بسم الله الرحمن الرحيم
لم يفرض الشارع الحكيم أمرا ولم ينه عن نهي إلا وفيه الخير الكثير، وهذا من نعم الله على هذه الأمة، ومن مميزاتها التي تجعلها تختلف عن سائر الأمم والبشر، فلقد قام إسلامنا على ركائز وأركان لا يستقيم حال الإنسان إلا بالإيمان المطلق بها، ومن أبرزها فريضة الصيام، والتي ليس المقصود منها تعذيب الإنسان وحرمانه من متع الدنيا وملذاتها، والمتعمق في أبعاد الصوم يدرك فضائله، ويعرف المعاني المقصودة من فرضه على الإنسان، ومن أبرز الأبعاد التي تحتويها فريضة الصوم هي البعد الاقتصادي، فهناك جوانب اقتصاديه كثيرة للصيام يمكننا أن نلخصها بما هو آت:
- الترشيد والاقتصاد: يفترض الإسلام أن المستهلك هو شخص رشيد وعقلاني يجب أن يكون استهلاكه موافقة لهدفه، وليس لغاية التفاخر والتباهي كما هو حال انتشار الأنماط الاستهلاكية اليوم بين الناس في الشرق والغرب والتي غايتها فقط الترف وإشباع النفس من الكماليات والمتع بعيداً عن الحاجيات والضروريات، فالصوم في عقيدتنا أحد أهم وسائل الترشيد في الاستهلاك؛ لأن المسلم يأكل في اليوم وجبة واحدة، ولفترة محدودة، لذا فالمنطق يستدعي أن تكون كمية الطعام المستهلكة هي ثلث ما يستهلكه في الأيام العادية، وفي ذلك توفير للنقود والأموال المبذولة على الإنفاق على الطعام والشراب، ولكن مع الأسف فإن العكس هو الذي يحصل مع غالبية الصائمين، حيث تمتلئ الموائد بما هب ودب من أنواع الطعام والشراب الذي يذهب غالبه إلى حاويات القمامة بعد الإفطار، وهذا حال كثير من المسلمين في بلاد الشرق والغرب، والله المستعان.
- التكافل والتعاضد الاجتماعي: إن شعور الصائم بالجوع والعطش هو أحد الطرق والوسائل التي تدفع الإنسان ليشعر مع الفقراء والمساكين الذي يعيشون هذه الحالة على مدار العام، لذا يدفعه ذلك الشعور إلى بذل ما استطاع من الأموال والأطعمة على الفقراء والمحتاجين، خاصة أن الإسلام يحث على الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء والمساكين بصفة عامة، وفى رمضان بصفة خاصة، وذلك لسد حاجة المعوزين والتوسعة عليهم، وكذلك فإن هذا الإنفاق يساهم في إدخال الفرحة إلى قلوب الفقراء والمعوزين حتى لا يشعروا بمرارة الحاجة والفقر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون في الصدقات، وتقديم الطعام للصائمين.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جواداً، وأكثر ما يكون في رمضان، فقد روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أجود بالخير من الريح المرسلة" (رواه البخاري).
فكثرة التصدق في شهر رمضان تمكن الفقراء والمساكين من شراء مستلزمات الحياة وهذا بدوره يسبب نشاطا في حركة البيع والشراء مما يؤدي إلى انتعاش الأسواق وبالتالي تحريك الاقتصاد وينعكس ذلك كله في النهاية على الاقتصاد الكلي للدولة، ويمكن لنا مشاهدة ذلك على أرض الواقع في أيام رمضان.
- (الفدية): تساهم الفدية التي أمر بها الشارع الحكيم على غير المستطيع للصيام في إنعاش الحركة الاقتصادية وتحسين الواقع المعاشي لمستحقيها، حيث فرض الإسلام على من لا يستطيع الصيام إخراج الفدية حيث يقول الله - تبارك وتعالى -: " فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له " (البقرة: 184).
ففي هذه الآية الكريمة يطلب الله - سبحانه وتعالى - من الذي لا يطيق الصوم لسبب شرعي كالمسنين والمرضى أو المراضع أو الحوامل الذين يشق عليهم الصيام، أن يفطروا، ومقابل هذا الإفطار عليهم دفع الفدية إلى الفقراء والمساكين بحيث يطعم مسكيناً من أوسط طعام الناس ولا شك أن هذه التوسعات والتسهيلات تساهم في تحسين الواقع المعاشي والوضع الاقتصادي لفئات كثيرة في المجتمع تسهم في النهاية في تحسين الوضع الاقتصادي في البلاد برمته.
لأن هذه الفدية تساهم في رفع مستوى الفقراء والمساكين وتعينهم على العمل والكسب وفى هذا تنمية اقتصادية لطبقة كبيرة من الناس.
- (زكاة الفطر): من أعظم وسائل التوسعة الاقتصادية والمعاشية في رمضان هي زكاة الفطر، فبالإضافة إلى الجوانب الروحية المقصودة منها إلا أنها تساهم في التوسعة والتيسير على المحتاجين، فقد فرض الرسول صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمراً أو صاعاً من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين، وفي ذلك يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمه للمساكين "(رواه أبو داود).
والحكمة من صدقة الفطر كما يقول كثير من فقهاء المسلمين هي سد حاجة الفقراء والمساكين، وما في حكمهم، وتقوية لروابط التكافل والتراحم بين المسلمين حتى يشعروا بالأخوة الإسلامية، والحب في الله، كما أنها تطهير للصائم من السيئات التي يكون قد ارتكبها أثناء صومه؛ لأن للحسنات آثارها الطيبة في محو السيئات مصداقاً لقول رسـول الله صلى الله عليه وسلم: "واتبع السيئة الحسنة تمحهـــا " (رواه احمد والترمذي).
إن إخراج زكاة الفطر بجانب أنها عبادة روحية، إلا أنها تساهم في تحريك عجلة الحياة الاقتصادية لأنها تساهم في تحريك الأموال و انتقالها بين الناس حتى لا تبقى دولة بين الأغنياء فحسب، وهذا الانتقال يساهم في سد حاجات الفقراء والمعوزين المادية مثل المأكل والمشرب والملبس وهذا بدوره يساهم في خلق قوة شرائية تزيد من النشاط الاقتصادي، وهذا ما نشاهده في الأيام الأخيرة من شهر رمضان وفى أيام عيد الفطر حيث تزداد حركة المشتريات والمبيعات في الأسواق.
- الصحة والعافية والشفاء من الأمراض: لأن الصوم فيه شفاء من كثير من العلل لدرجة أن بعض الدول الأوروبية - كما هو في ألمانيا - افتتحت مستشفيات خاصة لا تعالج إلا بالصوم على الطريقة الإسلامية، وقد أثبتت هذه الوسيلة فعاليتها، مما يسهم في تخفيض النفقات والأموال المنفقة على العلاجات والتداوي والتشافي، وبالتالي تقليص الأعباء المادية التي قد يتحملها الفرد المسلم.
- زيادة الإنتاج: لم يكن الصيام وسيلة للخمول ولا للكسل ولم يفرضه الشارع الحكيم من أجل النوم وتقليص الإنتاج، بل فيه اختبار لقدرة الإنسان على الصبر على الإنتاج والعطاء وتحقيق ما يمكن أن يعجز عنه في أوقات الإفطار ولنا في السلف الصالح خير قدوة حيث حققوا الإنجازات والانتصارات العظيمة في رمضان، فرمضان شهر الإنتاج والعمل والعطاء، لأن من حكم الصوم هو الإخلاص، بل والصبر على الإخلاص رغم التعب والجوع والعطش.
نرجو المولى - عز وجل - أن يجعل من رمضان طريقا للعمل والإنتاج وتحسين الواقع الاقتصادي للأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، إنه سميع مجيب.