في عصر الخلافة الأموية
بيت مال المسلمين في العهد الامويزادت خزائن بيت المال بالأموال في ظل الخلافة الأموية؛ فقد أشار ابن عبد الحكم (ت 257هـ) إلى أن مقدار المال الذي أرسله مسلمة بن مخلد t والي مصر في عهد معاوية بن أبي سفيان t "بعد أن أعطى أهل الديوان أعطياتهم، وأعطيات عيالهم وأرزاقهم، ونوائبهم، ونوائب البلاد من الجسور، وأرزاق الكتبة، وحملان القمح إلى الحجاز، كان يبلغ ستمائة ألف دينار فضلاً"[1]، وهذا المبلغ -بلا ريب- ضخم جدًّا من ولاية واحدة من ولايات المسلمين، وهي مصر، فما بالنا بمقدار الأموال الأخرى التي كانت تدخل بيت المال من باقي الولايات الإسلامية، ومن دون شكٍّ فإن هذه المبالغ الضخمة تؤكد على أهمية بيت المال في ظلِّ الخلافة الأموية، ومن ثَم عظمة هذه الخلافة.
والملاحظ من كلام ابن عبد الحكم أنه كانت هناك إدارة مركزية لبيت المال في عاصمة الخلافة الإسلامية دمشق، وإدارات فرعية في كل ولاية على حدة؛ وقد كان يُنفق من بيوت المال في كل ولاية على مرافق الحياة داخل هذا المصر، وسد احتياجات هذا الإقليم على أكمل وجه، وبعد ذلك يتم إرسال ما تبقى من الأموال إلى الإدارة المركزية في مقر عاصمة الخلافة.
وقد كان من حق المسلمين في الولايات أن يعترضوا على المال المرسل إلى مقر الخلافة، إذا لم يتيقنوا أن جميع المسلمين لم يأخذوا أعطياتهم بعد، وهذا ما حدث في مصر في ولاية معاوية t، فقد نهضت الإبل بالأموال تريد دمشق، فلقيها أحد رجالات مصر، وهو برح بن حسكل المهري، "فقال: ما هذا؟ ما بال مالنا يخرج من بلادنا؟ رُدُّوه. فردوه حتى وقف على المسجد، فقال: أخذتم أعطياتكم وأرزاقكم، وعطاء عيالاتكم، ونوائبكم؟ قالوا: نعم.."[2]. فتركها برح لتذهب إلى دمشق بعد تأكده من أخذ الجند والرعية لأعطياتهم ومستحقاتهم المعلومة، ولا شك أن هذا الموقف يُدلل على الحرية التي تمتعت بها الرعية في ظل الخلافة الإسلامية.
وشبيه بذلك ما فعلته الرعية مع خليفة المسلمين الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ)، فقد اتهموه بأنه أنفق الأموال في غير محلها، فما كان منه إلا وقد أمر باستجماع الناس في المسجد، فصعد المنبر وقال: "إنه بلغني عنكم أنكم قلتم: أنفق الوليد بيوت الأموال في غير حقها، ثم قال: يا عمرو بن مهاجر، قُمْ فأحضر أموال بيت المال، فحملت على البغال إلى الجامع، ثم بسط لها الأنطاع تحت قبة النسر، ثم أفرغ عليها المال ذهبًا صبيبًا، وفضة خالصة، حتى صارت كومًا، وهذا شيء كثير، ثم جيء بالقبَّانين فوزنت الأموال، فإذا هي تكفي الناس ثلاث سنين مستقبلة، وفي رواية ست عشرة سنة مستقبلة، لو لم يدخل للناس شيء بالكلية، فقال لهم الوليد: والله ما أنفقت في عمارة هذا المسجد درهمًا من بيوت المال، وإنما هذا كله من مالي. ففرح الناس، وكبروا وحمدوا الله U على ذلك، ودعوا للخليفة وانصرفوا شاكرين داعين"[3].
وكان من حق المسلمين أن يقترضوا من بيت المال، لا فرق في ذلك بين أمير ومأمور؛ فقد اقترض عثمان بن عفان t من بيت المال مبلغًا يُقدّر بمائة ألف درهم، وكتب عليه بها عبد الله بن الأرقم، وأشهد عليه كلاًّ من علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر y، فلما حلَّ الأجل ردَّه عثمان t[4].
وفي عصر عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- سعت الدولة إلى إعادة هيكلة وترتيب وإصلاح بيت المال من خلال إيراداته (الزكاة، والجزية، والخراج، والعشور، والأخماس)، فقد بدأ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- سياسته المالية بزيادة الإنفاق على عامة الرعية، فأنفق في رد المظالم حتى أنفد بيت مال العراق، وجلب إليه من الشام[5].
ولما استطاع عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- تحقيق العدالة الاجتماعية والمالية في جمع إيرادات بيت المال، وكذلك صرف مستحقاته؛ فقد زادت الأموال بشكل فائق للحد في عهده، فشرع في صرف الأموال على الناس بطرق مبتكرة، كان من شأنها القضاء على كثير من الأزمات والمشكلات آنئذٍ؛ فقد أمر والي العراق عبد الحميد بن عبد الرحمن أن "أخرج للناس أعطياتهم، فكتب إليه عبد الحَمِيد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقي في بيت المال مال". فأمره بأن يقضي ديون المعسرين من بيت المال؛ إذ قال: "انظر كل من أدان في غير سفه، ولا سرف فاقض عنه". فكتب إليه: إني قد قضيت عنهم، وبقي في بيت مال المسلمين مال. فأمره أن يُزوج المعسرين من شباب وفتيات المسلمين، فقال: "انظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه، وأصدق عنه". فكتب إليه: "إني قد زوجت كل من وجدت، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال".
فأمر عُمر -رحمه الله- بأن تتم عملية التسليف الزراعي من بيت المال بصفته بنكًا للدولة، حيث يُقدم القروض للمزارعين إذا ما أصابتهم نائبة أو ضائقة؛ فقال لواليه: "انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين"[6].
وكان بيت المال بمنزلة الحصن المنيع الذي تلجأ إليه الدولة وقت الأزمات والكوارث، ففي عام الرمادة أو المجاعة عام 18هـ، أمر الخليفة عمر t بأن ينفق t على الناس من "حواصل بيت المال مما فيه من الأطعمة والأموال حتى أنفده"[7].
في عصر الخلافة العباسية
وحينما تولى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (ت 158هـ) الخلافة، كانت سياسته المالية متقشفة إلى أقصى حدٍّ، فلم يكن يخرج دينارًا ولا درهمًا من بيت مال المسلمين إلا وكان يعلمه، حرصًا منه على الأموال، ونتيجة لهذه السياسة المتشددة، تأثر الناس بها تأثرًا شديدًا، حتى اتهم المنصور بالبخل، فلما تولى ابنه المهدي الخلافة، عدل عن سياسة أبيه، ورأى أن التيسير على الرعية بالإنفاق عليهم أوجب من الإمساك والبخل؛ ولذلك فقد أمر عند بداية خلافته باستخراج "حواصل أبيه من الذهب والفضة، التي كانت لا تُحَدُّ ولا توصف كثرة، ففرَّقها في الناس، ولم يُعْطِ أهله ومواليه منها شيئًا، بل أجرى لهم أرزاقًا بحسب كفايتهم من بيت المال، لكل واحد خمسمائة في الشهر غير الأعطيات، وقد كان أبوه حريصًا على توفير بيت المال، وإنما كان ينفق في السنة ألفي درهم من مال السُّرَاة[8]"[9].
وقد بلغت الأموال في بيت المال حدًّا لا يُوصف من الكثرة، نتيجة السياسة المعتدلة التي انتهجها بعض الخلفاء: فقد كان المحمول إلى بيت المال في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد "سبعة آلاف قنطار وخمسمائة قنطار في كل سنة"[10]، وترك الخليفة العباسي المعتضد (ت 279هـ) -عند وفاته- في بيت مال بغداد فقط، ما قدَّره بعض المؤرخين كابن كثير بـ"سبعة عشر ألف ألف دينار"[11]، وهذا مبلغ ضخم جدًّا، خاصة إذا علمنا أن الدينار يساوي 4.25 جرام من الذهب.
في عصر نور الدين محمود
وحينما زادت الضغوط المالية على الدولة، خاصة وقت الحروب والأزمات، وجدنا بعض الأمراء - على الرغم من حاجته الماسة للأموال - يستمر صرف المبالغ الطائلة على الضعفاء والفقراء والعلماء من بيت المال، فكانت وظيفة بيت المال جامعة لكلا الأمرين؛ الإنفاق على الحرب، بجوار الإنفاق على المستحقين من بيت المال؛ فقد أشار بعض المقربين من الأمير نور الدين محمود -رحمه الله- حينما رأوا كثرة خروجه للجهاد، وارتفاع التكاليف الباهظة لهذه الغزوات، فقالوا له: "إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء، والفقراء، والصوفية، والقراء، وغيرهم، فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح؛ فغضب من ذلك وقال: والله! إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم؛ كيف أقطع صلات قوم يدافعون عني، وأنا نائم على فراشي، بسهام لا تخطئ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني، بسهام قد تصيب وقد تخطئ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال، كيف يحلُّ لي أن أعطيه غيرهم؟"[12].
في الأندلس
المسجد الجامع بقرطبةوعرفت الحضارة الإسلامية في الأندلس بيت المال، فقد كان على غرار بيوت المال في المشرق، إلا أن مكانه -في العادة- كان في المسجد الجامع؛ حفاظًا عليه، ورفعة لشأنه، خاصة في ظل الخلافة الأموية في الأندلس[13].
في عصر المماليك
جامع أحمد بن طولونوأهم ما تميز به ديوان بيت المال في العصر المملوكي إنفاقه على العمائر والمنشآت الرائعة، التي ما زالت موجودة حتى عصرنا الحاضر، مثل: جامع الظاهر بيبرس، ومدرسة وبيمارستان قلاوون، ومسجد الناصر بالقلعة، وقلعة قايتباي، ومسجد السلطان قنصوه الغوري[14].
وقد حرصت مؤسسة الحكم في العصر المملوكي على تولية بيت المال لكبار الفقهاء المشهورين بالصلاح والعلم، مثل الفقيه عزِّ الدين بن جماعة الذي ولي وكالة بيت المال بجوار نظارة جامع أحمد بن طولون، في عام 731هـ[15].
لقد كان بيت المال بمنزلة الركن الحصين الذي لجأت إليه مؤسسات الحكم في الحضارة الإسلامية في العصور المختلفة، فقد لبَّى كل المتطلبات والمستلزمات والمستحقات التي فُرضت عليه، على أكمل صورة، وأفضلها، والحق أن بيت المال في حضارتنا الإسلامية يعبر بجلاء عن دقة وتنظيم هذه الحضارة منذ بداياتها الأولى.
د. راغب السرجاني
[1] ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها ص117.
[2] المصدر السابق ص345.
[3] ابن كثير: البداية والنهاية 9/170، 171.
[4] البلاذري: أنساب الأشراف 6/173.
[5] الصلابي: الدولة الأموية ص336.
[6] ابن عساكر: تاريخ دمشق 45/213.
[7] ابن كثير: البداية والنهاية 7/103.
[8] السُّرَاة: أي الأشراف. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة سرا 14/377.
[9] ابن كثير: البداية والنهاية 10/163.
[10] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 1/181.
[11] ابن كثير: البداية والنهاية 11/106.
[12] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/463.
[13] انظر: ابن عذارى: البيان المغرب 2/230.
[14] البيومي إسماعيل: النظم المالية في مصر والشام زمن سلاطين المماليك ص264.
[15] المقريزي: السلوك 3/146.
د.راغب السرجاني