سماحة كراميل
سَرَادِيب العِشْق
تاريخ التسجيل: October-2013
الدولة: القلب في بوظبي ساكن ..
الجنس: أنثى
المشاركات: 18,285 المواضيع: 758
صوتيات:
21
سوالف عراقية:
0
مزاجي: مشكلتك انك قلب حساس ..
المهنة: أقطف النجوم
موبايلي: S20+
عزيزي سام بما أنك طلبت حديث عن اعجاز القرآن فراح تتورط برد طويل
إن القرآن نفسه يكذّب هذا الإدعاء بالتحدي البلاغي، لأنه يتحدى الانس والجن قاطبة ويقول:
(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً([3])).
ومعلوم أن الأقوام البشرية لا تتكلم العربية بأجمعها، بل أن العرب لا يشكلون إلاّ جماعة صغيرة ونسبة قليلة جداً من الذين يتكلمون باللغات غير العربية، فاذا أضفنا الجن اليهم ازدادت نسبة الطرف المقابل كثيراً، ولا يعقل أن يتحدى الله سبحانه كل هؤلاء بأن يأتوا بمثل هذا الكتاب العربي في بلاغته وهم لا يفهمون من بلاغته شيئاً، ولو طلب منهم الإتيان بكتاب مثله بلغتهم لأمكن أن يدّعوا بأن كتابهم أفصح وأبلغ، ولا معيار في البين يمكن التحاكم إليه لتشخيص الفائز في هذه المسابقة.
فالمفروض في المقام أن يتحدى القبائل العربية فقط لا الإنس والجن.
إذا كان معنى المعجز كون العرب لا يستطيعون الإتيان بمثله في البلاغة، فنهج البلاغة للإمام علي(عليه السلام) كذلك، فالعلماء وأهل الأدب والبلاغة يصفون هذا الكتاب أنّه: «فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق» ومحل الشاهد هو الجملة الأولى، فلو فرضنا أن كلام الإمام علي(عليه السلام) فوق كلام البشر من جهة البلاغة، فيصح تسميته بالمعجزة على التعريف المذكور، ولم يبق فرق حينئذ بينه وبين القرآن من هذه الجهة إلاّ من حيث التحدي، أي أن الإمام لو كان قد تحدى العرب على أن يأتوا بمثله لما استطاعوا، فثبت أن مجرد الإتيان بكتاب بليغ لا يستطيع الآخرون على الإتيان بمثله يمكن أن يصدر من البشر ولا يختص ذلك بالله تعالى. فاذا استطاع الإمام علي أن يأتي بكتاب أعجز جميع العرب أن يأتوا بمثله، فالنبي الذي هو أبلغ وأفصح من الإمام علي بإمكانه أن يأتي أيضاً بكتاب تعجز العرب جميعاً عن الإتيان بمثله، وبعبارة اُخرى: أنّه كما عجزت العرب عن الإتيان بمثل نهج البلاغة وهو كلام بشري، فكذلك عجزوا أيضاً عن الإتيان بكتاب مثل القرآن الذي جاء به محمد(صلى الله عليه وآله)، وعليه فما المانع من أن يكون هذا الكتاب، وهو القرآن، كلام بشري أيضاً؟
لماذا لا يمكن القول ـ مع تفريغ الذهن من المسبوقات العقائدية ـ أن نهج البلاغة في بعض موارده أبلغ من بعض آيات القرآن، فمع مقارنة بسيطة بين بعض الآيات من القرآن الكريم وفقرات من نهج البلاغة يتضح هذا المعنى جلياً وعلى سبيل المثال نختار من «نهج البلاغة» قوله (عليه السلام):
«فيا عجبا!! بينا هو ـ ابو بكر ـ يستقيلها في حياته اذ عقدها لآخر بعد وفاته ـ لشدّ ما تشطّرا ضرعيها، فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم وإن اسلس لها تقحّم، فمني الناس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس وتلون واعتراض. فصبرت على طول المدة وشدة المحنة»([4])
أو قوله (عليه السلام) في الموعظة:
«أما بعد، فان الدنيا أدبرت وآذنت بوداع، وإن الاخرة قد اقبلت واشرفت باطلاع، الا وإن اليوم المضمار وغداً السباق، والسبقة الجنة والغاية النار، أفلا تائب من خطيئته قبل منيته، الا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه... الا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، الا وانه من لا ينفعه الحق يضره الباطل. ومن لا يستقيم به الهدى يجر به الضلال إلى الردى...»([5])
ومنها قوله (عليه السلام) في «دعاء الصباح»:
«اللهم يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلّجه، وسرّح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه، وأتقن صنع الفلك الدوّار في مقادير تبرجه، وشعشع ضياء الشمس بنور تأجّجه، يا من دلّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته، وجلّ عن ملائمة كيفياته، يا من قرب من خطرات الظنون وبعد عن لحظات العيون وعلم بما كان قبل أن يكون، يا من أرقدني في مهاد أمنه وأمانه، وأيقظني إلى ما منحني به من مننه وإحسانه، وكفّ اكفّ السوء عني بيده وسلطانه...»([6])
ثم لنضع هذه العبارات إلى جانب سورة قرآنية للمقارنة البلاغية، ولتكن هذه السورة:
«لايلاف قريش، ايلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا ربّ هذا البيت. الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»
أو سورة النصر:
«إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجاً، فسبح بحمد ربّك واستغفره إنه كان توابا».
فمع مقارنة سريعة بين الطائفتين من المقاطع الادبية والبلاغية يتضح لنا جلّي الحال وأن الاعجاز البلاغي للقرآن ليس سوى أدعاء فارغ يتشبث به من لم يعِ حقيقته ويتحركون في اثبات أرجحية الآيات المذكورة على مقاطع نهج البلاغة من موقع التعصب والحساسية المذهبية، ولكن لو تقدمنا في مسألة التحكيم بين هذه النصوص إلى غير المسلمين من الادباء العرب مثل: جرجي زيدان، جورج جرداق، جبران خليل جبران (رحمهم الله) والذين لا يخفى على كل باحث فضلهم وأثرهم المشكور على الثقافة العربية والاسلامية، فماذا تتصورون نتيجة التحكيم؟
غاية ما يتوقع من نتيجة التحكيم هو القول بالتساوي، وحتى على فرض أن تكون الآيات أقوى على مستوى البلاغة والفصاحة، فان هذا الامتياز للآيات لا يكون بشكل فاضح وسافر بحيث يمكن أن يعدّ معجزة، ومن مقومات الاعجاز أن يكون بشكل سافر إلى درجة لا يمكن قياسه ومقارنته بفعل البشر، كاحياء عيسى للموتى، أو انقلاب العصا إلى ثعبان حقيقي بحيث أهوى السحرة أنفسهم إلى السجود بمجرد رؤيته. أما لو كان الاختلاف طفيفاً بحيث يتردد فيه بعض الناس ويحملونه على نبوغ مدعي النبوة وأعلميته بالنسبة إلى سائر الناس فلا يصح ادعاء الاعجاز، وما نحن فيه من هذا القبيل، فالافضلية البلاغية للآيات ـ لو سلمت ـ لا تكون بمستوى أن يقال أنّها معجزة بالنسبة إلى عبارات النهج. نعم قد تكون معجزة فيما إذا قورنت بكلام ركيك وسخيف مثلما أوردوا من آيات قرآن مسيلمة «الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل. له ذنب قصير وخرطوم طويل...».
وأعجب ما يقال: إن «نهج البلاغة» كلام معصوم ومسترفد من منهل الوحي والنبوة، فهو معجز من هذه الجهة أيضاً، ولذا لا يصح مقارنة المعجز بالمعجز، وهذه ـ كماترى ـ حيلة العاجز، لأن المقصود هو مقارنة القرآن بكلام البشر أياً كان، والإمام علي (عليه السلام)بشر، وكلامه كلام بشر، والقرآن تحدى جميع البشر ـ بما فيهم الإمام علي ـ على أن يأتوا بمثله، والعرف والعقل المنصف والوجدان المحايد يشهدون على أن عبارات نهج البلاغة المذكورة مثل الآيات في البلاغة، والاختلاف الطفيف لو سلّم، لا يعدّ دليلاً قاطعاً على الاعجاز كما تقدم، بل يقال أن هذا أفضل من ذاك.
والسرّ في ذلك أن القرآن جاء (تبياناً) ولتفهيم السواد من الناس وهدايتهم، ولذلك كانت الآيات القرآنية أسهل مؤونة وأوضح معنى من عبارات نهج البلاغة، ولم يكن غرض القرآن من أول الأمر التنافس مع بلغاء العرب وادبائهم كما توهم العلامة وكثير من العلماء والمفسرين، غاية الأمر أن القرآن بما أنّه كلام الله فلابد أن يكون بليغاً وخالياً من الخطأ البلاغي، ولكن أن يكون أبلغ من غيره بالضرورة فهو أول الكلام.
على فرض أن عبارات نهج البلاغة وكلمات النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام) لا تناظر القرآن الكريم في بلاغته، ولكننا نفتقد إلى الميزان الذي نزن بلاغة الكتب والقصائد الأدبية المعاصرة للقرآن، ومن ثم اجراء مقايسة بينها وبين القرآن، لأن الأدباء الذين يفترض كونهم حكماً في مثل هذه المقارنة الأدبية إن كانوا من غير المسلمين لم تسمع حجتهم فيما لو حكموا لصالح تلك الكتب والقصائد الشعرية، وان كانوا من المسلمين فعقيدتهم تفترض عليهم التحيّز لصالح القرآن وتبرير كل ما يوهم ضعفاً بلاغياً بتخريجات وذرائع مختلفة ليحفظوا للقرآن تفوقه البلاغي كما هو المشاهد في منهج العلماء والمفسرين في عملية المقارنة بين القرآن وبين غيره من الكتب، فالملاحظ أنهم يقارنون بين آيات القرآن وآيات يدّعون أنّها من مسيلمة الكذاب في قرآنه المزعوم «الفيل ما الفيل، له خرطوم طويل..» ويسخرون من سخافة هذا الكلام بالنسبة إلى القرآن الكريم، في حين أن الأجدر بهم مقارنة القرآن بنهج البلاغة و«تحف العقول لآل الرسول» الذي يجمع بين دفتيه درر وجواهر من كلمات المعصومين(عليهم السلام) هي آية في البلاغة والفصاحة، لا أن يخلقوا كلاماً تافهاً وينسبونه إلى المنافس للقرآن ثم يجلسون ليتفكّهوا على سخافة ذلك الكلام وركاكته!!
وعلى أية حال نحن أمام اشكالية معيارية خاصة في هذه المقارنة، لأن هؤلاء المحكّمين يعتبرون القرآن معجزة في البلاغة في مرحلة سابقة بل هو الميزان للفصاحة والبلاغة، وحينئذ لا يوجد ميزان ومعيار خارج دائرة المتسابقين ليقاس به درجة كل واحد من أفراد حلبة السباق.
على فرض أن القرآن تحدى العرب بالبلاغة، إلاّ أن نظرة تاريخية سريعة للموقف في ذلك الزمان يشير إلى عدم تحقق الفرصة للمشركين للموافقة على هذا التحدي وقبوله، وحينئذ يبقى التحدي القرآني البلاغي مجرد شعار واطروحة تفتقد الميدان العملي لترجمتها على أرض الواقع، المشركون عاشوا لمدة عشر سنوات (فترة وجودة النبي في مكة منذ الاعلان عن الدعوة إلى زمان الهجرة) لا يتصورون أن هذا الدين الجديد قد يبلغ به الخطر إلى أن يهدد وجودهم وكيانهم بين القبائل، فما هو إلاّانحراف جزئي عن مسيرة قريش في عبادة الاوثان وسلوك شاذ لدى فئة قليلة من الفقراء والعبيد يمكن معالجته بأدوات الارعاب والقهر والتعذيب. فلم يشعروا بالخطر الجدّي على دينهم وكيانهم حتى يهتموا للإتيان بكتاب نظير القرآن في البلاغة، وخاصة إذا علمنا أنّ أول آيات التحدّي نزلت في سورة الاسراء وهي من السور المكّية التي نزلت قبل الهجرة بسنة أو سنتين، وسائر آيات التحدّي نزلت في المدينة، ولما أحسّ المشركون بالخطر وهاجر النبي إلى المدينة انشغلوا بالحروب والقتال مع أنصار هذا الدين الجديد وكانت المواجهة بينهما قد أخذت طابعاً عسكرياً وميدانياً، والغلبة لمن يغلب خصمه في ميدان القتال لا في البلاغة، واستمر الحال على هذا المنوال عشر سنوات اُخرى تقريباً حتى دخل المشركون وعلى رأسهم قريش في الإسلام جميعاً، وحينئذ أغلق باب التحدي عملياً، لأن أحد المسلمين مهما كان بليغاً لا يتجرأ على منازلة القرآن وقبول تحديه بل ولا يفكر في مثل هذا الأمر لأن مصالحه ستتعرض حتماً إلى الخطر، وأهون ما يصير إليه أن تضرب عنقه بتهمة الإرتداد وتكذيب القرآن.