقله للواقع. عاصر كوكرين آخرون كُثُر حاولوا اختراع أجهزة مشابهة لما أقبلت عليه كوكرين، كان من بين هذه المحاولات تسجيل اختراع عام 1850 لآلة غسل الأطباق تعمل بحركة اليد. المدهش في الأمر أن أيّا من هذه الاختراعات لم يكن فعالاً بصورة كافية للتنفيذ على مستوى تجاري؛ فقررت كوكرين تلبية حاجة المستهلك النهائي الذي ربما يعاني نفس معاناتها مع أطباقها الفاخرة. المشاعر التي صاحبت حماس كوكرين لاختراعها يصعب جدًا أن يعتريها الفتور لأنها عاشت مرارة التجربة؛ فكان صدقها في البحث عن حل هو الوقود الذي يدفعها بقوة لاجتياز كلِّ فشل تتعرض له. لولا أنَّ كوكرين خاضت بنفسها المشكلة لكان من المحتمل أن تتراجع عن إكمال مسيرتها في إنتاج آلة تعين السيدات على غسل الأطباق بسهولة.
ضاقت الأحوال بكوكرين نتيجة الديون، ولكنها لم تتوانَ عن متابعة إنجازها المحتمل؛ فواصلت محاولاتها في سقيفة صغيرة خلف بيتها وصنعت حاملات من الأسلاك؛ لتستوعب الأطباق والأكواب ووضعتها بداخل إطار دائري مستقر بشكل مستوي فوق غلاية نحاسية. أضافت كوكرين محركًا يدويًا لتدوير الإطار؛ ليتدفق الماء الممزوج بالصابون ويعمل على تنظيف الأطباق بشكلٍ متساوي. في عام 1886 حصدت كوكرين براءة اختراعها وبدأت بتصنيع ماكينة غسل الأطباق لأصدقائها ، فضلاً عن تسويق الماكينة في صحيفة محلية. بعد فترة أسست كوكرين شركتها الخاصة تحت اسم Kitchen Aid واستقطبت ماكينتها اهتمام المطاعم والفنادق. وفي 1893 قدمت كوكرين ماكينتها للعالم في معرض شيغاكو العالمي، وقد حصلت ماكينة كوكرين على جائزة في هذا المعرض. توفيت كوكرين عام 1913 عن عمرٍ يناهز 74 عامًا، وقد حققت هدفها الذي أخلصت له وقدمت للنساء في أرجاء المعمورة خدمةً جليلة. حازت ماكينة كوكرين الشهرة مع خمسينيات القرن الماضي، واليوم أصبحت شركة كوكرين ويرلبول Whirlpool العالمية.
عندما ينتقل اهتمام المرء بمسألةٍ ما من مجرد رغبة عادية إلى حاجة ماسة التي تسيطر على كل وقته، فعندها -وعندها فقط- يعصر أفكاره ويوجهها ليصل بها لتحقيق غايته المرجوة. شتان بين التغني بالأهداف الكبيرة والرسالة السامية وبين وضع تلك الأهداف حيز التنفيذ، قد يكون هذا الملمح المهم الفارق الرئيس بين الناجحين وغيرهم، وقد فطن لذلك المهلب بن أبي صُفرة إذ سأله أحدهم يومًا: بما بلغتَ ما بلغت؟ قال: بالعلم، فلم يقتنع السائل بهذه الإجابة، وأردف قائلاً: في الناسِ من هو أعلمُ منك ولم يحظَ بما حظيتَ به!! فإذا بالرد الناصع الساطع من المهلب -ليكون لنا مرشدًا في كلِّ ما نود تحقيقه- فيقول: هذا عِلمٌ استُعْمِل، وذلك علمٌ حُمِّل. قطعًا هناك تمايزٌ بين العلم الذي يوضع موضع التنفيذ وبين العلم الذي لا يجد له على أرض الواقع وجودًا؛ فيُنسى ويصبح كأن لم يكن. الحاجة هي التي تُحرِّك الشعوب نحو الإنتاج والابتكار، هي التي تولِّد معاناة الرجال ومن رحِمِ هذه المعاناة تولَّدُ النماذج البشرية المشرِّفة. إذا واجهتك مشكلة ما؛ فلا تبتأس وتعامل معها كما لو كانت منحة ستغيِّر حياتك للأفضل، وثق بأنَّه لم يعرف قوته من لم يتعرض للمِحن، وليس معنى أنَّك تواجه يومًا صعبًا أن مستقبلك سيكون أقلَّ إشراقًا من الناجحين. أنت تستحق الأفضل؛ فتمسَّك بهذا الأمل واجتهد في تحقيقه.