هوفارد ريم / صوت النرويج الهامس
النرويج تلك البلاد الواقعة في شمال القارة الاوربية ، تسمى بلاد النوارس وبلاد الثلوج والجبال والاسماك والخضرة ، ومؤخراً اطلق عليها الشاعر النرويجي هوفارد ريم ، ذلك الشاعر المتألق بقصائده " بلاد المشنقة " ولسوف نتطرق لاحقاً لماذا بلاد المشنقة ؟ .
فثمة ادباء كبار في هذه البلاد لم نتعرف عليهم الا منذ فترة قصيرة ، ذلك ان اللغة النرويجية لا يتكلمها غير سكان النرويج الذين لا يتجاوز عددهم الاربعة ملايين نسمة ، وبما ان المهاجرين العرب حديثو العهد في الاقامة بهذه البلاد ، وعلى الرغم من ان " احمد ابن فضلان " مبعوث الخليفة العباسي المقتدر قد زارها في القرن العاشر الميلادي عندما ارسله الخليفة الى بلاد الترك والخزر والصقالبة والروس واسكندنافيا ، وتعرف على عادات وتقاليد تلك الشعوب في رحلة تكاد تكون غاية في الاثارة والمجازفة ، ولذلك فلم يصلنا الا القليل من ادب هذا الشعب المعروف بشعب " الفايكينج " وخلال السنوات القليلة الماضية استطاعت ثلة من الادباء العراقيين المقيمين في النرويج ان يقوموا بترجمة اعمال مجموعة من الشعراء النرويجيين ، ويقدموا ترجماتهم على طبق من ذهب بين يدي القاريء العربي ، وقد تمت ترجمة الشعراء ، ارلنك كتلسن وهوفارد ريم و وغن دالبي وتور الفن ورولف ياكوبسن ، من قبل شعراء عراقيين تجاوزت اقامتهم في هذه البلاد العقد والعقدين من الزمان ..
وسوف اتناول في هذا المقال واحدا من الشعراء النرويجيين المتميزين وصاحب شهرة واسعة داخل النرويج وهو الشاعر ( هوفارد ريم ) والذي ترجمت له مختارات من شعره الى اللغة العربية من قبل الكاتب والمترجم العراقي وليد الكبيسي ، في كتاب صدر قبل اعوام قليلة عن دار المدى بعنوان ( كتاب المختارات ) .
وهوفارد ريم المولود في العاصمة النرويجية اوسلو ، عام 1959 يعتبر من طليعة الشعراء المجددين في النرويج ، ويمتلك شهرة ادبية واسعة النطاق وهو معروف من قبل النرويجيين بشكل لافت للانظار ، حتى ان شهرته غطت في كثير من الاحيان على اساتذته والذين هم اصحاب شهرة عالمية ..
ويمتاز شعر ريم بالتكثيف داخل الصورة الشعرية وباسلوب مبسط غير معقد ،حاملا آلامه التي تبرز في كثير من الاحيان أماكن الخلل في الواقع اليومي للحياة القاسية التي عاشها الشاعر في بلاده النرويج ..
لقد عاش طفولة شبه قاسية في احضان عائلته المتكونه من ستة اخوة ، وترتيب هوفارد ريم فيهم هو الخامس ، وضمن حوار مطول مع الشاعر اجراه وليد الكبيسي يقول فيه ريم : ( بسبب التعقيدات الطبية في فترة الحمل ما كان يمكن لي ضمن تعليمات وممارسات المجتمع النرويجي اليوم ، ان اعيش لكن والدّي كانا اصوليين سلفيين ، اذ رفضا الاجهاض كما رفضا منع الحمل ، ولذلك عليّ ان اشكر الاصوليين على وجودي ومجيئي الى الحياة في هذه الارض ) ...
لقد كان والد الشاعر ريم قساً ، وكانت عائلة الشاعر كثيرة التنقل من مدينة الى اخرى في كل خمسة اعوام ، فيما لمس ريم مجموعة من المحرمات في البيت اثناء فترة طفولته ، وما ان بلغ عمر هوفارد ريم الثامنة عشرة من عمره حتى ترك المدرسة والمدينة وسافر بعيدا عن النرويج واقام في جنوب فرنسا وقضى عاما كاملا في احدى جزر البحر الابيض المتوسط ومن ثم عاد خريفاً الى اوسلو ، فاستأجر غرفة صغيرة في العاصمة اوسلو ليتفرغ لنشر مجموعته الشعرية الاولى والتي صدرت في عام 1977 بعنوان " نادوا الابطال " والتي جعلته في مقدمة الشعراء المعترف بهم على الرغم من صغر سنه آنذاك .. وبعد هذه الانطلاقة الشعرية الاولى ظل هوفارد ريم متنقلا من منفى الى اخر ، ما بين اوربا والشرق الاوسط مكرساً حياته للكتابة والسفر حتى بلغ من المجد والشهرة ما بلغه القليل من الشعراء ...
ولابد ان لا يمر صدور مجموعة هوفارد ريم " بلاد المشنقة " من دون وقفة تأمليه عن الشعر في الغرب ودور الشاعر في ان يكون شاهداً على واقع ومنتجا لرؤيا متميزة يلعب فيها دور نبي ، والحديث عن هوفارد ريم لابد ان يجرنا عن امتداد النبوة ، والشاعر النرويجي لا يعترض على ذلك فهو ايضاً يرى نفسه كنبي غريب في وطنه ،فيقول لنفسه : كمن يكتشف محنة نبوءته ويرى غربته بين اهله ووطنه وعصره فيخاطب نفسه وهو يشعر بانه النبي يشوع قائلا :
ولابد لرؤيا الشاعر من ان تميز فرادته في بلده .. انه نمط من الجيل الجديد الذي يعيش في العالم بروح كوزمويوليتيكية لها ، تنتمي لبلد معين اوشعب معين ، بل يتلبسه شعور بانتمائه للكوكب وانه مواطن كوني ينتمي الى شعب الانسان في كل موقع ، ويضع الشاعر ريم هنا شرطاً للسلام في عالم اوربا والشرق الاوسط ، وهو ان يخلع الانسان عنه كل الاقنعة ويكون فرداً متفردا ، بلا قناع الدين والعنصر والقومية وكل ما تتوهم الشعوب بانه هويتها ، وهو في الواقع ليس الا غلاف الهوية ، ويحلم بجنة على الارض قوامها مجتمع بشري واحد ينتجه الانسان ، وجنة تخلقها الاقمار الصناعية والانترنيت وحركة السياحة ، ثم يتوقف خلال حلمه ويتدارك ليقول : عملية تساوي ومزج الهويات ، يكلف الغرب ان يتنازل عن هيمنته الاقتصادية والا فمصير البشرية الدمار المحتم ..
عنوان المجموعة هو " بلاد المشنقة " من ابداعات فنطازيا الشاعر هوفارد ريم . ففي " بلاد المشنقة " ، لا يشنق أحد ! إذاً أي بلد هذا ، حيث يجيب الشاعر في حوار اجراه معه مترجم المجموعة " وليد الكبيسي ، ويقول : عندما حصلت على الاناجيل مخزونة على قرص كومبيوتر ، قمت بتجربة بسيطة لم تستغرق أكثر من خمسة ثوان ، فقد وضعت الاقراص في الكومبيوتر وبحثت عن كلمة " صليب " واستبدلتها ب " مشنقة " ذلك لان الصليب في الامبراطورية الرومانية قبل ألفي عام زمن المسيح ، كان له نفس فعل المشنقة في الغرب اليوم ونفس فعل الكرسي الكهربائي في امريكا . بعد استبدال كلمة باخرى حصلت على نص للأناجيل يتحدث عن المشنقة لا الصليب ، وهو نص دموي وبشع ، فبدأت أتصور فيما لو غيرت صور الصليب على العلم النرويجي بمشنقة وفيما لو أن رموز الصليب على منارات الكنائس تحولت الى مشانق ، سنرى الواقع بشكل اخر ، ان حضارتنا اليوم تمجد جهاز الاعدام كرمز ديني وقومي ، انا استغرب ان العقل الغربي حتى هذه اللحظة لا يتمرد على هذه الحضارة ، وما الذي يرجى من حضارة وشعوب تقدس جهاز الاعدام ...
القصائد التي تعرضها مجموعة " بلاد المشنقة " تدعو الى التأمل والتفكير وتبتعد عن الغموض والترميز ،ففي واحدة من القصائد يتنبأ فيها بسقوط الغرب وتهاويه وتلاشي حضارته ، ومثلما صار سكان امريكا أقلية من الهنود الحمر وتعيش في مناطق معزولة أنقرضت كلياً ، ولم يبق منهم غير مجموعات متفرقة ، اصبحت غريبة في مواطنها ، فانه يطلق على شعوب اوروبا البيضاء "الهنود البيض" فكما يذكر التاريخ الهنود الحمر واحترامهم للطبيعة ، سيذكر ايضاً التاريخ يوماً الهنود البيض وديمقراطيتهم ، ففي قصيدة الهنود البيض يقول ريم :
كما يذكر التاريخ الهنود الحمر
الحدود التي لم يضعوها ابداً للارض
سيذكر التاريخ الهنود البيض
الحدود التي لم يضعوها ابداً للكلمة
ولم يتردد شاعرنا من ان يفضح نفسه ، فهو قد ورث من والده القس المسيحي ، كيف يعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر ، لكنه يقول انه تعلم ان يصبح عادلا فيعطي ايضاً ما للشيطان للشيطان ، فهو يعطي لكل شيء حقه ..
احدى قصائد المجموعة تصف حالة من الملل من جحيم البشر واراد ان ينشغل بذاته ، فبينما كان عائداً من المدرسة أعتاد ان يشتري علبة دخان من دكان ، ففي ذلك اليوم شاهد الدكان مغلقاً وعلى بابه لافته كتب عليها " الدكان مغلق بسبب الترميم حتى اشعار اخر " فشعر بانه بحاجة لعزلة وانه ايضاً تنتابه نفس الرغبة في ان يضع على صدره نفس اللافتة ، ففي قصيدة الدكان يقول :
ان اضع على صدري ما يضعه صاحب
وتذكرنا بساطة القصائد بسلاسة لغة محمد الماغوط ، لكن تناوله للموضوعات يخرق ما اعتاد عليه الشعر العربي ، ويبدو ان المجموعة المترجمة للعربية لهوفارد ريم هي عبارة عن مختارات من مجموعات صدرت للشاعر في فترات مختلفة ، فبعضها تبدو بانها هموم شاب ..
وبعضها الاخر هموم متابع لمجريات السياسة كقصيدة عن السلام ، وبعضها الاخر قصائد تبدو عليها الحكمة والتأمل بامور الحياة ..
سأل الطفل : كم رحلة توجد في الدنيا ؟
سأل الطفل : اي رحلة هذه ؟
أجبته : الحياة ، السبعين عاما التي تعرفها .
سأل الطفل : اذا ما هو كل ما عدا ذلك ؟
ويشمل التنوع قصائد عن الحب والاصولية وعن هموم المجتمع الغربي وحالة الملل من ترف وإنعدام معنى الحياة ، وعن الايمان ايضاً والعنصرية ....
من اصدارات الشاعر النرويجي " هوفارد ريم :
4 – عام سعيد في فتوتي 1982
5 – رؤيا شارع كارل يوهان 1987
6 – تمارين في وضع الحدود 1993
وقد بلغ عدد الاصدارات بما فيها الكتب والاسطوانات والمسرحيات وكتب المقالات 49 كتاباً
كما كتب قصصا للاطفال ومسرحيات للاطفال وكتب انجيل الشعراء ....
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
مما قرأت وراق لي
تـحـآــيآي