TODAY - 28 July, 2010
«المسكوف» وجبة عراقية لم تمت مع الحرب
مطاعمها تزداد وتعود بفتح أبوابها على ضفة النهر في شارع أبو نواس
طريقة قديمة في شي السمك لكنها تبقى المفضلة لدى العراقيين وتبقى جزءا من فولكلورهم (نيويورك تايمز)
بغداد: ستيفن لي مايرز
كان عشاؤنا مكونا من سمكة شبوط تجاوز وزنها ستة أرطال أخرجت لتوها من حوض للأسماك ووضعت على الأرض الخرسانية عرضة لهواء الليل المحمل بالأتربة تحت مظلة معدنية.
رفع الطاهي، إذا شئت أن تسميه كذلك، هراوة خشبية وضرب السمكة ضربة سحقت رأسها. كان من الواضح أنها أوشكت على قتل هذا المخلوق، لكنها استمرت في التلوي والسكين تسري في خياشيمها وأشواكها وليس عبر أحشائها إذ هي الطريقة الوحيدة التي أعرفها في تنظيف السمك.
يتميز العراقيون على نحو خاص في اختيار أسماكهم ـ حيث يفضلون الأسماك الذكور على الإناث، على سبيل المثال ـ ومشاهدتها وهي تلقى حتفها لسبب بسيط وهي أنها يجب أن تكون طازجة قدر الإمكان بل وحتى تنظيفها، وشيها على نار مفتوحة بطريقة تدعى «المسكوف» التي ارتبطت ببغداد على مدى قرون.
يربي كاظم أسماك الشبوط الخاصة به في مزرعة بالقرب من كربلاء
وقال منير كاظم، صاحب مطعم «البغدادي» الذي يقع على ضفاف نهر الفرات في بغداد حيث تشوى الأسماك بالطريقة ذاتها منذ بداية عصر الحضارة: «إنهم يرغبون في تسويتها بالطريقة التقليدية ذاتها، لأن هذا جزء من الفولكلور العراقي».
عاش «المسكوف» قرونا من الحرب والحصار والدكتاتورية والحرمان والجفاف والصيد الجائر والتلوث. (ربما يكون من الأفضل عدم أكل أي شيء من نهر الفرات، وقد صدرت فتوى بالفعل تحرم ذلك، لأن ضحايا العنف الطائفي الفظيع انتهى بهم المآل إلى أعماق النهر). عاد «المسكوف» مرة أخرى، كما عاد العراق من جديد بعد أيام العنف الطاحنة ليؤكد مكانته في المطبخ والثقافة المحلية بصورة أكثر نضوجا. وخلال العام ونصف العام الماضي أعادت أكثر من عشرة مطاعم لـ«المسكوف» فتح أبوابها على ضفة النهر في شارع أبو نواس الذي ظل لسنوات كثيرة بعد الغزو الأميركي عام 2003 مكانا خربا تشن منه الهجمات على المنطقة الخضراء، ثم تحول بعد ذلك إلى معسكر للقوات المسلحة، محاط بأسلاك شائكة وأكياس الرمال.
تحولت واجهة النهر الآن إلى متنزه ومشروع جمالي ترعاه الحكومة مليء بالحدائق والملاعب والنكهة المدخنة للسمك المشوي، تلك الرائحة التي تثبت أنه ليس كل الأشياء الجميلة تموت مع الحرب.
وقال أحد مسؤولي وزارة الدفاع، الذي عرف نفسه بأبي عبد الله، خلال تناوله الأسماك منذ أسابيع قليلة في مطعم يسمى «البلام»: «لن تحصل على الطعم نفسه في أي نوع آخر من الأسماك في العراق أو خارجه».
يعد مطعم «كاظم» أكبر المطاعم في شارع أبو نواس، وكان قد أغلق لمدة أربعة أعوام بعد فراره إلى رومانيا بحثا عن عمل.
افتتح المهندس الميكانيكي مطعما في المنفى حتى تحسنت الأحوال الأمنية في البلاد، وعاد في 2008 لما سماه حبه. قام الأميركيون أثناء وجودهم بالمطعم بإعادة تجديد المبنى الرئيسي له، وتركوا له مولدا، وطلب مني أن أعبر عن امتنانه لهم.
على الرغم من أن «المسكوف» طريقة تقليدية سهلة لشوي السمك، فإن الكثير من الرجال ـ دائما الرجال ـ الذين التقيتهم، والذين اتخذوا هذه الصنعة حرفة لهم، يصرون على أن السمك الذي يعدونه هو الأفضل. ما إن تنظف أحشاء السمكة توضع بصورة رأسية وتثبت في عودين خشبيين وتوضع إلى جانب النار، حتى يواجه لحمها النار التي تشعل بأخشاب أشجار الفاكهة، مثل التفاح أو البرتقال أو الرمان، اعتمادا على المتاح، والطعم.
كلمة «المسكوف» كلمة عامية عراقية مشتقة من لفظة «السقف» العربية، حيث يشكل السمك غطاء على اللهب، على الرغم من أنها تشكل درعا أكثر منها غطاء.
وقد قرأت من قبل أن العراقيين يفضلون السمك بالتوابل، لكن المكون الرئيسي الذي رأيته هنا هو الملح، وتتمثل المهارة في الشواء.
توضع الأسماك في دائرة واسعة على بعد كاف من النار، حتى لا تحترق، لتشوى على مهل حتى يصبح اللحم بنيا مقرمشا، فيما لا يزال داخل السمكة أبيض، ثم ترفع بعد ذلك عن العصي وتوضع مباشرة على فحم كي تشوى الجهة الخلفية منها، وتستغرق تلك العملية ما يقرب من الساعة.
يقدم السمك مغطى بخبز مسطح مع السلطة واللبن المتخثر والخيار والفواكه المخللة وخضراوات على هيئة صلصة، ولا يقدم «المسكوف» في آنية.يذكر طعم «المسكوف» بحضارة بلاد الرافدين، لكن غرام العراقيين بـ«المسكوف» يبدو لغزا للأجانب.
يعتبر العراقيون أكل «المسكوف» أيام الأربعاء جالبا للحظ، وقيل بأن له فوائد طبية، خاصة البطارخ التي تحمر في إناء حديدي حسب الطلب. (قال لي كاظم: بما أنني رجل متزوج، وأعيش بعيدا عن أهلي فلست بحاجة إليها هنا).
يعد «المسكوف» طعاما للضيوف والمناسبات الخاصة مثل حفلات الزواج والميلاد، التي عادت للاحتفال بها في شارع أبو نواس مرة أخرى، الذي يحمل اسم الشاعر الماجن، الذي اشتهر بقصائده في وصف الطعام والشراب.
وقالت مورا ديكسون التي كتبت في «بغداد وما وراءها»: «هناك قبول عالمي لـ(المسكوف) كطعام شهي كبغداد والفرات، وهو نادرا ما تجده في أي مكان آخر».
مضت ديكسون في وصف ركوب زورق صغير حملها إلى جزيرة في وسط الفرات لتناول طبق «مسقوف» من سمك الشبوط الطازج. فقالت: «في الظلام الرائع لليالي الصيف ستكون ضفتي النهر والجزر الموجودة بالنهر حية بالنيران المتألقة الصغيرة، لكل منها رواد دائمون ما بين جالس على عقبيه أو ممدد أو متكئ يحملق في جذوات النار».
وحفاظا على اسمه اشتهر شارع أبو نواس بحياة الليل الماجنة خلال حكم صدام حسين وما قبله، وهي حياة متحررة باتت أقل تسامحا في الوقت الحالي. فقد اختفت الحانات أو أنها باتت خفية.
في الغالب لا يصطاد الجميع في نهر الفرات في بغداد اليوم الأنواع المحلية، فهناك أنواع مختلفة من سمك البربيس المعروفة مثل البني والشبوط والغتان التي تعد الأسماك الأفضل في عمل «المسكوف». وتأتي غالبية الأسماك التي تباع في شارع أبو نواس ـ الأنواع المشهورة من الشبوط أو الأطباق المتنوعة ـ اليوم من المزارع السمكية المنتشرة على شاطئ نهر الفرات جنوب بغداد. أما أسماك النهر الوطنية التي لا تزال تصطاد لا تعيش الرحلة إلى حلقات النار في أبو نواس.
ويتذكر فيصل حبيب، العامل الحكومي الذي كان يتناول طعامه في مطعم «البلام»، المرة الأولى التي تناول فيها الطعام في أبو نواس عام 1980 قائلا: «كان الأمر مختلفا حينئذ، فقد كانت النكهة أفضل». وأشار إلى أن أفضل طهاة «المسكوف» فروا إلى الخارج خلال الحرب.
تعرضت صناعة استغلال الموارد المائية التي بدأت خلال حكم صدام إلى تخريب كبير من خلال الحرب والحصار الدولي من قبله، ولقد أصبحت إعادة إحيائها «كيفية تعليم الأفراد الصيد» مهمة الحكومة الأميركية التي أنفقت ملايين الدولارات على إصلاح أكبر «مفقسين» لإكثار الأسماك في محافظة بابل، وتقديم طرق ري وتغذية علمية في وسط العراق.
وفي مايو (أيار) قامت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (المعروفة اختصارا بـ «يو إس إيد») بتمويل برنامج إنماء للمشروعات الزراعية استقدمت من خلالها 12.400 سمكة صغيرة من المجر بهدف الحصول على أنواع أفضل وأسماك أكثر لحما. وإذا ما سارت الأمور بصورة جيدة فإن عملية الأسماك المهجنة ستطرح في الأسواق عام 2011.
يربي كاظم أسماك الشبوط الخاصة به في مزرعة بالقرب من كربلاء، فيما يشتري الآخرون أسماكهم من أحد أسواق السمك الموجودة في شارع أبو نواس بعد فجر كل صباح. حيث تأتي الأسماك في شاحنات محملة بالأحواض الصغيرة والمضخات ومملوءة بالماء، وتسقط الأسماك من الأطراف إلى الشارع.
أحد مالكي تلك السيارات حيدر جاسم، باع ثلاثة أطنان من سمك الشبوط، وكانت تصب دفعات ودفعات على الأرض لعرضها في مزاد. وعندما سألته عن كيفية اختيار السمكة الجيدة قال ببساطة: «السمكة الأكبر»، مضيفا أن الطعم يتوقف على الثمن الذي تدفعه.
«تباع سمكة الشبوط بما يعادل 2.25 إلى 3.60 دولار للرطل، وكلما زاد وزن السمكة، زاد سعر الرطل، أما في المطاعم فيبيعونها بضعف هذا السعر، فقد كلفتنا السمكة التي بلغ وزنها 6.6 رطلا نحو 45 دولارا، وهو مبلغ ضخم لكنه في متناول العراقيين، على الرغم من العنف والصعوبات الاقتصادية.
تباع الأسماك في المزاد في الصباح، وتمتلئ المطاعم القائمة في شارع أبو نواس بروادها. ويبيع مطعم البغدادي 200 سمكة في الليلة، حتى أن الأسماك التي لديه نفدت في الليلة الأولى التي ذهبت فيها مع أصدقائي واضطررت إلى العودة في الليلة التالية.
وقال جاسم في المزاد الكلمة العربية التي تعبر عن الصبر والتصميم والأمل في لفظة واحدة: «إن شاء الله. الأمور كلها على ما يرام الآن، وهي أفضل من ذي قبل».
نقلا عن «نيويورك تايمز»)