يعيش الإنسان وسطياً 66.26 عام، أي ما يعادل 2.091.006.576 ثانية تتراوح بين طفولة ومراهقة وكهولة، وفيها من أحداث الحياة وظروفها الكثير.
ننسى أحياناً مكان مفاتيحنا أو ما إذا كنا قد أغلقنا باب المنزل أم لا، أو حتى في الأيام المتعبة قد نستيقظ ونحتاج بضع دقائق حتى نتذكر ما هو اليوم! فماذا لو أمكنَ للإنسان أن يتذكّر كل ما مرَ حرفياً وفي أي وقت!
الهايبرثيميسيا
تُعرَف حالة الأشخاص الذين يفقدون قدرتهم على نسيان تفاصيل حياتهم وتجاربهم الشخصية، وتذكّر كل لحظة مرّت في حياتهم بالهايبرثيميسيا Hyperthymesia، واختصاراً HASM.
المرأة التي لا تنسى!
كانت جيل برايس (مواليد 1965) الحالة الأولى التي تعبر عن الهايبرثيميسيا وهي من أوحت للباحثين بدراسة هذه الحالة.
تقول برايس: "بدءاً من 5 فبراير/شباط العام 1980، أستطيع تذكر كل شيء. كان ذلك اليوم الثلاثاء".
وأُصدِرَ أول تقرير حول دراسة نشاط دماغها في العام 2005. وفي 2008، ألّفت كتاباً بعنوان "المرأة التي لا تنسى" تشرح من خلاله حياتها مع هذه الإصابة، وقد اشتُهرت من خلاله، وأدى ذلك إلى ظهورها في عدة لقاءات، ولُقّبَت بالروزنامة الأميركية.
موت زوج برايس المفاجئ وهو في الثانية والأربعين من عمره، يُعد أكثر الأحداث سوءاً ممّا تذكره فتذكر مأساته لحظة بلحظة ولا يمكنها تجنُّب ذلك، فتقول: "لا أجد أية وسيلة أو منفذ لأهرب من تكرارية مشهد ذلك اليوم الذي انهار فيه زوجي وتوفي"، وتضيف أن الذكريات تهاجمها في كل وقت؛ ما يجعل النوم يجافيها، حتى إن الذكريات يمكن أن تشلّ نهارها بالكامل!
لكنها تجنح في بعض الأحيان إلى رؤية النصف المليء من الكأس فتستشعر نعمة تذكُّر الأيام الجميلة وتقول إنها تشعر بالراحة؛ لأنها تعرف قدرتها على تذكُّر كل شيء، وتحاول توجيه هذه الذاكرة نحو الأحداث السعيدة دوماً.
مصابون بفرط استذكار أم أذكياء؟!
ميّز الباحثون بين حالتَي فرط الاستذكار وقدرات الأشخاص الأذكياء القادرين على ربط أحداث معينة تكون في نظرهم مهمة بطريقة تجعلهم يتذكرونها على مر السنوات، وكذلك طلبة العلم الذين يحفظون المعلومات بطرق إبداعية تجعل نسيانها صعباً.
ويكمن الفرق الأساسي بينهما هو أن المصابين بالهايبرثيميسيا غالباً ما يتذكرون الأحداث المرتبطة بحياتهم وسيرتهم الشخصية أو الأحداث العامة التي كان لها أثر في حياتهم الشخصية؛ فكلّ الأمر يدور حولهم وحول كونهم جزءاً من ذكرياتهم الشخصية.
وبخلاف ما قد يظنه كثيرون للوهلة الأولى، الهايبرثيميسيا ليست موهبة يُحسَد عليها المصابون بها، وإنما مرض حقيقي له أعراضه التي قد تقود لفقدان السيطرة على الأفكار والذكريات، وتسبب القلق والتوتر.
أعراض الهايبرثيميسيا
يعبّر المصابون عن مرضهم باستذكار التواريخ بدقة، فيُعتَقَد أنهم "يَرَون" الحدث أمامهم عند ذكر التاريخ المتعلق به، ويُمَيَّزون بذلك عن بعض مرضى التوحد، الذين لديهم عبقرية حسابية، بأن الهايبرثيميسيين فقط يملكون الشقّ المتعلّق بالذاكرة منها.
استرجاع الذكريات عملية غير واعية لدى المصابين؛ ما يجعلهم يعانون حالة متفاقمة من القلق والتوتر نتيجة الذكريات التي تنهمر دون توقف في لحظات الاسترجاع.
20 مصاباً والأسباب تكاد تكون مجهولة!
سُجِّلَت 20 حالةً فقط مصابةً بالهايرثيميسيا حول العالم! ما يجعل تحديد الأسباب صعباً جداً؛ لأن الأوراق البحثية التي تصدر عن جمهرة العلماء لتحدد أسباب مرض ما تستند إلى دراسات وتجارب على عدد كبير من المصابين وعلى عدة مراحل.
لكن اتفق العلماء على أن الأمر له علاقة وثيقة بتضخم الفص الصدغي والنوى القاعدية، أيضاً الحُصَين الذي يقع عند الفص الصدغي الإنسي، ويشارك في فرط الاستذكار، هذا بينما يسهم القشر الصدغي في تخزين هذه الذاكرة.
تكمن أهمية الفص الصدغي في هذا المرض بسبب احتوائه على موجودات لها دور أساسي في الذاكرة، خصوصاً الذاكرة الدلالية والذاكرة العَرَضيّة.
التشخيص
اعتمدت إليزابيث باركر، وهي عالمة في مجال الأعصاب، على اختبارات عصبية متنوعة، منها اختبارات الذاكرة Lateralisation وتعتمد على دراسة العمليات العصبية التي تميل إلى أن تحدث في فص مخي واحد دون الآخر، وعلى الوظائف التنفيذية والسيطرة المعرفية في الدماغ، واللغة، والحساب، واختبار تقييم مستوى الذكاء IQ، واختبارات مرئية وبصرية أخرى.
أما حديثاً، فقد قام العالِم ديفيد إيغل مان، في كلية بايلور للطب، بتطوير اختبار على الإنترنت لاكتشاف المصابين بالهايبرثيميسيا.
المشاركون فيه يختارون تاريخ ميلادهم في أول صفحة منه، ثم يتم اختبارهم بتحديد تواريخ 60 حدثاً مشهوراً، وقعت في الفترة عندما كان عمرهم 5 سنوات إلى اليوم الذي يجرون فيه الاختبار.
لتوصيف المشارك بأن لديه هايبرثيميسيا محتملة، على المشاركين الحصول على 3 نقاط معيارية فوق المعدّل. ولمنع المشاركين من البحث عن الإجابات عن طريق الإنترنت خلال إجراء الاختبار، فإن وقت الإجابة لكل سؤال محسوب أيضاً فلا يمكن للإجابة أن تتجاوز 11 ثانية حتى يتم احتسابها.
لكن، لا يؤخذ الاختبار كثيراً بعين الاعتبار؛ بسبب حقيقة أن كثيراً من الأسئلة يعود مصدرها إلى الثقافة الأميركية، ونتائج الاختبار قد تواجه أخطاءً كثيرة في حالة المشاركين غير الأميركيين.