قد يتبادر إلى ذهن من يقرأ عنوان هذا المقال أشياء كثيرة، في هذا الزمن المتسارع الخطى، والذي قلت فيه البركة في الوقت حتى صار الزمن فعلاً يتفلت من بين أيدينا.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ - وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ - حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ".. حقًا إن الزمان يتقارب، وسرعان ما نجد الأيام قد ولَّت، والشهور قد انقضت، ويتحسَّر بعضنا على فواتها، ولا ينتبه أكثرنا إلى ضياعها..

أيها الإخوة والأخوات الكرام..
لم يبق في شهر رمضان إلا أيام قليلة، وليال معدودة، وعما قريب نقول قد انتهى الشهر الكريم، وعلينا أن ننتظر سنة كاملة - إن كان في العمر بقية - حتى ندرك رمضان من العام القادم..

مهما كانت الأحداث التي تمر بالأمة فإن رمضان له صفات لا تتبدل أو تتغير على مر الزمان.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ".. هذه حقائق ثابتة غير مرتبطة بأحداث الأرض، فمهما كانت ظروفنا صعبة، ومهما كانت أحوالنا متقلبة، تظل أبواب الجنة مفتَّحة في رمضان، وتظل أبواب النار مغلَّقة، وتظل الشياطين مصفدة، وعما قليل عندما يأتي شهر شوال يعود الكون إلى طبيعته الأولى، وتنتهي نفحات رمضان.

إن المنادي قد نادى علينا جميعًا: "يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ"..

فمن الملبي يا أحبابي؟!

إياك أن تخرج من هذا الشهر وقد بقى لك ذنبٌ لم يُغفر! فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ .."

قف بين يدي مولاك كثيرًا، واطلب العفو والغفران.. ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يلفت نظر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى أهم الأعمال في ليلة القدر إن أدركتها فيقول لها: "قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي"..

ما زالت أمامنا فرصة والحمد لله..

أكثروا من التوبة والاستغفار وطلب العفو من الكريم..

لا تضيعوا اللحظات الأخيرة من الشهر الكريم في جدالات وحوارات، وفي تعليق على كلام فلان أو غيره، وفي متابعة لوسائل الإعلام، وفي كذا وكذا من الأمور التي يوهمك الشيطان أنها مهمة جدًا في هذه اللحظات..

حِذار من إبليس..

إنه يريد للشهر أن يتفلت من بين يديك، فهو مصفد الآن، لكن ما زالت له وسوسة، وهو لا يريدك أن ترقى في سلم الطاعة، وهو مسلسل في هذه الحالة.. لا تعطه الفرصة.. فلتكن مفاجأتك له أنك قد بدأت شهر شوال بصفحة بيضاء بلا ذنوب..
قد أعطاك الله فرصة الحياة في رمضان، وهذه الفرصة لم يعطها لبعض إخواننا وأخواتنا الذين قضوا وماتوا قبل شهر رمضان.. فلا تضيع هذه الفرصة فقد لا تعود..

قال أبو هريرة رضي الله عنه: "كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ حَيٌّ مِنْ قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا، وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا، أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ، أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ السَّنَةِ؟".

إن أمامنا أيها المسلمون والمسلمات فرصة كبيرة لإدراك الشهداء، وللسبق في ميدان الطاعة، وللإسراع إلى دخول الجنة، فاحرص على وقتك من الآن فصاعدًا، ولا تمرنَّ عليك لحظة دون ذكر أو قرآن، أو صلاة أو دعاء، أو صلة رحم أو عون محتاج، أو صدقة أو إحسان، وترقَّب ليلة القدر، وادع الله أن يرزقك قيامها إيمانًا واحتسابًا، فنحن لا ندري أين سنكون في عامنا القادم.. أمن أهل الدنيا أم من سكان القبور..

ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين.

دكتور راغب السرجاني
قصة الإسلام