هناك نفر من الناس يتركون بصمتهم على جبهة الزمان, بحيث تبقى هذه البصمة مضيئة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, وهو خير الوارثين. ومن هؤلاء المؤرخ تقي الدين المقريزي الذي ولد بحارة برجوان فى القاهرة سنة 766هـ / 1364م, وعاش حياة حافلة امتدت حوالي ثمانين عامًا.

المؤرخ المتفرغ

كان المقريزي تجسيدا لنمط من المفكرين الموسوعيين الذين أنجبتهم الحضارة العربية الإسلامية, فقد كان الرجل مؤرخا عارفا فاهما, وكان من النمط الذي يمكن أن نسميه المؤرخ المتفرغ: ولا تعني هذه التسمية أنه كان يتخذ من كتابة التاريخ مهنة يكسب منها عيشه, فالواقع أن ظروف ذلك العصر لم تكن تتيح مثل هذا الترف لمن اتخذوا الكتابة مهنة لهم. ذلك أن المؤرخ أو غيره من أصحاب الممارسات الثقافية كان بحاجة إلى مصدر رزق ثابت, أو رعاية أحد السلاطين أو الحكام, لكي يتمكن من الكتابة والعيش فى آن معا, ومن ناحية أخرى, كان الكاتب يكتب مؤلفه بخطه أو يمليه على أحد الناسخين. وفي كل الأحوال لم يكن المؤلف يكتب لجمهور من القراء, وإنما كان يكتب لجمهور من السامعين.



ذلك أن صعوبة إعداد النسخة الواحدة من جهة, وارتفاع تكاليف الورق وأسعار النسخ, لم يتح إنتاج عدد كبير من النسخ في حياة المؤلف. وهو ما يعني في التحليل الأخير أن المؤرخ –وغيره من الكتّاب– لم يكن قادرا على اتخاذ مهنة الكتابة مصدرا لرزقه. ومن هنا فإن المؤرخ المتفرغ هو الذي تفرغ للكتابة التاريخية لسبب أو لآخر.

والمقريزي قرر التفرغ للبحث والدراسة والتأليف بعد سنوات طويلة قضاها ما بين طلب العلم والدراسة, والعمل في الوظائف العامة في الدولة المملوكية في مصر والشام والرحلة إلى الحجاز والمجاورة في مكة المكرمة, والتدريس بمدارسها, ثم الانقطاع للبحث وكتابة التاريخ, حتى وافته المنية بحارة برجوان أيضا سنة 845هـ / 1442م.

محاور البناء المعرفي

وتقي الدين أحمد بن على المقريزي نموذج فذ للعلماء والمفكرين الذين أنجبتهم الحضارة العربية الإسلامية, إذ كان رجلا موسوعي المعرفة غزير الإنتاج.



ويتمثل البناء المعرفي لمؤرخنا في محاور ثلاثة أساسية: أولها تعليمه الذي شكل أساس هذا البناء المعرفي, وثانيها خبرته التي اكتسبها من الوظائف العامة التي تولاها, وثالثها أنه كان شاهد عيان على أحوال دولة عظمى تنتقل إلى طور الأفول والتدهور ومحاولته تفسير ذلك.

فقد تلقى المقريزي العلوم والمعارف التي كان يتلقاها أبناء الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها, وهي شريحة تقف في منتصف السلم الاجتماعي بين الحكام والرعية: فقد كان واحدا من أرباب الأقلام الذين احتاج إليهم أرباب السيوف في إدارة شئون دولتهم. درس المقريزي علوم القرآن الكريم وأصول الدين والفقه والتفسير, فضلا عن علوم الحديث واللغة والأدب والحساب والتاريخ طبعًا.



معرفة موسوعية

وتكشف كتاباته عن أنه كان رجلا موسوعي المعرفة, ملما بمعظم علوم عصره: إذ قال عنه السخاوي "كان ملمًا بمذاهب أهل الكتاب, حتى كان أفاضلهم يترددون عليه للاستفادة منه". ومن ناحية أخرى تتلمذ المقريزي على عبدالرحمن ابن خلدون عندما جاء إلى القاهرة فى أواخر القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي, وهناك عقد ابن خلدون حلقاته الدراسية التي طرح فيها آراءه وأفكاره حول التاريخ, والتي جمعها فى مقدمته الشهيرة.

لقد تأثر المقريزي بآراء ابن خلدون, ووصفه بأنه أستاذه, ويتضح هذا التأثير في كتابات مؤرخنا التي تعلو فيها النغمة الاقتصادية والاجتماعية, كما تتجلى فيها الرؤية التحليلية الناقدة للأحداث التاريخية.

أما الخبرة التي اكتسبها المقريزي بفضل الوظائف التي تلقاها فى مصر وبلاد الشام والحجاز, فتشكل المحور العملي من محاور بنائه المعرفي. فقد عمل الرجل فى ديوان الإنشاء الذي كان يشبه وزارة الخارجية في عصرنا الحالي, كما عمل بالتدريس فى القاهرة, وفي مكة المكرمة, وتولى القضاء وتولى وظيفة الحسبة التي كان لصاحبها الإشراف على الأسواق العامة, وعلى الحمامات, والموازين والمكاييل, والنظافة والآداب العامة، وغيرها من شئون الحياة اليومية في المجتمع, وهو ما سهل له التعرف على طبيعة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وأسعار السوق ومشكلاته, وطبيعة النظام القضائي والمشكلات القانونية التي كان الناس يواجهونها.



وتحت وطأة الظروف المعاكسة رأى المقريزي أن يتفرغ لتأمل أحداث عصره, وأن ينصرف عن المناصب والوظائف الحكومية, ويكرس نفسه للكتابة التاريخية فى زمن كان يشهد أفول دولة وذبول حضارة, ومغيب شمس ثقافة. فها هو النظام الإقطاعي العسكري, الذي قامت عليه الدولة المملوكية يتداعى, وها هي القاهرة تترنح تحت وطأة الظلم السياسي, والخراب الاقتصادي والتراجع الثقافي.



ولم يتبق من الممارسات الفكرية والثقافية سوى لملمة الذات وتجميع التراث في موسوعات وقواميس, وليس هناك إبداع جديد: ولكن هناك عملية إعادة إنتاج مشوهة لما أبدعه العلماء المسلمون من أبناء الأجيال السابقة على شكل مختصرات موجزة. وكان على المقريزي أن يكون شاهد عيان على زمن التراجع والأفول, وإن كان هو نفسه رمزًا لعظمة الثقافة العربية الإسلامية.



لقد قال أستاذنا الدكتور محمد مصطفى زيادة إن المقريزي: "عميد المؤرخين السالفين جميعا من ابن عبد الحكم إلى الجبرتي". والواقع أن مؤلفات هذا المؤرخ الفذ من جهة, وفكرة التاريخ عنده من جهة ثانية, ورؤيته التحليلية للظواهر التاريخية, ومنهجه في الكتابة التاريخية من جهة ثالثة, تجعله جديرًا بهذه المكانة حقا. كان مؤرخا موهوبًا, ومفكرًا فذًا لاذعًا في تعليقاته على أحوال البلاد والعباد في ذلك الزمان. كما كان على وعي كامل بما طرحه ابن خلدون من أفكار في فلسفة التاريخ, وقد تمكن المقريزي من تطبيق آراء ابن خلدون على نحو لم يستطع ابن خلدون نفسه أن يفعله.



الخطط المقريزية

ترك المقريزي حوالي مائة كتاب من مؤلفاته, تنوعت مابين الكتب التاريخية الشاملة, وكتب البلدان والخطط, والكتب التي خصصها لدراسة دولة بعينها, والرسائل ذات الموضوع الواحد, وكتب التاريخ الإسلامي العام. بيد أن أهم كتب المقريزي هو كتاب (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) المشهور بعنوان: (الخطط المقريزية), وقد ألفه المقريزي بدافع من حبه لمصر -حسبما قال في مقدمة هذا الكتاب الفذ- ووصفها بأنها منشأ صباه وملعب أترابه. وفي صفحات الخطط نجد التاريخ والموروث الشعبي, إلى جانب الجغرافيا وعلم السكان والديانات, فضلا عن الأنثروبولوجي ..، وما إلى ذلك.



القراءة الواعية للتاريخ

ومن هذا السفر الرائع, خرجت بقية كتب المقريزي لتؤرخ للفتح الإسلامي لمصر, ولتؤرخ في الوقت نفسه لتاريخ العالم العربي والإسلامي منذ حركة الفتوح الإسلامية, حتى منتصف القرن التاسع الهجري / الرابع عشر الميلادي. فقد كتب هذا المؤرخ الذي أدرك أهمية القراءة الواعية لتاريخ الأمة مؤلفات عدة, مازال البحث التاريخي المعاصر يعتمد عليها. كتب المقريزي عن الرسول وبيته, وكتب عن (النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم), وكتب عن الدول الإسلامية في القرن الإفريقي (الإلمام بمن بأرض الحبشة من ملوك الإسلام), وكتب عن الأوبئة والمجاعات, وتأثير الحكم الفاسد على الأحوال الاقتصادية والاجتماعية.

وقدم المقريزي تاريخا فريدا للدولة الفاطمية (الدولة العبيدية الفاطمية) وحكمها في مصر والشام, كما حدثنا في كتابه العمدة (السلوك لمعرفة دول الملوك), عن تاريخ المنطقة العربية, في لحظة فارقة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية, وهو مصدر مهم من مصادر تاريخ الحروب الصليبية, وتاريخ الغزو المغولي وهزيمة المغول في (عين جالوت), ثم تحول الجيل الثاني من هذه الأقوام الغازية التي أرعبت العالم إلى الإسلام, وشيدوا حضارة زاهية لاتزال شواهدها المادية واللامادية ماثلة إلى اليوم في شبه القارة الهندية.



على أن أهم ما يميز المقريزي عن معاصريه, وعمن جاءوا بعده, هو منهجه في عرض الأحداث التاريخية, وقدرته التحليلية الرائعة: فقد وصف لنا الحوادث التي عاصرها بعبارة حية, وأسلوب بديع زاده جمالا إدراكه للعلاقة السببية بين الظواهر التاريخية. فقد كانت ملاحظاته الذكية على الحياة اليومية في القاهرة زمن سلاطين المماليك, وموقفه المنحاز إلى الناس -صناع الحياة الحقيقيين- سابقة بعدة قرون على ما نسميه اليوم التاريخ الاجتماعي.



لقد كان المقريزي مثالا متكررا للمثقف الموسوعي الذي أنجبت الحضارة العربية الإسلامية المئات من أمثاله.

___________________

المصدر: دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، يوليو 2014م.

قصة الإسلام