تنتشر في مصر جملة دارجة على الألسنة تقول: "حكم قراقوش"، وتقال للشخص إذا كان صاحب سلطة ومَالَ إلى البغي والظلم، فتُقال للوزير والمدير وأحيانًا لرب الأسرة. وعلى جانب آخر صوَّرت بعض المصادر قراقوش كمثال للسذاجة والبله، وحكيت عنه حكايات تشير إلى شخص أحمق وغبي ويثير الضحك.. والبعض يتصور أن قراقوش شخصيَّة لا وجود لها، لكن الحقيقة غير ذلك؛ لأن شخص قراقوش كان مثالاً للعدل، ومثالاً للعطاء بلا حدود.. وكان واحدًا من ثلاثة بَنَى عليهم صلاح الدين الأيوبي أركان حكمه.

قال عنه ابن إياس في (بدائع الزهور): "كان قراقوش القائم بأمور الملك، يسوس الرعية في أيامه أحسن سياسة، وأحبته الرعية ودعوا له بطول البقاء".

وقال عنه ابن خلكان في (وفيات الأعيان): "كان حسن المقاصد، جميل النية، وكان له حقوق كثيرة على السلطان وعلى الإسلام والمسلمين".

أما ابن تغري بردي فقال عنه في (النجوم الزاهرة) عند ذكره صلاح الدين الأيوبي: "وكان وزيره بمصر الصاحب بهاء الدين قراقوش، صاحب الحارة المعروفة بسويقة الصاحب القديمة في الجامع الحاكمي، وكان رجلاً صالحًا غلب عليه الانقياد إلى الخير، وكان السلطان يعلم منه الفطنة والنباهة، وكان إذا سافر السلطان من مصر إلى الشام في زمان الربيع كما هي عادته كل سنة، يفوض إليه أمر البلاد، لكنه في سنة إحدى وستين وخمسمائة حكمها منفردًا من غير مشاركة؛ لوفاة ولي العهد المشارك له في ذلك، فلم يستقم له الحال، ووضعت عليه الحكايات المضحكة".

والسؤال الآن: من هو قراقوش؟
قراقوش في الأصل غلام مملوكي جيء به من أسواق النخاسة، وقد يكون من أصل تركي، وكان خصيًّا، وألحق بمماليك أسد الدين شيركوه وقتما كان يعمل هو وأخوه نجم الدين أيوب في خدمة السلطان عماد الدين زنكي بالشام، واستمر أسد الدين وأخوه نجم الدين في خدمة آل زنكي ومعهما قراقوش، الذي أسلم على يد سيِّده أسد الدين، وأصبح اسمه بهاء الدين عبد الله الأسدي، وأعتقه بعد ذلك، وصار مشهورًا بالأمير بهاء الدين قراقوش، وأصبح بعد ذلك من كبار أمراء أسد الدين شيركوه، وأيضًا من كبار قادة جيشه.

ولما أرسل نور الدين محمود قائده أسد الدين شيركوه بجيشه إلى مصر بناء على طلب آخر الملوك الفاطميين بها، وأتى إلى مصر بصحبة ابن أخيه صلاح الدين كان معهم قراقوش، بعد أن أصبح قائدًا عسكريًّا كبيرًا، وتداعت الأحداث بعد ذلك بموت نور الدين في دمشق، وموت الخليفة العاضد آخر الحكام الفاطميين في مصر، وظهور نجم الأيوبيين، وآلت مصر والشام لحكم صلاح الدين الأيوبي.

أركان حكم صلاح الدين الأيوبي
كان صلاح الدين الأيوبي يقيم أركان حكمه على ثلاثة أشخاص، وهم: الفقيه عيسى الهَكَّاري، والقاضي الفاضل، وقراقوش. وكان هؤلاء الثلاثة هم وراء تثبيت دعائم دولة صلاح الدين الجديدة، ومن بين الثلاثة برز قراقوش وتميَّز عن الجميع، فكان دوره كبيرًا في السيطرة على حالة الفوضى التي عمَّت في مصر بعد موت الخليفة العاضد ومحاولة بعض رجاله الدخول في صدام مع صلاح الدين لبقاء مصر تحت راية الفاطميين..

لكن قراقوش تمكن من السيطرة على الموقف، فقام بنقل أسرة العاضد من قصر الخلافة إلى منزل الأمير برجوان، صاحب الحارة التي تعرف باسمه حتى يومنا هذا بالقاهرة، وعزل النساء عن الرجال من أسرة العاضد، كما قام ببيع العبيد والجواري، وسيطر على ثروة القصر الفاطمي الذي كان به ثروة لم تتوفر لأي ملك من ملوك الدنيا قبل ذلك.

قراقوش في مصر
كانت ظروف المرحلة تفرض على صلاح الدين أن تتجه أغلب جهوده في إعداد الدولة لخوض الحرب ضد الصليبيين الذين كان يحتلون بيت المقدس وقتها، فتوسعت الدولة في بناء القلاع والحصون والمنشآت العسكرية من إقامة الجسور وتمهيد الطرق، وكلها مهام ضخمة لم يجد صلاح الدين خيرًا من قراقوش ليقوم بالإشراف عليها، وكان مشهورًا بصبره وجلده وعزيمته الفولاذية التي لا تلين، إضافةً إلى مواهبه الهندسية التي كشفت عنها أعماله.

كان أول عمل عظيم قام به قراقوش هو بناء "قلعة الجبل"، على جزء مرتفع من الأرض منفصل عن جبل المقطم بالقاهرة، وتشرف على القاهرة كلها، وكانت مقرًّا للنسر الإسلامي الذي اتخذه صلاح الدين شعارًا لدولته، وأصبحت من بعده مقرًّا للحكم في مصر حتى نقل الخديوي إسماعيل مقر الحكم إلى قصر عابدين بالقاهرة في ستينيات القرن التاسع عشر.

وبعد أن فرغ قراقوش من بناء قلعة الجبل، قام ببناء قلعة المقياس بجزيرة الروضة، ثم سور مجرى العيون الذي ينقل المياه من فم الخليج حتى القلعة، وهو عمل هندسي عظيم بكل المقاييس لما فيه من دقة وحرفية هندسية عالية، ثم شرع في بناء سور عظيم يحيط بالقاهرة والجيزة، لكنه مات قبل أن يتمه، وكان قد حشد له آلاف الأسرى من الصليبيين وغيرهم من عامَّة الشعب، الذين قاموا بتقطيع أحجاره من صحراء الهرم، ويعتبر هذا العمل الضخم هو أحد أسباب كراهية العامَّة لقراقوش، الذين أحسوا بمرارة السخرة خلال هذا العمل الضخم.

قراقوش في الشام
وإضافة إلى هذا الدور العظيم الذي قام به قراقوش في مصر، كان له دور مهم أيضًا قام به في الشام، وبالتحديد في عكا، فبعد انتصار صلاح الدين على الصليبيين ونجاحه في طردهم من بيت المقدس، واصل زحفه حتى استولى على واحد من أهم وأكبر حصونهم في الشام، وهو حصن عكا، بعد أن دفع فيه ثمنًا غاليًا من المال والشهداء، وكان الحصن قد تهدمت منه أجزاء كثيرة أثناء المعارك، ورأى صلاح الدين أن يترك عكا وحصنها أمانة في يد قراقوش، ويذهب هو ليواصل زحفه لامتلاك حصون الصليبيين الأخرى، قبل أن يفيقوا من هزيمتهم في عكا، ويتمكنوا من جمع شملهم الذي تفرق، وقبل أن يأتيهم المدد من ملوك أوربا..

بقي قراقوش حارسًا للمدينة مع حامية صغيرة، وواصل الليل بالنهار يبني ويرمم ما تهدَّم من سور المدينة وحصنها، وعكف على هذا العمل بهمةٍ لا تعرف الملل، وعزيمة لا تعرف الكلل.

حصار الصليبيين على عكا
لكنه ما كاد ينتهي من عمله هذا حتى واجه ما لم يكن في حسبانه؛ فالصليبيون الذين أجلاهم صلاح الدين عن القدس وهزمهم بعد ذلك في عكا، تجمعوا ولمُّوا شتاتهم الذي كان قد تفرق في حصن آخر من حصونهم التي كانت لهم على الساحل، وزحفوا على عكا من جديد وحاصروها، واستمر حصارهم لها عامين..

وكان وقتها صلاح الدين وجيشه مشغولاً بمحاربتهم في مكان آخر بالشام، وذاق قراقوش ومن معه مرارة الحصار داخل أسوار عكا، وتحملوا أقصى ما يمكن أن يتحملوه من جهد ونصب، ونفدت أثناء الحصار الأطعمة، ووجدوا صعوبة شديدة حتى في الحصول على الماء للشرب، وتفشت الأوبئة بين المحاصرين، حتى تمكن منهم الصليبيون، فاقتحموا أسوار عكا، وأسروا من فيها بما فيهم قراقوش، وبقي في الأسر حتى افتدى صلاح الدين كل الأسرى بعد ذلك.

وفاء قراقوش لصلاح الدين الأيوبي
ولما توفي صلاح الدين الأيوبي، ظلَّ قراقوش على وفائه مع ابنه العزيز، يحمي عرش مصر والشام، ثم كان وصيًّا على عرش المنصور، ومارس كل مهام السلطنة في بهذه الصفة، إلى أن أعفاه منها الملك العادل أخو السلطان صلاح الدين، وبعدها لزم بيته حتى توفاه الله عام 1201م.

المصدر: مجلة الباحثة.

قصة الإسلام