يكون لديك في بعض الأحيان فكرة ما تُريد أن تفصح عنها وتشاركها مع الناس من حولك، لكن وما إن تُقرر ذلك حتى يصعب عليك الأمر وتبدأ العقبات بالتشكّل أمامك.
نبرة صوتك لا تُساعدك، ذهنك يُصاب بالشلل للحظات، تتردد فيما ستقول، ومن ثمّ تُعطي الأوامر بالتراجع وإلغاء فكرة الكلام والبوح فيما أردت أن تبوح به.
ولربما تنظر فيما بعد لأحد أصدقائك الذين يستمع إليه الناس ويتابعون حديثه بصوته المرتفع وأفكاره الشيّقة دون أن يُبالي أو يعاني أو يواجه أي من تلك العوارض الصعبة التي اعترضت حنجرتك أنت! فتندهش من أمره وتتمنى في سرّك أن تكون مثله صاحب قدرة طليقة على التعبير والكلام.
إن تبيّن لك أنّك تحمل جزء من هذه العلامات والصفات السابقة، أي إن كنت أنت نفس ذلك الشخص المُرتبك الغير قادر على التعبير عن أفكاره وترجمتها إلى كلمات وخاصة عند الضغوط، فإنّ هذه هي صفة الانطوائيّة المعروفة لدى الكثير من الناس.
لذلك دعنا نتكلّم في هذا المقال عن السبب العلمي وراء ما يحدث في أدمغة الانطوائيين لحظة كلامهم، ولماذا يحدث كل هذا معهم.
الانطوائيّة والصراع على استخدام الكلمات المناسبة
يكمن الجزء الأبرز لدى الأشخاص الانطوائيينفي صعوبة تذكّرهم واستدعائهم للكلمات المناسبة عند الطلب، خصوصًا في بعض المواقف الاجتماعيّة السريعة التي تتطلب وجود سرعة بديهة لكي تنخرط فعليًا بها، الأمر الذي قد يفسّر لنا عدم قدرة أغلبهم على مواكبة الناس المُنفتحين على الآخرين والذين يتكلّمون بسرعة وطلاقة.
حتى في الفصول الدراسيّة والجامعات نرى الأمر ذاته، إذ يصعب على الانطوائيين أن يرفعوا أيديهم ليقدموا الأجوبة التي يعرفونها، إلّا أنّهم يحجمون عن فعل ذلك، لا سيما عندما يتوقعون اتجاه الكثير من العيون نحوهم في حالة الإجابة، لذلك يلغون الأمر فورًا.
وتعود صعوبة ترجمة الأفكار إلى كلمات لدى أصحاب الشخصيّة الانطوائيّة، إلّا أنّ عمليّة مُعالجة المعلومات لديهم تكون أعمق وأعقد من الأشخاص العاديين، إذ أنّهم غالبًا ما يقومون بفهم الأفكار ومضغها وهضمها ببطىء، مُحللين بذلك كل شيء ومن كل الزوايا حتى لو كان أمرًا عاديًا بسيطًا!
فالانطوائيون لا يفكّرون بصوت عالٍ كما يفعل الجميع، بل يميلون للتفكير والفهم الباطني بدون إحداث جَلبة مِن حولهم.
أمّا السبب الآخر والأكثر تفصيلًا فله علاقة بالذاكرة طويلة الأمد لديهم. يقول الطبيب مارتي أولسن: “إنّ المعلومات المخزنة في الذاكرة طويلة الأمد غالبًا ما تكون خارج إطار وعينا وإدراكنا، وكما هو ظاهر من اسمها، فالذاكرة طويلة الأمد تحتفظ بالمعلومات لفترات طويلة من الزمن”.
نظريًّا، يتم حفظ المعلومات في هذه الذاكرة لأجل غير مُسمى، ويكون بعض هذه المعلومات من السهولة أن يتم استرجاعه عند الطلب، في حين أنّ البعض الآخر يكون صعب التذكّر. على سبيل المثال، هل تتذكر اليوم الأول من مرحلة دراستك الثانويّة كيف كان؟!
وعلى العكس من ذلك تكون لدينا الذاكرة قصيرة الأمد أو المعروفة بالذاكرة النشطة، إذ تكون ذاكرة محدودة وتحتفظ بالمعلومات لبضع ثواني، وهي المسؤول بشكل رئيسي عن وضع المعلومات على طرف اللسان فيصبح من السهل أن يتم الوصول إليها وقولها. إلّا أنّها لا تحتفظ بالمعلومات لفترة طويلة إلّا في حالة انتقالها إلى الذاكرة طويلة الأمد.
ومن المُثير للاهتمام معرفة أنّ الأشخاص الانطوائيون تميل عقولهم دائمًا لاستخدام الذاكرة طويلة الأمد وليس الذاكرة القصيرة النشطة! وبالتالي لا تكون معلوماتهم على طرف ألسنتهم بل هي بحاجة لبعض البحث والتنقيب.
وذلك لأنّ الوصول للذاكرة طويلة الأمد عمليّة صعبة ومعقّدة، إلى هنا يرجع الشعور بالانطواء والارتباك في الكلام؛ لأنّه في تلك اللحظات يقوم الدماغ بعمليّات صعبة ومعقّدة لكي يصل إلى ما يُريد الوصول إليه.
من ناحية أخرى، ليسَ لدى كل الانطوائيين قلق اجتماعي وخجل، لكن المستويات غير المُعتادة من هذه الارتباكات هي ما يميّزهم ويُحدد شخصيّاتهم، خصوصًا أنّ القلق هو عمليّة مجهدة للعقل، لا سيما في حال انطلاق هرمون التوتر المعروف بالكورتيزول، الأمر الذي سيزيد في إجهاد الدماغ مُسببًا له التعب والتشويش وعدم القدرة على الاستذكار واسترجاع ما هو مطلوب من كلمات مناسبة للموقف.
الكتابة: ملاذ الانطوائيين السهل
غالبًا ما يشعر الانطوائيّون بأنّهم يعبّرون عن أنفسهم بطريقة أفضل في الكتابة وليس في المحادثة الشفهية الكلاميّة، ومما يدعم ذلك ويؤكّده هو أنّ العديد من الكتّاب حول العالم هم من أصحاب الشخصيّات الانطوائيّة.
يقول جون غرين مؤلف رواية The Fault in Our Stars: “الكتابة شيء تفعله بمفردك، إنّها مهنة الانطوائيين، أولئك الذي يريدون أن يخبرونك قصة ما بدون أن ينظروا إلى عينيك”.
لكن لا يمكن القول أيضًا أنّ جميع الانطوائيون هم كتّابٌ محترفون، إلّا أنّ الأصح معرفته هو أنّهم يفضّلون كتابة الرسائل النصيّة على المكالمات الهاتفيّة والاجتماعية الشخصيّة، وهذا ما يوافق عليه الانطوائيون إذ يقولون بأنّ الكتابة تساعدهم على فهم مشاعرهم وأفكارهم بشكل أفضل.
ولعلَ السبب في هذا يكمن في مسارات دماغيّة موجودة لدى البشر، فالكلمات المدوّنة تسلك مسارات مُختلفة عن تلك التي تسلكها الكلمة الشفهيّة، ويبدو أنّ المسارات المكتوبة تكون أكثر قوّة وصلابة عند الانطوائيين مقارنةً مع غيرهم من الشخصيّات الأخرى.
إذن، ماذا تفعل عندما يرتبك عقلك؟
عمل الذاكرة أمر معقّد، لا سيما أنّها تستخدم مناطق مُختلفة من الدماغ، والتي يقوم فيها الدماغ بربط بعض المراكز مع البعض الآخر مُستخدمًا وصلات فيما بينهم تكون قريبة جدًا للمفاتيح.
وبمجرّد أن يستذكر الإنسان أي ذكرى متواجدة في هذا المفتاح، تلقائيًا يستطيع تذكّر جميع الذكريات المرتبطة الأخرى والتي يربط هذا المفتاح فيما بينها.
لذلك، وعندما يصعب عليك التذكّر في بعض الأحيان، لا سيما في المواقف الحرجة، اتبع الخطوات التاليّة التي قد تساعدك في مواجهة الأمر:
  • اهدئ واسترخي.
  • تجاهل من حولك، لا تدع المُحيطين بك يحفزوّنك لكي تتسرّع في الكلام.
  • اكتسب الوقت من خلال قول بعض العبارات على نمط “اسمحوا لي بالتفكير قليلًا”، أو حتى بإشارة من يدك تدل على أنّك لا زلت تفكّر.
  • اعطِ عقلك متسع من الحرية، فكرة واحدة ستقودك لأخرى، وواحدة من هذه الأفكار ستكون هي المفتاح الذي سيطلق الكلام لديك.

لكن على الرغم من كل هذا قد تفشل في الأمر، وهذا طبيعي ووارد جدًا. لكن لا داعي للقلق حاول ألّا تشعر بالحرج؛ لأنّ عقلك ينفّذ الإجراءات التي توهمه بها، فكن هادئًا حتى تصبح هادئًا بالفعل.
يقول العقل اللامع، الفيزيائي ستيفن هوكينغ: “الأشخاص الهادئون لديهم أصخب العقول”.
يمكنك أيضًا أن تبرر موقفك بدعابة بسيطة تفكّ بها عقدة لسانك، أو أن تقول أنّك مُشتت قليلًا الآن وغير قادر على التفكير والكلام، وستحاول أن ترد عليهم فيما بعد، خصوصًا عندما ستعود للمنزل وتكتب رسالة نصيّة ما وترسلها لهم عبر البريد الإلكتروني.