منذ تأسيس الدولة الإسبانية الحديثة، في نهاية القرن الخامس عشر، بعد نهاية الحكم الإسلامي في غرناطة على يد الملكَين الكاثوليكيَّين إيزابيل وفرناندو، تحدّدت هوية الشعب الإسباني ضمن إطار الدين المسيحي.
وفي أوائل القرن العشرين انتقلت الحكومة من مملكة إلى جمهورية، وتم فصل الدين عن الدولة في دستور عام 1931. ولكن الجمهورية لم تدم إلّا بضع سنوات، إذ قام انقلاب عسكري في عام 1936 أدّى إلى حرب أهلية.




كانت الحرب الأهلية في إسبانيا بين عامي 1936 إلى 1939، بين الجمهوريين اليساريين، وبين الوطنيين الذين يعرفون بـ"الكتائب"، والذين انتهت الحرب بفوزهم بقيادة فرانثيسكو فرانكو في عام 1939، عند بداية الحرب العالمية الثانية.
فرض فرانكو نظاماً ديكتاتورياً حتى وفاته عام 1975، وتحول النظام العسكري بعده إلى ملكي دستوري ديموقراطي، وهو النظام القائم حتى الآن.

العرب في الحرب الأهلية الإسبانية
اعتمدت دولة فرانكو العسكرية الدين المسيحي الكاثوليكي من جديد كسمة من سمات الهوية الوطنية وأحد أُسس قانون البلاد، وكان ذلك بشكل متطرِّف في بداية الأمر إلى أن سمحت في أواخر الخمسينيات بحرية دينية محدودة للأقليات بأمر من الفاتيكان.



والمثير أنّ جزءاً من الجيش الذي ساند الفئة العسكرية التي نجحت في انقلابها على الجمهورية الشرعية كان مغربياً ومسلماً. فكيف تمكن فرانكو من تبرير موقفه في أرض كشبه الجزيرة الإيبيرية بماضيها الأندلسي؟
وخاصة أنه بعد نفي الموريسكيين في أوائل القرن السابع عشر كان يُنظر إلى العنصر العربي والإسلامي نظرة الغريب في أحسن الأحوال أو العدو التاريخي للدين المسيحي في أسوئها.
الجمهوريون، الذين دافعوا عن العلمانية، قاتلوا بشراسة في الحرب الأهلية، وقد قَدِم مقاتلون من حول العالم لمساندتهم في حربهم ضد الوطنيين، وكان معظمهم مدعوماً من الجماعات والأحزاب الشيوعية والاشتراكية حول العالم.
نظر الجمهوريون إلى جنود شمال إفريقية كـ"أعداء"، وكان سبب ذلك نظرتهم للتاريخ على أنّه عداوة بين الشعبَين، واعتبار قيام الأندلس غزواً من شمال إفريقية لإسبانية.



أما القوميون الذين ساندوا النظام العسكري والكنيسة الكاثوليكية الإسبانية، فقد رفعوا شعار الحروب الصليبية بمعنى جديد، يقترن فيه الإيمان بالانتماء إلى إيديولوجيا سياسية معينة.
أي أنهم اعتبروا من يدافع عن القومية (وعن فريقهم)، مؤمناً بها، مهما كان دينه، وكانوا مؤمنين بأنهم يحاربون بعون إلهيّ ضدّ الحكومة الجمهورية الكافرة.

مغاربة جيش فرانكو
أمّا المغاربة الذين انضموا إلى جيش فرانكو، فكانوا من منطقة الريف الشمالية، وهم نفس المقاتلين الذين قاوموا على أرضهم، قبل عشر سنوات، الاستعمار الإسباني الذي دام حتى استقلال المغرب عام 1956.
وكان دافعهم الأول للانضمام لصفوف فرانكو ظروف البؤس التي تعيشها منطقة الريف الفقيرة التي كانت تعاني القحط والمجاعة عندما اشتعلت نار الفتنة الإسبانية.



فكان الانضمام إلى الجيش أسهل طريقة للفرار من الموت، فاستغل فرانكو ذلك واستخدمهم لتوسيع قدراته العسكرية. وذلك لا يبرر الجرائم الشنيعة التي ارتكبوها خلال الحرب بحق الشعب الإسباني من قتل ونهب واغتصاب.
ولكنهم بدورهم عانوا القتل والبتر ثم نُفيوا جميعاً إلى بلادهم بعد نهاية الحرب دون تقدير أو رحمة.
وقد قدم المخرج المليلي إدريس بيبك عام 2006 فيلماً وثائقياً عنهم بعنوان Los Perdedores (الخاسرون)، يعرض فيه ذكريات عدة مغاربة قاتلوا في تلك الحرب المؤلمة.



ولم ينحصر اشتراك العرب في هذه الحرب على المغاربة الذين دعموا الفئة القومية، بل جاء كثير من المتطوعين من المغرب والجزائر ولبنان ومصر والسعودية والعراق لينضموا إلى صفوف خصوم فرانكو، الفئة الجمهورية.
وعن هذا التاريخ، يقدّم عمل للمخرجة المصرية أمل رمسيس، مازال تحت الإنتاج وبحاجة إلى دعم مالي، بعنوان Venís desde lejos (تأتون من بعيد)، قصة عرب الحرب الإسبانية حيث تروي فيه حكاية متطوع فلسطيني قطع البحر لمقاتلة النظام المستبدّ.

علاقات فرانكو الدبلوماسية مع العالم العربي
إن علاقات إسبانيا الخارجية مع العالم العربي تحت سلطة فرانكو كانت محكومة بكونها، كغيرها من الدول الأوروبية، دولة استعمارية في المغرب.
ومع ذلك فقد رحب الرؤساء العرب بنظامه الديكتاتوري، ربما لأنه كان يحاكي بشكل ما موقف عدد من زعماء العرب تجاه شعوبهم.
كثّف فرانكو علاقاته مع الدول العربية بين عام 1946 و1950، وذلك لأن علاقاته الودية مع هتلر خلال الحرب العالمية الثانية وهزيمة هذا الأخير أمام الدول الديموقراطية، أدى إلى عزل إسبانيا عن أوروبا من قبل الدول المنتصرة.
ولذلك اضطرت إسبانيا إلى البحث عن دعم وعلاقات قوية في أمريكا اللاتينية وفي البلاد العربية.
ومن جديد لم يجد فرانكو عائقاً للتحالف مع شعوب مسلمة في أغلبها، رغم إيمانه بالهوية الإسبانية المسيحية الخالصة، التي دافع عنها الملكان الكاثوليكيان، مقدماً إسبانيا كأرض تعايش بين الديانات والثقافات المختلفة.
وقامت حكومة فرانكو بدعوة رؤساء الدول العربية لزيارة إسبانيا لعرض صورة تتحدى عزلها السياسي في العالم.
وكان الزوّار يمرون بمدن أندلسية كغرناطة وإشبيلية وقرطبة وطليطلة للتمعن في الماضي المشترك بين الشعبين. والبلدان العربية التي تعامل معها بشكل خاص هي الأردن والسعودية والعراق، ثم ليبيا وتونس ولبنان والمغرب.
وكان لهذه الدول بدورها مصالحها السياسية والاقتصادية الخاصة في تعاملها مع إسبانيا كونها إحدى الدول الأوروبية، والبلد الوحيد الذي أبقى على النظام العسكري بعد نهاية الحرب العالمية.
كان من أبرزها الحصول على دعم فرانكو للقضية الفلسطينية ورفضه الاعتراف بإسرائيل أمام الأمم المتحدة.
ولكن أصعب فترة مرت بها هذه العلاقات كانت في الخمسينيات حين تم التعاقد مع الولايات المتحدة واستقلال المغرب، وتأميم قناة السويس والحرب العربية الإسرائيلية.



وفي الأرشيف التلفزيوني الإسباني يمكن مشاهدة أول زيارة قام بها رئيس عربي للبلاد وهو الملك عبد الله الأول، مؤسس المملكة الأردنية، وكذلك نجد جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية العربية المتحدة، يزور فرانكو في طريقه إلى الولايات المتحدة.
وعندما نتمعن في هذه المواقف المتناقضة وعلاقة العرب وفرانكو، التي أعاقتها قيم عديدة وسوغتها مصالح كثيرة، نجد أنّ كل فئة في هذا الصراع بحثت عن الشرعية المناسبة لتبرير أفعالها.
فاعتماد فرانكو على الكاثوليكية كعامل لنجاحه واستمراريته، لم يمنعه من تجنيد المغاربة المسلمين، ولم يثنيه عن تطوير علاقات دبلوماسية مع الدول العربية.
في الوقوف دون تحيز أمام الصورة البانورامية المتكاملة للتاريخ، ندرك من جديد، بأن المصالح تفرض تحالفات متغيرة توظّف كل ما بين يديها من تواريخ وقيم دينية وعرقية ووطنية لكسب صراعاتها وإلغاء خصومها.
ومن لم يقرأ بعد رواية 1984 لجورج أورويل، ربما آن الأوان لتقليب صفحاتها.