لا يعرف سكانها الأرقام قبيلة مدهشة .. كيف يعيش أهلها؟






تخيل أن تعيش حياتك بدون أرقام! لغة هذا الشعب لا تعرف الأعداد.. لذلك يبدون سعداء


رغم دخول العالم إلى الألفية الثالثة، ما زالت هناك شعوب لا تعرف الأرقام! فهناك قبائل تعيش على الصيد وجمع الثمار في أعماق غابات الأمازون، ولا تستخدم هذه القبائل الأرقام، وتحيا على ضفاف أطول نهرٍ في العالم.
وعوضاً عن استخدام الأرقام لتحديد الكميات بدقة، لا يعتمد هؤلاء الناس إلَّا على المصطلحات المكافئة لكلمتي “قليلٍ من” أو “بعض”، وفقاً لما نشرته صحيفة ديلي ميل البريطانية.
وتؤثر الأرقام الدقيقة (والمُنهِكة) التي نفكر فيها على كل شيء؛ بدءاً من جداولنا الزمنية، وحتى ثقتنا بالنفس.
لكن، ومن منظورٍ تاريخي، فإنَّ الأشخاص الملتزمين باستخدام الأرقام هم الاستثناء. فبالنسبة لمعظم الأجناس البشرية التي انحدرنا منها، والتي دامت حقبتها الزمنية نحو 200 ألف عام، لم تكن لدينا وسائل للتعبير عن الأرقام بدقة.
والأكثر من ذلك، تتباين اللغات المستخدمة حالياً، والتي تصل إلى نحو 7000 لغة، تبايناً شديداً في طريقة استخدامها الأرقام.
ويمنحنا متحدثو اللغات الخالية من الأعداد، أو التي لا تستخدم الأرقام، القدرة على فهم الكيفية التي أسهم بها اختراع الأرقام في إعادة تشكيل الحياة البشرية.
وتضُم الثقافات التي لا تستخدم الأرقام، أو التي لا تستخدم سوى رقمٍ أو اثنين دقيقين، قبيلتي الموندوروكو والبيراها اللتين تعيشان في غابات الأمازون.
وأجرى باحثون دراساتٍ أخرى على بعض الأشخاص البالغين الذين لم يتعلموا الكلمات التي تعبر عن الأرقام طوال حياتهم في دولة نيكاراغوا.



ومن دون الأرقام، يواجه الأشخاص البالغون المعافون صعوباتٍ في التمييز الدقيق بين الكميات التي لا تزيد حتى عن 4، وكذلك يجدون صعوبةً في تذكُّرها بدقة.
وفي إحدى التجارب، وضع الباحث بعض المكسرات في علبةٍ واحدة، واضعاً قطعةً واحدةً في كل مرة، ثم أخرجها من الصفيحة بالطريقة نفسها (واحدةً في كل مرة).
ثم طُلِب من الشخص الذي يشاهد التجربة الإشارة بيده عند الانتهاء من إخراج جميع المكسرات.
وتشير ردود المشاركين في هذه التجربة إلى أنَّ الأشخاص الذين لا يعرفون الأرقام يواجهون صعوباتٍ في معرفة عدد قطع المكسرات المتبقية في الصفيحة، حتى لو كان عددها الإجمالي 4 أو 5 قطع فقط.
وتوصَّلت هذه التجربة، والعديد من التجارب الأخرى المشابهة، إلى استنتاجٍ بسيط: وهو أنَّه حينما لا يكون الناس على علمٍ بالكلمات التي تُعبِّر عن الأرقام، فإنَّهم يواجهون صعوبةً بالغة في التمييز الكمي الذي قد يبدو عمليةً بديهيةً بالنسبة لنا.
وفي حين أنَّه لا يوجد سوى عددٍ قليل من اللغات التي لا تعرف الأرقام، أو تستخدم عدداً قليلاً جداً من الأرقام، في العالم، إلا أن هذه الحقيقة تُثبت أنَّ استخدام الكلمات التي تعبر عن الأرقام ليست ظاهرةً إنسانية عالمية.


ومن الجدير بالذكر، تأكيد أنَّ أولئك الأشخاص الذين لا يعرفون الأرقام هم طبيعيون تماماً، ومتأقلمون جيداً مع البيئات المحيطة بهم، والتي يسيطرون عليها منذ قرون.
وحتى الآن، يواجه الأشخاص الذين لا يعرفون الأرقام صعوبةً في أداء المهمات التي تتطلب تمييزاً دقيقاً بين الكميات. وربما لا ينبغي أن يُمثِّل ذلك مُفاجأة.
ففي نهاية المطاف، كيف يُمكن لشخصٍ ما أن يقول عدد ثمرات جوز الهند في إحدى الأشجار، وليكن على سبيل المثال، 7 أو 8، دون استخدام العد؟
وتصبح مثل هذه الفروق، التي تبدو بديهية، صعبةً بالنسبة للأشخاص الذين لا يعرفون الأرقام.
وجرى التوصُّل إلى الاستنتاج السابق نفسه بالعمل مع الأطفال الذين لا يعرفون الأرقام في المجتمعات الصناعية.
فقبل أن يُلقَّن الأطفال الكلمات التي تعبر عن الأرقام، كان لا يمكنهم التمييز تقريباً سوى بين الكميات التي تقل عن 3.
ويجب أن نمتلك وسائل إدراك الأرقام قبل أن نتمكن من تمييز الكميات الأكبر بسهولة واستمرار.
وفي الحقيقة، يُعد استيعاب المعنى الدقيق للكلمات التي تعبر عن الأرقام عمليةً مضنية، ويستغرق إتقانها أعواماً من الأطفال.
ففي البداية، يتعلم الأطفال الأرقام بطريقةٍ شبيهة للغاية بالطريقة التي يتعلمون بها الحروف.
ثم يُدركون أنَّ الأرقام مُرتَّبةٌ تسلسلياً، لكنَّهم لا يُدرِكون سوى القليل عن دلالة كل رقمٍ على حدة.
وبمرور الوقت، يبدأون في فهم أنَّ أي رقم يُمثل مقداراً أكبر من مقدار الرقم الذي يسبقه مباشرةً بدرجةٍ واحدة.
ويُعد “المبدأ التسلسلي” جزءاً من تأسيس إدراكنا للأرقام، لكنَّ استيعابه يحتاج إلى ممارسةٍ مُكثَّفة. ومن ثم، لا يُعَدُ أيٌّ منَّا “أشخاصاً بارعين بطبيعتهم في استخدام الأرقام” حقاً. ولسنا مُهيَّئين للتعامل مع الفروق الكمية ببراعة.
وإذا لم تكن التقاليد الثقافية التي تُرسِّخ الأرقام في حياتنا موجودة منذ الصغر، لعانينا جميعاً حتى مع أبسط الفروق الكمية البديهية؛ إذ تُشكِّل الكلمات التي تعبّر عن الأرقام وكذلك الأرقام المكتوبة تفكيرنا الكمي؛ لأنها تُدمَج في خبرتنا الإدراكية عن طريق آبائنا، وأقراننا، ومُعلِّمينا.


وتبدو العملية بديهية جداً لدرجة أنَّنا نظنها في بعض الأحيان جزءاً طبيعياً من مراحل النمو، لكنَّها ليست كذلك.
وتكون العقول البشرية منذ البداية مزودةً بغرائز كَمّية معينة، يجري صقلها مع التقدُّم في العمر، غير أنَّ هذه الغرائز محدودة للغاية.
فعلى سبيل المثال، حتى في طفولتنا المبكرة، نكون قادرين على التمييز بين كميتين مختلفتين بشكلٍ ملحوظ، وليكن مثلاً، التمييز بين 8 أشياء و16 شيئاً.
غير أنَّنا لسنا الجنس الوحيد القادر على فعل ذلك. ومقارنةً بحيوانات الشمبانزي، والرئيسيات الأخرى (وهي رتبة من طائفة الثدييات)، لا تُعَدُ غرائزنا العددية مذهلة بقدر ما يعتقد الكثيرون؛ بل إنَّنا نتشارك حتى بعض سمات التفكير الكمي الفطرية الأساسية مع طوائف أخرى لا علاقة لها بالثدييات مثل الطيور.
وفي الحقيقة، بعد إجراء دراسات على بعض الفصائل الأخرى، ومن بينها الببغاوات، تُرجِّح هذه الدراسات أنَّ هذه الفصائل بإمكانها أيضاً صقل تفكيرها الكمي، إذا تعرَّضت لأدوات القدرة الإدراكية التي نُسميها أرقاماً.
إذاً، كيف اخترعنا الأرقام “غير الطبيعية” بالأساس؟ تكمن الإجابة حرفياً في أصابعكم.
تستخدم معظم لغات العالم أنظمةً عددية أساسها 10، أو 20، أو 5. والمقصود بذلك هو أنَّ هذه الأرقام الصُغرى تمثل الأساس بالنسبة للأرقام الأكبر منها.
وتُعد اللغة الإنكليزية إحدى اللغات ذات الأساس 10، أي إنَّها لغةٌ عشرية، ويتضح ذلك من خلال التعبير عن الرقم باستخدام الرقم 10؛ إذ يُصبح الرقم 14 (4 + 10)، والرقم 31 (3 × 10 + 1).
ونحن نتحدث لغةً عشرية (الإنكليزية)؛ لأنَّ لساننا ورث اللغة الهندية الأوروبية البدائية من أسلافنا، والتي كانت تستند إلى أساسٍ عشري.


وكانت اللغة الهندية الأوروبية البدائية قد تأسست على أساسٍ عشري؛ وذلك لأنَّ أسلافنا اللغويين، كما في العديد من الثقافات، استخدموا أياديهم كمدخلٍ إلى فهم العديد من الأشياء، مثل أنَّ “الأصابع الخمس في هذه اليد تماثل تماماً الأصابع الخمس في اليد الأخرى”.
وتحوَّلت هذه الأفكار العابرة إلى كلماتٍ، وتناقلتها الأجيال. وهذا هو السبب في أنَّ كلمة “خمسة” مُشتقة من كلمة “يد” في العديد من اللغات.
وتُعد معظم الأنظمة العددية من ثم ناتجاً ثانوياً لعاملين أساسيين؛ أولهما استيعاب البشر للغة، وثانيهما، النزعة الإنسانية للتركيز على أيادينا وأصابعنا.
ولقد ساعدنا هذا التعلُّق بأيادينا، والذي يُعد نتيجةً غير مباشرة لسيرنا منتصبين على ساقين، في التوصُّل إلى الأرقام بمعظم الثقافات، لكن ليس جميعها. وتمنحنا الثقافات التي لا تعرف الأرقام أيضاً نظرةً على التأثير المعرفي لتقاليدٍ عددية معينة.
وحين تُفكرون في التوقيت على سبيل المثال، تكتشفون أنَّ يومكم محكومٌ بالدقائق والثواني، غير أنَّ هذه المصطلحات ليس لها وجودٌ مادي، ولا يعرِف عنها الأشخاص الذين لا يستخدمون الأرقام شيئاً.
وتُعَدُ الدقائق والثواني هي المكونات المنطوقة والمكتوبة لنظامٍ عددي غير شائع أساسه 60، استُخدِم في بلاد الرافدين منذ آلاف السنين.
وتستقر الدقائق والثواني في عقولنا كمصطلحاتٍ عددية وضعها الإنسان، دون أن يتوارث البشر كافة دلالتها المُجرَّدة.
وتُظهر الأبحاث الخاصة بلغة الأرقام، وعلى نحوٍ متزايد، أنَّ التنوع اللغوي والمعرفي الهائل يُعَد إحدى السمات الأساسية لجنسنا البشري.
وبينما توجد قواسم إدراكية مشتركة لا يخالطها شك عبر المجتمعات الإنسانية كافة، يُعزز اختلاف الثقافات المتأصل بنا الاختلاف العميق للخبرات الإدراكية.
وإذا كان لزاماً علينا فهم كيفية اختلاف خبراتنا الإدراكية عبر الثقافات فهماً عميقاً، فيجب علينا أن نستكشف أعماق التنوع اللغوي في جنسنا البشري باستمرار.