عائشة الباعونية
(…ـ922هـ/… ـ 1516م)
عائشة بنت يوسف بن أحمد بن ناصر الباعونية، الشيخة الصالحة العالمة الأديبة أم عبد الوهاب الدمشقية الصالحية المتصوفة. ولدت في دمشق ونشأت في بيت عريق في العلم والورع، فقد كان أبوها وعمها وأخوها ثم ولدها من أعلام العلماء في الفقه والحديث والتصوف والتاريخ والأدب، فأخذت عنهم وحفظت القرآن الكريم صغيرة، ثم أسمعها والدها علوم الدين اللغة والأدب على شيوخ الشام، ورحلت إلى مصر فأخذت عن علمائها، ونالت من العلوم حظاً وافراً، وأجيزت بالإفتاء والتدريس، وعكفت على الإبداع والتصنيف، فانتفع بعلمها وفضلها خلق كثير، كانت تنتقل بين دمشق والقاهرة وحلب، تطارح علماء عصرها و أدباءه، وتتصل بكبار أهل الدولة إلى أن توفيت في دمشق.
كانت الباعونية من أعلام عصرها في علوم الدين والأدب، نالت إعجاب معاصريها وتقديرهم لإتقانها الفقه والحديث وعلم التصوف، ولبراعتها في الشعر والنثر، ولورعها وفضلها وسمو أخلاقها، ووقوفها نداً للعلماء والأدباء وتفوقها على الرجال في ميادين الثقافة السائدة في عصرها، وظلت موضع تقدير بعد وفاتها، يشيد بها كل المؤرخين لعصرها وكل الدارسين لأدبه.
للباعونية شعر ونظم، أكثره في الموضوعات الدينية مثل التصوف والمدح النبوي، ولها قصائد في مدح بعض أعلام عصرها ومطارحات معهم، ولها شعر في الوصف والتعقيب على أحداث زمنها.
وقد اتبعت في المدح النبوي طرائق من سبقها، وخاصة البوصيري، ورددت معانيهم، وإن ظهر الإخلاص في توجهها والصدق في شعورها الديني. وكذلك الأمر في شعرها الصوفي الذي سارت فيه على نهج ابن الفارض في التعبير بالغزل والخمر عن المواجد الروحية وأحوال الكشف والإلهام ومعاني الحب الإلهي والحضرة الإلهية. ولم تخرج في موضوعات شعرها الأخرى عن المعاني المعروفة و الصور المطروقة وطرائق الأداء الشائعة.
اتسم شعرها بالصنعة البديعية المتكلفة السائدة في عصرها، والاتكاء على التراث في بناء عباراتها، والاهتمام بالألفاظ الفخمة التي تصل إلى الإغراب أحياناً، وإن جنحت إلى الذاتية والوضوح في بعض شعرها، فكأنها أرادت أن تثبت لأدباء عصرها أنها لاتقل عنهم مقدرة و ثقافة.
نظمت الباعونية بديعيتين، الأولى باسم «بديع البديع في مدح الشفيع» جعلتها محررة من قيود تسمية الأنواع البديعية، والثانية باسم «الفتح المبين في مدح الأمين»، ذكرت في كل بيت منها اسم الفن البديعي الذي يمثله، ولها أيضاً نظم في الفقه والتصوف وغير ذلك.
دبجت عائشة الباعونية بعض فصول النثر في التقديم والتعقيب على بديعتيها، وفي المولد النبوي الذي وضعته شعراً و نثراً وفي بعض مؤلفاتها الأخرى، وهو نثر متصنع يقوم على السجع والتوازن وإدراج ضروب البديع في أثنائه، مع التأنق في العبارة واستخدام الموروث الثقافي في الكناية والتشبيه.
تركت الباعونية مؤلفات كثيرة في الشعر والنثر، منها البديعيتان في مدح رسول اللهr وذكر فنون البديع، والمولد النبوي «المورد الأهنى في المولد الأسنى» مطبوع، و كتاب «الفتح الحقي في منح التلقي» يشتمل على كلمات ومعارف سنية، وكتاب «الملامح الشريفة والآثار المنيفة» يشتمل على إنشادات صوفية و معارف ذوقية، وكتاب « در الغائص في بحر المعجزات والخصائص» وهو منظوم، وكتاب «الإشارات الخفية في المنازل العلية» وهو أرجوزة اختصرت فيها كتاب «منازل السائرين» للهروي، وأرجوزة لخصت فيها «القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع» للسخاوي.
من شعرها قولها في دمشق:
نزه الطَّرْفَ في دمشق ففيها
كل ما تشتهي و ما تختار
هي في الأرض جنة فتأمل
كيف «تجري من تحتها الأنهار»
ومن نثرها قولها:
«وكان مما أنعم الله، تعالى، به علي أنني بحمده لم أزل أتقلب في أطوار الإيجاد في رفاهية لطائف البر الجواد، إلى أن خرجت إلى هذا العالم المشحون بمظاهر تجلياته، الطافح بعجائب قدرته و بديع آياته … فربّاني اللطف الربّاني في مشهد النعمة و السلامة، وغذاني بلبان مدد التوفيق لسلوك سبيل الإستقامة، وفي بلوغ درجة التميز، أهلني الحق لقراءة كتابه العزيز، ومَنّ عليّ بحفظه على التمام، ولي من العمر ثمانية أعوام …».