الألوان كما النار تمامًا. ساحرة وغامضة لا يمكنك امتلاكها والاستئثار بها لنفسك أو في قبضتك. أنت فقط تلاحظها، تستمتع بها، تتركها تتلاعب بعواطفك، أو تطلب مساعدتها في كل ما تفعله.
هكذا، لم يستغرق الأمر طويلًا حتى وجّه العلم ترسانته لدراسة الألوان وتأثيرها على نفوس البشر وقدرتها على الإقناع؛ كما تعلمون، فما كان قديمًا مشاعًا للتخمين والنظريات غير المثبتة في أي مجال، صار الآن علمًا قائمًا على الأبحاث والدراسات المستفيضة. إلا أن الأكثر إثارة للجدل هنا هو استغلال نتائج تلك الدراسات في التسويق والدعاية للمنتجات، بالتأثير والتوجيه المباشر للمستهلكين بالاستعانة بالسحر الكامن بالألوان.

وأنا لا أبالغ عندما أصف تأثير الألوان بالسحر، فهو كذلك بالفعل! فعلى سبيل المثال، وجد العلماء أن للألوان تأثير وزني! فالأسطح ذات الألوان الباردة الفاتحة كالأزرق الباهت أو اللبني تظهر للعين أخف وزنًا من الألوان الساخنة والقائمة كالقرمزي والأسود! والمدهش كذلك أن للألوان تأثير “مكاني”! فالألوان الباردة تظهر وكأنها تثير شعورًا بالانكماش مما يعطي شعورًا بقصر المسافة وبالتالي الإحساس بضيق الحيز؛ في حين أن الألوان الساخنة تثير شعورًا بالتمدد، فتعطي تأثيرً باتساع الحيز!
هذا بالطبع إلى جانب قدرة الألوان على التلاعب بمشاعرنا وتغيير أمزجتنا؛ فالأزرق و الأخضر من الألوان التي تبعث على الهدوء أما الأصفر فهو مبهج جاذب للانتباه بينما الأحمر مثير و الأرجواني يعطي الإحساس بالحزن لهذا لا يفضل استخدامه في المسطحات الكبيرة. هكذا وكما ترون، للألوان تأثير كاسح وإن كان خفيًا على طريقة تفكيرنا ونظرتنا للعالم من حولنا.
هكذا كان المدخل إلى التفكير بابتكار درجة لون بمهام غريبة قليلًا. ماذا عن لون غير جذاب “يقلل الشهية” و”يثير الانزعاج” بتعظيم آثار الضرر المتوقع وقوعه جراء ممارسة ما أو استهلاك منتج ما؟! هذا ما فعله الباحثون تمامًا بتحديدهم لدرجة اللون الأكثر قبحًا في العالم! والذي يوصف بأنه “قذر” و”زفت” وأنه كـ “الموت” حتى! رحبوا، أو لا ترحبوا، معنا ببانتون 448-C!

بانتون 448 سي Pantone 448 C والذي يدعى كذلك “كوشية غير شفاف opaque couché” هو اللون الذي انتهى إليه عدد من الباحثين بوصفه اللون الأبشع والأكثر إثارة للامتعاض، بعدما لجأت الحكومة الأسترالية في 2012 إلى وكالة GfK البحثية لتطوير تصميم مبتكر لعلب السجائر ومنتجات التبغ. المهمة كانت غريبة ومعكوسة: لا نحتاج هنا إلى تصميم جذاب كما جرت العادة، بل نطلب منكم العكس تمامًا! يجب أن يبدو التصميم منفرًا وكريهًا إلى أقصى درجة ممكنة بينما يحتفظ في الوقت نفسه بخطوط التصميم وفلسفته المتعارف عليها. نظرة واحدة إليه يجب أن تفقدك الرغبة في الشيء الذي يمثله… هكذا ولد بانتون 448 سي!
استغرق الأمر 3 أشهر، و7 دراسات بحثية، وأكثر من 1000 مدخن لتحديد لون بانتون 448 سي الجديد باعتباره الأقبح، مع أن القائمة النهائية شملت الأخضر الجيري، والبيج، والرمادي الغامق، ولون الخردل. وأتى اللون البني الداكن في المرتبة الثانية لأقبح لون وفقًا لتلك الدراسات، لكن درجته الـ “شيكولاتية” بدت شهية ومرغبة!
هكذا فار بانتون 4484 سي باللقب، وقامت الحكومة بالإعلان عن درجة اللون الفائزة تحت اسم “أخضر ريتوني olive green”؛ إلا أنها اضطرت للتراجع سريعًا عن تلك التسمية أثر اعتراض جمعية الزيتون الأسترالية Australian Olive Association. من ثم تحول اسم بانتون 448 سي المتعارف عليه إلى “بني غامق بمسحة أخضر مصفر Drab Dark Brown”!

الجيد بالأمر هنا هو أنه لم يقتصر على الحكومة الأسترالية التي بدأته، بل امتد إلى حكومات أخرى كأيرلندا، والمملكة المتحدة، وفرنسا والتي اعتنقت اللون الجديد المنفر في طباعة وتغليف علب السجائر والتبغ المباعة بها. وبالطبع، لن يتم الاكتفاء ببانتون 448 سي فحسب في تحقيق تلك المهمة العسيرة والشاقة، بل سيتم كذلك الاستعانة بالرسوم والصور المنفرة التقليدية للآثار الممينة للتدخين على المدخن. هذا زوجي مدمر لا يمكن الوقوف بوجهه في رأيي!
في الدفاع عن بانتون 448 سي!
لكن هل بانتون 448 سي هو الأقبح بين الألوان حقًا؟ بل هل هناك ما يجب أن نطلق عليه لقب “قبيح” بين الألوان حتى؟ للمصممين والفنانين رأي آخر هنا. فوفقًا للكثيرين منهم الذين رفضوا هذا اللقب، فالألوان جميعها متساوية ولا يجب أن يكون هناك “لون قبيح” فضلًا عن أن يوصف بـ “الأقبح”. هكذا، فبانتون 448 سي ليس إلا لون “عميق، غني وأرضي Earthy” سنجد درجات قريبة إن لم تكن مطابقة له في منازلنا كفرش للأرائك، أو بعض قطع الملابس والأحذية!
كذلك، ومع جولة بسيطة في تاريخ الفنون والرسم، سنجد أمثلة لا حصر لها لقطع وتحف فنية شهيرة تستعين بدرجة بانتون 448 سي تمامًا والدرجات الأخرى القريبة لها ولا تزال جميلة ومبهرة تسر الناظرين! وكبداية ستصطدم مباشرة بلوحة ليوناردو دافنشي الأشهر .. الساحرة موناليزا Mona Lisa! هل تجرؤ على وصف ألوان موناليزا بأنها “منفرة” أو “زفت”؟!


وفي لوحة “أشجار الزيتون المقابلة لمنحدر التلة Olive Trees Against a Slope of a Hil” لدافنشي، نجد بانتون 448 سي حاضرًا كذلك بشكل صريح. ربما كان هذا هو السبب وراء التسمية الأولية التي رفضتها جمعية الزيتون الأسترالية كما أشرنا من قبل، على الرغم من أنها تناسب اللون تمامًا. فقط اقتران اللون بمنتجات التبغ ولقبه الذي فاز به هو ما جعل الكل يتنصل منه.

أين الخطأ إذن هنا؟ الخطأ بالسياق بالطبع! فما يجب علينا تذكره هنا ودائمًا هو أن الأمر با يتعلق باللون فقط، بل في السياق الذي يتم استخدام هذا اللون به. فكما رأينا، كان بانتون 448 سي مفضلًا لدى أحد أشهر الفنانين على مر العصور للدرجة التي دفعته لاستخدامه في أجمل لوحاته على الإطلاق. ثم تمر القرون ويتم استخدام اللون نفسه لكن في سياق مختلف تمامًا وباقترانه بأحد أبغض المنتجات وأكثرها إثارة للنفور في نفوسنا وهي السجائر! هكذا لا غرابة أن تنقلب الآية ويصير بانتون 448 سي هو لون القبح نفسه!
وبالطبع، فهذا التأثير المصطنع لا يحقق التأثير نفسه تمامًا على الجميع؛ فالألوان لا تعمل هكذا في الواقع. فقط الهدف هنا هو توجيه الأغلبية للشعور هكذا والنظر بشكل سلبي للمنتج الذي يحمل هذا اللون. ويبدو أن مبتدعي هذا الأمر قد نجحوا في هذا مع ردود أفعال المدخنين الذين وصفوا اللون بأنه لا بأس به بشكل عام، لكن مع التفكير بالسجائر في الوقت نفسه فإنهم يستشعرون مذاقًا سيئًا في فمهم! مذاقًا أقرب لـ “الزفت” و”القار”!
هكذا، وعلى الرغم من السمعة السيئة التي يتمتع بها بانتون 448 سي حاليًا، إلا أنه مع الوقت قد يكتسب سمعة أفضل وأنصع بكثير باعتباره اللون الذي أنقذ حياة الملايين بدفعهم للإقلاع عن التدخين أو طرد فكرة التدخين لدى الراغبين في تجربته للمرة الأولى. من يدري؟!

مراجع: 1 2 3 4 5
المصدر : http://feedproxy.google.com/~r/ibda3...3/41Fv1eiJg5Y/