جميعنا نعلم القاعدة الذهبية للصوم: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس. هذه قاعدة بسيطة وواضحة تمامًا، ومع تطور التقنية صار الأمر لا يحتم اللبس أو الخطأ بتطبيقات تحديد الموقع وحساب وقت طلوع الفجر الثاني (الصادق) وغروب الشمس مهما كان موقعك. هكذا يمكنك توقع فترة صوم تقليدية تتراوح بين 10 إلى 16 ساعة في رمضان، حسب الفصل (شتاء أو صيف) الذي يحل به.
لكن المسلمون في آيسلندا يواجهون تحديًا من نوع آخر متى حل شهر رمضان. تعرفوا عليه في مقطع الفيديو التالي (إنتاج قناة كويست عربية Quest Arabia)
<
أجل، الشمس لا تغرب إلا ساعتين تقريبًا في الصيف! هكذا، يمسك المسلمون في آيسلندا، خاصة في العاصمة ريكيافيك Reykjavík مع طلوع الفجر كما يفترض بأي مسلم، إلا أن الشمس تظل هناك معلقة ترفض أن تتوارى في الأفق إلا بعد 22 ساعة كاملة! ويا ليتها تغيب لفترة مماثلة أو حتى معقولة، فهي لا تلبث أن تشرق من جديد خلال ساعتين لا أكثر، وهي الظاهرة المدهشة المعروفة باسم “شمس منتصف الليل”!
شمس منتصف الليل ومعاناة الصوم
تكمل الأرض دورة كاملة حول نفسها كل 24 ساعة، ما يتسبب في تعاقب الضوء “النهار” والظلام “الليل” علىها. وعندما تدور الأرض، فهي لا تفعل هذا بشكل عمودي على محورها، بل تدور بدرجة ميل 23.5، مما يعني اختلف مدة النهار وفترة تعرض الأماكن إلى ضوء الشمس المنصب على الكوكب باختلاف موقع تلك الأماكن من القطبين.
ماذا لو كانت الأرض تدور بشكل عمودي على محورها؟ كنا سنحصل على نهار وليل مثاليين وثابتي المدة دومًا، بإثني عشر ساعة لكل منهما بالتمام والكمال دون نقصان طيلة العام! هكذا كان سيصوم المسلمون جميعًا لنفس المدة صيف شتاء، وفي أي مكان حول العالم تقريبًا. لكن ما يحدث في الواقع، ونظرًا لميل الأرض أثناء دورانها حول محورها، هو أن الشمس لا تغيب مطلقًا عن منطقة دائرة القطب الشمالي خلال فترة الانقلاب الصيفي لمدة 6 أشهر متواصلة؛ بينما تنخفض مدة غيابها إلى ساعات قليلة معدودة في المدن والبلدان الأقرب من تلك المنطقة. وآيسلندا ضمن تلك البلدان “المحظوظة” لوقوعها ضمن نطاق دائرة القطب الشمالي.
في تلك الأيام كنا نتناول الإفطار ونهرع لصلاة التراويح، وبعد الانتهاء من الصلاة ببضع دقائق يصير المسجد خاليًا تمامًا؛ حيث يذهب الجميع إلى منازلهم في عجلة لتناول بعض الأكواب من الشاي والماء قبل الفجر، وكأننا كنا نتسابق!
هذا هو الوضع تمامًا بريكيافيك عاصمة آيسلندا وغيرها من المدن هناك:الغروب 12:02 والفجر 01:30، بينما يبلغ طول الليل 90 دقيقة لا أكثر! وقبل صدور بعض الفتاوى لحل تلك الإشكالية الفريدة من نوعها، كان رمضان الصيف في المدن الاسكندنافية هو الأصعب، بمدة صوم لا تقل عن 22 ساعة كاملة!
والليل القطبي وترف الإفطار
فإذا جاء رمضان بالشتاء، انقلبت الآية تمامًا! طالعوا الرسم التوضيحي بالأعلى مجددًا وستجدون أن شتاء منطقة دائرة القطب الشمالي يكون بلا شمس لمدة 6 أشهر كاملة مع تراجع تلك المدة قليلًا إلى 22 ساعة يوميًا في المناطق القريبة! هذه هي ظاهرة الليل القطبي، الظاهرة المعاكسة لشمس منتصف الليل.
هنا، ستبلغ فترة النهار ساعتين إلى ثلاث ساعات على الأكثر في ريكيافيك الآيسلندية وغيرها من الدول الاسكندنافية القريبة، أي أنه فعليًا يتوجب على المسلمين هناك حينها الصوم لثلاث أو أربع ساعات كحد أقصى والاستمتاع بفترة إفطار طويلة للغاية تصل إلى 22 ساعة!
لكن الأمور ليست بهذه القسوة أو الترف حاليًا!
هكذا كانت تسير الأمور قديمًا في الدول الاسكندنافية وغيرها من المناطق القريبة من دائرة القطب الشمالي حتى أواخر الثمانينات من القرن الماضي، إلى أن تم بحث الأمر بشكل موسع من قبل الجميعة الإسلامية في السويد للوصول إلى قول فصل حول ساعات الصوم. وفي النهاية أعلنوا أن “ساعات الصوم يجب أن تكون من شروق الشمس حتى غروبها” لكن نظرًا إلى استحالة هذا الأمر هناك، فإنه يجب على الصائم أن يطيل صيامه إلى أقصى حد يمكنه تحمله بما لا يتسبب له بالضرر أو المرض!
وبالطبع، لم يكن هذا حلًا ناجعًا وشافيًا للمسلمين هناك، مما دفع قسمًا كبيرًا من مسلمي أوروبا اللجوء إلى حلول أخرى، كاتباع توقيت مكة فيصوموا مع شروق الشمس في مكة، ويفطروا مع غروب الشمس هناك؛ فيما يتبع البعض الآخر توقيت الشروق والغروب في أقرب دولة مسلمة معتدلة التوقيت مثل البوسنة مثلًا. دعكم من الحل الأسهل والأكثر تطبيقًا هناك وهو قضاء شهر رمضان في إحدى الدول الأخرى كتركيا أو ماليزيا، للهروب من فخ تلك الإشكالية.
في هذا المسجد، نحن نتبع فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث والذى يعتمد جدول زمني لرمضان على أساس خط عرض 45 شمالًا. وبصرف النظر عن فتوى مجلس أوروبا، هناك فتوى الازهر الشريف التى تشير الى أن وقت الصوم يمكن تقصيره وليس هناك أي التزام على المرء الصيام لمدة 22 ساعة. فالصوم لمدة 22 ساعة يوميًا لمدة شهر كامل هو أمر لا يمكن تحقيقه في الواقع!
مع هذا، فهناك رأي آخر يلقى صدى بأنه يجب على المسلم في الدول الاسكندنافية أن يتحمل الصوم الطويل في الصيف، لأنه عندما يأتي رمضان في الشتاء فإن مدة الصوم لا تتجاوز الثلاث ساعات. هكذا تصبح المعادلة متوازنة أو هكذا تبدو! من العسير في رأيي أن يضمن المرء أن يشهد طرفي المعادلة المتطرفين حتى يتحمل معاناة رمضان الصيف ويهنأ بترف رمضان الشتاء؛ فالفارق بين الانقلابين يتراوح بين 10 إلى 8 سنوات! مثلًا يفترض بنا أن نشهد رمضان الشتاء بحلول عام 2024، حيثُ سيكون رمضان حينها قد تخطى حاجز الاعتدال الربيعي، بحيث يبدأ قبل الحادي والعشرين من شهر مارس في تلك العام. سيمضي شهر رمضان من بعد ذلك 8 سنوات في فصل الشتاء، قبل أن يطل على البشر في فصل الخريف عام 2030، ليعود رمضان إلى فصل الصيف بعد عام 2040 تقريبًا!
الوضع أسوأ بأماكن أخرى!
وعلى صعوبة الصوم بآيسلندا كما رأينا، فالوضع يصبح أسوأ في أماكن بشمال أوروبا الواقع ضمن تأثير دائرة القطب الشمالي، كبعض مدن السويد والنرويج مثلًا. ففي منطقة كيرونا Kiruna بالسويد لا تغيب الشمس مطلقًا طول أشهر الصيف وحتى شهر أغسطس! هكذا لا مفر من تطبيق فتوى الإفطار حسب توقيت أقرب مدينة مسلمة معتدلة أو المغادرة كلية إلى بلد آخر لقضاء رمضان بها.
أخبرونا وبعد قراءة هذا المقال: ألا زلتم ترون ساعات الصوم ببلدكم شاقة عسيرة و”أطول من اللازم”؟!