كنت حينها في السادسة من العمر ، وهي المرة الأولى في حياتي التي أنام فيها بعيداً عن أمي وخارج غرفتها .
ولأن جدتي كانت تعاني من الوحدة بعد وفاة جدي ، فكان لابد لها من أنيس ونديم يؤنس وحدتها ويرد وحشتها ، ولأني كنت كثير السهر حينذاك ، ولأسباب ودوافع كامنة في نفس أبي وأمي لا يعلمها إلا الله والأزواج المحرومين ، اختاروني من بين جميع أخوتي لأنام مع جدتي في غرفتها وأكون رفيقها الجديد بعد أن نُفيت وأستوطن الأغراب في بلدي .
ولأني الابن الأكبر كنت كثيراً ما أعتقد في قرارة نفسي بأني رجل البيت البديل وحامي عرين الأسرة في غياب أسدها الكبير ...
كان لجدتي سرير حديدي ذو النفر الواحد وهي لاتنام عليه إطلاقاً لأنها غالباً ما كانت تعاني من آلام في الظهر وبالتأكيد سأستولي أنا على هذا السرير ، وان يكون لديك سرير خاص وأنت في عمر الست سنوات فهذا بحد ذاته يعد مكسباً كبيراً وانتصاراً عظيماً على الخيانات المتتالية والمتلاحقة التي تعرضت لها سابقاً ، والتي تذكرني بطردي من سرير أبي وأنا في ذروة نومي وعز سباتي ، ففي السابق عندما كنت اشارك أبي في سريره لأنام معه كنت كثيراً ما أصحوا في الصباح لأجد نفسي مستلقياً على الأرض قرب باب الغرفة ، وقد أمضيت طفولتي وأنا أحاول جاهداً أن أجد تفسيراً منطقياً ومقبولاً لهذه الظاهرة الغريبة والفريدة من نوعها ، لكن يمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين ، فقد آن الأوان لفضح المخططات والأساليب الشيطانية الشريرة .
وفي يومي الأول مع جدتي في غرفتها كنت أجرها للحديث عن الحرامي وعن السرقات الغابرة في المنطقة ،وتتفتح أذناي للأحاديث المشوقة حتى أصبح خيالي يقيم بطولة لكل رجل أمسك بحرامي ، وبتُ أنتظر بشوق ولهفة تلك اللحظة الحاسمة التي أمسك فيها هذا الحرامي لأمسح فيه الأرض ، حتى أصبح بطلاً في عين جدتي وأمي ، فلا تحقرن صغيراً في بطولته ... إن البعوضة تدمي مقلة الأسد .
حين انطلقت الجدة في نومها العميق كنت أراقب المكان وأستطلع كل حركة شاردة وواردة ، وعلى ما يبدو فإن النعاس قد خان والنوم قد غدر ، فقد مضى وقت كثير وأنا أحاول إغلاق عيوني لكن دون جدوى حتى يئست من النوم ، وبينما كنت في هذا الحال وفي نظرة خاطفة صوبتها نحو الجهة المقابلة للسرير حيث تقع خزانة الملابس الخشبية ( الكنتور ) ، حدث مالم يكن في الحسبان ، وحين أمعنت النظر ، بدى لي بأن هناك مجموعة من القرود تقفز وتلعب على الخزانة وحولها وبالقرب منها : إنها قرود حقيقة فعلاً ، وكان من بين هذه القرود قرداً صغيراً مستهتراً ينظر الي بازدراء واحتقار ويبتسم في وجهي وكانت ابتسامته كأنها ابتسامة انتصار ، حاولت أن اتمالك نفسي وأسيطر على الموقف ، لكنه كان أكبر من أن أتحمله ، حينها أطلقت العنان لحنجرتي وهتفت بصيحات خوف سريعة وقوية ومتتالية كانت كفيلة بإيقاظ جدتي وهي مرعوبة وخائفة ، واتجهت المسكينة نحوي لتعرف ما حل وجرى بالحفيد الشجاع قاتل اللصوص . وحين أعلمتها بالأمر أشعلت النور لترى الحقيقة وتتأكد ، فتبين لنا في النهاية بأن لاوجود للقرود ولاهم يحزنون ، فقد كانت مجرد أوهام وتخيلات بصرية نتيجة الخوف والتفكير المستمر بالحرامي ،،، ولكن لم ينتهي الأمر عند هذا الحد أصدقائي وأحبتي ، فبعد أن قرأت جدتي آيات من الذكر الحكيم وتمتمت بكلام لا اعرف معناه انزلتني من السرير ووضعتني معها على فراشها حيث المكان الأكثر أمناً وبعداً عن القردة واللصوص .
وعلى ما يبدو إن هذه الليلة لم يكتب لها أن تنتهي على خير فقد عادت الأوهام والتخيلات المخيفة وأخذت الأفكار العجيبة والغريبة تدور في مخيلتي وتتصارع فيما بينها لإخافتي وإنزال الرعب في قلبي، لكني لم أستسلم أبداً ولم أخضع بسهولة ، فقد كنت دائماً مااتذكر بأني حامي العرين ورجل البيت البديل الذي يجب أن لا يقهر بسهولة أمام قرد تافه وحرامي معتوه .
وبينما كانت أفكار الخوف تروح وتأتي وتدور كانت نظراتي هي الأخرى تدور معها أينما حل ترحالها وذهب ، وأثناء دورانها هذا وقع ناظري على فتحة كبيرة كانت تقع بين باب الغرفة والحائط وهذه الفتحة استطيع من خلالها أن ارى خارج الغرفة بكل وضوح وصفاء ، ومرة أخرى وبنفس اللمحة الخاطفة السابقة رأيت ما كنت أتوقعه وأنتظره بشوق ولهفة ، إنه الحرامي الموعود والسارق المنتظر ، فقد عجل الله لي مخرجه ، وسهل رؤيته ، وبات أمام ناظري وجهاً لوجه ينظر ألي من فتحة الباب بحقد وغل ويبتسم بغضب وكراهية . ولم أكن اعرف حينها ما هو سر هذه الابتسامات الغريبة التي ابتلاني بها الله في هذه الليلة المشئومة ، فحتى جدتي حينما اخبرتها بقصة القرود رغم غضبها إلا إنها في النهاية نظرت في وجهي وابتسمت ابتسامة كابتسامة القرد الصغير والحرامي الملعون .
عموماً أصدقائي حاولت مراراً تفادي الموقف وعدم تكرار ماحدث قبل قليل أثناء موقف القرود فغطيت رأسي في الفراش كمحاولة للنسيان ، لكن الذاكرة تأبى والعقل يرفض ، فلازالت صورة الحرامي بلحيته العفنة وعيونه الجاحظة وأسنانه الصفراء حاضرة أمامي بكل تفاصيلها ، وأنا أنتظر اللحظة التي سيهاجم فيها ويضرب الباب ليدخل الغرفة ويقتلنا أنا وجدتي المسكينة بدون ذنب أو جريرة ويسرق وينهب مايشاء ، وفي لحظة شك حاسمة اعتقدت بأن الحرامي قد ركل الباب فعلاً ودخل الى الغرفة فأطلقت العنان كما في المرة السابقة لحنجرتي وصرخاتي وآهاتي العميقة بصورة أقوى وأعمق وأشد تأثيراً من المرة السابقة ، فقد استيقظ جميع من في البيت ، وبعد أن تبين لنا عدم وجود حرامي حقيقي ، فقد كانت مجرد أوهام وتهيؤات كما في المرة السابقة ، الأمر الذي دفع جدتي للتخلي عني ، فأعادتني الى حيث أتيت والى موطني القديم والأزلي في غرفة أمي لأنام هذه المرة على سرير أبي معززاً مكرماً وأغفى آمناً مطمئناً على أنفاسه العطرة ، ولكن كالمعتاد في الصباح حين استيقظت وجدت نفسي مستلقياً عند عتبة الباب بلا فراش ولا سرير ولاكرامة .