أوديب مغترب..
الزنزانة البيضاء تئنُّ مُجدداً بصداها وهي تمشط شعري بأصابعها :_
دللول يالولد يا ابني،
دللول
عدوّك عليل وساكن الچول
الملامحُ بيضاء كابيضاضِ عينيها! لا شيء يسحقُ صمتَ المشهد سوى صراخُ الشخص المجاور، الذي زجّوه حديثاً في الزنزانةِ ذاتها وهو مكبّلٌ بمئزرهِ الابيض، وكلما صَمَمتُ أُذنَيّ بأصابعي هرباً من صوتِه، ارتفعَ صوتُها، كلّما هجعتُ في تلك الزاوية تحولتْ أصواتُها الكثيرة داخلَ رأسي الى صَيحات.. المحتالةُ لا تدَعُني أنامَ كي لا أتركَها وحيدة.
ستعودُ حالما يتركني هذا الصراعُ : قالت. الصراعُ الدائر حولَ حقيقةِ من تكون بالنسبةِ لي، وعليّ وحدي أن اكتشفَ ذلك!
في الحقيقةِ أجهلُ معنى أنّها قد ماتتْ منذ كنتُ في السادسة، بعد أنْ عادَ أبي من الحربِ في تابوت؛ فأنا لا أذكرُ إلّا العلمَ الذي كُنّا نُحييه في صباحات الخميس المَدرَسيّة، وهو يغلفُ صندوقاً مستطيلاً ذلك اليوم؛ ذاكرتي الحافلةُ بالثقوبِ التي خلفتها صواريخُ الحروب تقودُني الى متاهةٍ عمياء، نفقٌ متشعِبٌ يمتدّ بامتداد عمري.
في العام الثالث على التوالي من يقظتي، لفظتني المتاهةُ حينما عثرتُ على حبلٍ سُريٍ يعيدني إلى رحمِها مرةً أخرى. دونما يدري أحد ربطتُه حول عنقي وحلمتُ بأنّي أحلقُ بجانبها، رأيتُكِ لأوّلِ مرةٍ سعيدةً لأجلي؛ لأوّل مرةٍ علمتُ بأنّكما إثنتانِ، وأنّ حدودَ بلدينا التي وهبتنا ملامحَ الحرب والفقد، لم تستطع أن تُحدِدُ السمات التي تخصُّ وجهيكما حتّى هذه اللحظه!
..