الباجه جي: شطب السعيد اسمي من قائمة الدبلوماسيين في الاتحاد الهاشمي وحدثت الثورة بعد يوم
معد فياض
كان العراق على موعد مع ما سوف يحدث، وما سيحدث كان كثيرا وشاملا ومغيرا لكل شيء، فالأرض كانت تسخن بسرعة، وكان دخان الغليان الشعبي يتصاعد في كل مكان وعلى مرأى من الجميع، إلا البلاط الملكي الذي كان يمثله الأمير عبد الإله الذي حجب الملك الشاب فيصل الثاني عن الأحداث، وحوله إلى مجرد شخص يضع تواقيعه على الإرادات الملكية ويقوم بالنشاطات البروتوكولية، وكذلك رئيس الوزراء نوري باشا (السعيد) الذي أبلغه أكثر من مقرب بأن هناك في الأفق ما لا يطمئن، فكان يردد جملته المشهورة التي ذهبت مثلا بين العراقيين «دار السيد مأمونة»، والسيد هنا هو الملك المنحدر من أصول هاشمية.
وبينما كان الأمير عبد الإله منشغلا بتحقيق حلم بعيد المنال باسترجاع عرش سورية الذي اغتصبه الفرنسيون من الملك فيصل الأول، باعتباره هو الأحق بهذا العرش مع أنه قريب الملك فيصل الثاني من جهة الأم، وليس من جهة الأب، وهذا لا يعطيه الحق في وراثة العرش.
كانت قطع من القوات العراقية التي يقودها ضابط كبير برتبة عميد (زعيم) هو عبد الكريم قاسم، ومساعده عبد السلام عارف، تطبخ في مقراتها قرب ديالى وبهدوء، لكن ليس بسرية تامة خطة الإطاحة بالنظام الملكي وإحلال نظام جمهوري بقيادة عسكرية.
رافق ذلك مشاعر من الحنق الشعبي ضد الوصي على العرش لإصراره على إعدام الضباط الأربعة، وعدم احترامه للدستور وتدخله الدائم في شؤون الحكومة.
خلال هذا الغليان كان عدنان الباجه جي لا يزال في واشنطن، بعيدا عن أرض واقع العراق وفي معترك العمل الخارجي للدولة العراقية ليؤسس لهذه الدولة مكانتها المرموقة بين دول العالم في الأمم المتحدة.
يكشف الباجه جي، قائلا: «خلال سنة عملي الأخيرة في واشنطن وقعت حادثة استثنائية، إذ دعيت على حين غرة لإلقاء الكلمة الرئيسية في الحفل الذي أقامه نادي الصحافة القومي على شرف الأمير عبد الإله، الوصي على العرش، الذي جاء إلى واشنطن في أوائل فبراير (شباط) 1957 على رأس وفد ضم 3 من رؤساء وزراء العراق السابقين للتباحث مع الرئيس الأميركي آيزنهاور حول الوضع في الشرق الأوسط في أعقاب حرب السويس»، هنا يحدث ما لم يكن في حسبان الباجه جي، الدبلوماسي الشاب، إذ «طلب مني السفير موسى الشابندر أن أكتب الخطاب الذي كان سيلقيه الأمير عبد الإله في حفل نادي الصحافة المقام احتفاء به، إذ إن إلقاء مثل هذه الكلمات أو الخطب هو امتياز حصري للملوك ورؤساء الدول أو الحكومات»، ويباشر الباجه جي بالفعل صياغة خطاب عربي قومي يعبر ليس عما في داخله من مشاعر قومية فحسب، بل ما كان يختلج في نفوس العراقيين والعرب من غضب نتيجة العدوان الثلاثي على مصر، حتى إنه يعترف بأن الخطاب «كان قويا في طابعه القومي بنبرته ومحتواه معا، وتضمن نقدا شديدا للهجوم البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي على مصر» ولم يكن الباجه جي يقصد إحراج الوصي المرتبط ببريطانيا أصلا، بل إنه عبر عن أفكاره، وعما يجب أن يكون الخطاب في مثل هذه المناسبة، وعندما قرأ عبد الإله الخطاب «أحجم شخصيا عن إلقائه وطلب من السفير العراقي أن يلقيه عوضا عنه، وهذا الآخر اعتذر وتحجج بنسيان نظارته الطبية تخلصا من الإحراج الذي سيوقعه فيه الخطاب، وانتهى الأمر بأن قرأت الخطاب بنفسي» وهذا ما أسعد الدبلوماسي الشاب، فهذه مناسبة قيمة أن يظهر في مثل هذا المحفل وفي قضية عربية بحتة «لكن هذه الحادثة ستترك أثرها في نفس الوصي الذي عرف بحقده وعدم تسامحه، وسوف يدفع الباجه جي ثمنها قريبا، وثمن رسالة كنت قد كتبتها إلى محرر جريدة نيويورك تايمز في أبريل (نيسان) 1957 دافعت فيها عن مصر، وربما كانت تلك الحادثتان السبب وراء العداء الذي واجهته عند عودتي إلى بغداد في أواخر ذلك العام»، مثلما يوضح.
الحدث الاستثنائي الآخر الذي يتذكره الباجه جي بكثير من الاعتزاز والحبور، كان في «بداية ديسمبر (كانون الأول) 1957، إذ اخترت عضوا في الوفد الذي رافق ملك العراق المحبوب فيصل الثاني في زيارته الرسمية إلى المملكة العربية السعودية. ومع أنني لم أكن أعرف الملك جيدا إلا أنني كنت أشعر بمودة عميقة نحو ذلك العاهل السعودي».
وينظر الباجه جي إلى عام 1958 باعتباره «مهما في تاريخ العراق والمنطقة، ففي فبراير من ذلك العام أعلنت الوحدة بين مصر وسورية، وصارت الجمهورية العربية المتحدة، كنت متحمسا للغاية فأنا مع أي مشروع قومي وحدوي، بينما كان البلاط ضد هذا المشروع، فالأمير عبد الإله كان يحلم بأن يكون ملكا على سورية، باعتبار أن ملكها كان هاشميا، الملك فيصل الأول. وهذا ما سبب خلافا بين الوصي ووزارة علي جودت الثانية سنة 1949 حيث كان والدي نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية. أعقب ذلك خطوات الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن، وأنا باركت الوحدة بين مصر وسورية، وبين العراق والأردن، أي جهد وحدوي أنا معه».
المفارقة الغريبة هي أن الباجه جي الذي كان متحمسا للاتحاد الهاشمي بين بغداد وعمان باعتباره خطوة على طريق الوحدة العربية، كان من أول ضحاياه، يوضح «صار الاتفاق أن تكون وزارة خارجية واحدة في الاتحاد الهاشمي، لهذا ألغيت وزارتا الخارجية العراقية والأردنية، وصار العمل على توحيد الخدمة الخارجية، وتم تشكيل لجنة تذهب إلى عمان لبحث توحيد إدارة وزارتي الخارجية. اللجنة كانت برئاسة وكيل وزارة الخارجية العراقية يوسف الكيلاني وأنا كنت عضوا فيها، وكانت مناسبة لي لزيارة القدس كونها تحت الإدارة الأردنية. وهذه زيارتي الثانية للقدس، فقد ذهبت إليها في المرة الأولى عام 1942، خلال الحرب، من بيروت عندما كنت في الجامعة الأميركية بمناسبة أعياد ميلاد السيد المسيح - عليه السلام - مع صديق فلسطيني اسمه حازم نسيبة، صار فيما بعد وزير خارجية الأردن، ومن هناك زرت تل أبيب وحيفا، وكانت آخر فرصة لي لزيارة هذه المناطق. وفي المرة الثانية والأخيرة 1958 شاهدت الأسلاك الشائكة التي تفصل بين العرب واليهود في القدس». ويستطرد: «في عمان تفاوضنا مع سمير الرفاعي، كان رئيسا لوزراء الأردن، وأصر الأردنيون على أن تكون الوظائف في وزارة الخارجية الاتحادية مناصفة، فقلنا ما يصير، العراق أكبر من الأردن وله تمثيل دبلوماسي قبلكم وأوسع، ثم إن عدد سكان العراق أكثر، لهذا ذهبت إلى نوري باشا (السعيد) وكان بإمكاني زيارته في أي وقت كونه يعرفني منذ طفولتي، فقلت له: باشا، الأردنيون يريدون أكثر من حجمهم، فقال ميخالف (لا مانع) المهم عندنا أن يصير الاتحاد ويتقوى وهذا ما نريده وبعد ذلك نعالج هذه الأمور، وطلب منا أن نتساهل في هذه الأمور».
في هذه الأثناء طلب السعيد من بريطانيا أن تدخل الكويت في الاتحاد الهاشمي، حيث كانت الكويت إمارة تحت الحماية البريطانية «لهذا طلب مني يوسف الكيلاني كتابة مذكرة عن أهمية دخول الكويت للاتحاد والعلاقات التي تربط بين العراق والكويت، ، وكتبت المذكرة استنادا إلى مصادر ووثائق تاريخية كثيرة، وهذا ساعدني فيما بعد عندما طرحنا قضية الكويت في الأمم المتحدة بعد 3 سنوات من ذلك في عهد عبد الكريم قاسم باعتماد حقائق تاريخية. لكن البريطانيين رفضوا دخول الكويت في الاتحاد، حيث بدأ النفط في الظهور والشركات البريطانية كانت تعمل وتنقب هناك، وخشوا أن يفقدوا كل هذا بدخول الكويت للاتحاد الهاشمي، وقالوا إن أمير الكويت لا يوافق على الانضمام، فاختلف السعيد مع الإنجليز وكانت بينهما معركة حول هذا الموضوع، وهناك من يرى أن البريطانيين، وبسبب هذه المعركة وموقف السعيد تغاضوا عن حمايته من ثورة 14 يونيو (حزيران) 1958، إذ كانوا يعرفون أن هذه الثورة ستقع ولم يحركوا ساكنا».
كان الباجه جي يعمل بإخلاص، وفي رحلات مكوكية ما بين بغداد وعمان لإنجاز ملف توحيد إدارتي الخارجية والخدمة الدبلوماسية، كان يعمل بحرص وحيادية وكفاءة مشهود بها باعتباره موظفا أو دبلوماسيا بارزا في الخارجية العراقية، يقول: «يوم 13 يونيو 1958 حيث كنت منشغلا في العمل ضمن فريق الخارجية لتوحيد العمل، بعث في طلبي يوسف الكيلاني، وكيل الخارجية، كانت بناية وزارة الخارجية عبارة عن بناية قديمة في منطقة الباب المعظم بجانب الرصافة من بغداد، ولاحظت بوضوح علامات غير سارة ترتسم على وجهه، فبادرني بالقول: (عندي خبر مزعج لك) قلت: خيرا إن شاء الله، أجاب: (كان اسمك في مقدمة الموظفين العاملين في وزارة الخارجية الاتحادية لكن هناك في البلاط الملكي من حذفه)، كان استغرابي بحجم صدمة قوية بالنسبة لي، أنا وبعد كل النجاحات التي حققتها للعراق في الأمم المتحدة ووزارة الخارجية وجهودي في توحيد الوزارتين تتم مكافأتي بهذه الطريقة، سألته عن السبب، فأجاب بأن (هناك من يعتقد أنك لا تؤيد سياسة الحكومة وتؤيد اتجاه جمال عبد الناصر، لهذا لا يريدونك أن تعمل في الخارجية الاتحادية)، هنا أدركت أنني أدفع ثمن الخطاب الذي كتبته للوصي، والذي ألقيته نيابة عنه في نادي الصحافة القومي في واشنطن، والرسالة التي وجهتها إلى محرر الـ(نيويورك تايمز)».
لكن الأقدار كانت تخبئ ما هو أعظم وأكبر من هذا الحدث، الذي جرى في أقل من 24 ساعة على تغيير كل شيء في العراق، ففي اليوم الثاني سوف ينقلب كل شيء على عقبه، يكمل الباجه جي: «كان وقع هذا الخبر صادما ومزعجا بالنسبة لي، فأنا أمضيت كل سنوات عملي في السلك الدبلوماسي، وأنجزت الكثير للخارجية، وعملت على توحيد الوزارة، وكلفوني كثيرا بكتابة المذكرات والمشاركة في الوفود، فذهبت مباشرة إلى بيت توفيق السويدي، كان وزيرا لخارجية الاتحاد، وبيته في حي الشواكة بجانب الكرخ (صار فيما بعد شارع حيفا بعد أن تم هدم غالبية الأحياء القديمة وقد تم الإبقاء على بيت السويدي)، قلت للحارس: أريد مقابلة الباشا، فدخلت وقابلته، وفورا سألته عن هذا الإجراء الغريب، فقال: (هذا الإجراء تم من قبل عبد الإله ونوري السعيد، هما من اعترضا على وجودك في الخارجية الاتحادية، ثم إن لهما سياسة واضحة ولا يعتقدان أنك ستنفذ هذه السياسة، ولا يُعتمد عليك في تنفيذ هذه السياسة، لأننا نعرف أن لك توجهات أخرى تختلف عن سياستنا)، قلت له: أنا موظف في الدولة العراقية، وطوال سنوات خدمتي قدمت كل جهدي وإخلاصي للدولة، وحسب اعترافكم، فقال: (نعم نحن نعرف هذا، وأي وظيفة تريدها سوف نضعك بها)، قلت: لا أريد أي وظيفة ولن أعمل في الدولة، وتركته عائدا إلى بيتي، ولم أذهب إلى نوري السعيد، كما أن والدي ووالد زوجتي علي جودت الأيوبي كانا في أوروبا يقضيان إجازة الصيف. عدت إلى البيت وأخبرت زوجتي بما حصل، وقلت لها: أنا لن أعمل ثانية في الحكومة وسأعمل في الأمم المتحدة، كنت معروفا هناك من خلال سنوات خدمتي في الخارجية العراقية».
عندما عاد الباجه جي وعائلته من أميركا كان في انتظارهما بيت يُبنى في منطقة كرادة مريم، في جانب الكرخ من بغداد، التي تضم اليوم القصر الجمهوري والسفارة الأميركية والمنطقة الدولية المحمية (المنطقة الخضراء)، وكانت منطقة بساتين ومزارع وقتذاك، ولا توجد بها طرق معبدة، يقول: «لم يكن البيت قد تم إنجازه، لهذا سكنا في بداية الأمر في بيت والدي ثم انتقلنا عام 1958 إلى بيتنا الجديد، وأتذكر ذات يوم كسر اللصوص أبواب البيت وسرقوا كل شيء، إذ لم تكن هناك أي شرطة أو حراس يحمون المنطقة، وبعد هذا الحادث وضع مدير شرطة بغداد شرطيين لحمايتنا».
للعراقيين مع ليالي الصيف علاقة حميمة تتخللها عادات وتقاليد لا تزال سائدة، ومن أشهر عاداتهم الصيفية، هي النوم فوق سطوح منازلهم للتمتع بالنسيم البارد القادم من نهر دجلة والبساتين التي كانت كثيرة ببغداد، وهذه العادة لا علاقة لها بتوفر أو عدم توفر أجهزة التكييف، وعائلة الباجه جي التي كان بيتها قريبا من نهر دجلة لا يختلفون عن غيرهم في موضوع النوم في ليالي الصيف فوق سطح البيت، وهذا ما يؤكده هو، يقول: «كعادة العراقيين خلال الصيف، في الليل كنا نائمين فوق سطح البيت، فأيقظونا فجرا على أصوات إطلاق رصاص، لم نعرف مصدره أو سببه، قلت لزوجتي: هذه ليست تدريبات عسكرية، تركنا السطح إلى الطابق الأرضي واتصلت هاتفيا بوالدتي، حيث كان بيت والدي في منطقة الكرادة، أرخيتة، وسألتها إن كانت قد سمعت إطلاق الرصاص، فأجابت بنعم، وأكدت أنها لا تعرف أي شيء، لكنها عادت واتصلت بي بعد خمس دقائق، وقالت: (افتح الراديو واسمع)، سارعت إلى الراديو وسمعت صوت عبد السلام عارف وهو يقرأ البيان الأول للثورة».
كان البيان صادما ومفاجئا، ذلك أن العراقيين لم يكونوا قد تعودوا بعد على الثورات والانقلابات العسكرية، حتى إن ما قام به رشيد عالي الكيلاني في مايو (أيار) 1941 لم يرق إلى انقلاب، بل كان مجرد حركة ثورية، وثورة أو انقلاب 14 يونيو 1958 التي أذاع بيانها الأول العقيد عبد السلام عارف، ويدعي العميد عبد الكريم قاسم أنه قاد فتحا تاريخا من الانقلابات العسكرية في حياة العراقيين، وكلما شعر أي ضابط عسكري بأن بإمكانه تغيير نظام الحكم، قاد عسكره وصعد دبابته وتوجه نحو القصر الجمهوري أو وزارة الدفاع لتغيير نظام الحكم، بل الأهم من القصر الجمهوري كانت بناية دار الإذاعة العراقية لإذاعة البيان رقم واحد، وهذا وحده كان كافيا لتغيير نظام الحكم، وانقلاب يونيو هو الذي قاد فيما بعد البعثيين إلى السيطرة على الحكم من خلال انقلاب عسكري أيضا.
لم يعرف الباجه جي ما يفعله وقتذاك، فهو وعائلته أمام حالة جدية لم يتمرنوا عليها سابقا ولم يضعوها في حساباتهم، يوضح: «كان بيتنا في كرادة مريم وسط البساتين في منطقة شبه منعزلة، والشرطة التي وضعوها لحمايتنا تركتنا وذهبت، وسيارتي البونتياك كانت لا تزال تحمل لوحة أرقام أميركية، قلت: إذا خرجنا بها الآن سوف يهجم علينا الناس ظنا منهم بأننا أميركان أو إنجليز، لهذا طلبت من والدتي أن تبعث لنا سيارة والدي مع السائق علي الذي لازم والدي طويلا وهو رجل طيب، وقد قمت بتعيين 3 من أبنائه في حمايتي عندما عدت إلى بغداد بعد 2003».
ويشرح الباجه جي بالتفصيل حالة الهياج التي بلغها الناس يومذاك «وصل السائق وقال: (الدنيا مقلوبة ببغداد) والناس هائجة، قلت له: أدري، لكننا يجب أن نترك هذا البيت، فصعدنا بسيارة والدي الـ(بيوك)، أنا وزوجتي وبناتي الثلاث ومربيتهم وعبرنا جسر الملكة عالية الذي صار اسمه فيما بعد جسر الجمهورية، كان الناس في جانب الرصافة، منطقة الباب الشرقي، حيث مركز بغداد، يملأون الشوارع، وعيونهم تتفحصنا بينما السيارة تسير بصعوبة بسبب الازدحام حتى إن وصولنا استغرق أكثر من ساعة إلى بيت والدي في حين أن هذه المسافة لا تستغرق سوى 10 دقائق في الظروف الاعتيادية، وبعيد وصولنا إلى بيت والدي تم الإعلان عن حظر التجوال، ثم تم الإبلاغ عبر الإذاعة موظفي الدولة بالدوام في دوائرهم، فذهبت في اليوم التالي إلى وزارة الخارجية، كان هناك وزير جديد اسمه عبد الجبار جومرد، وهو من الموصل وكان يعرف والدي كونه في المعارضة ويعرفني أنا أيضا. ولجومرد قصة، فعندما تسلم البعثيون السلطة عام 1963 قالوا له سوف نعينك سفيرا فاختر أي بلد تريد، فقال: لا أريد أن أكون قائدا للفرقة الأولى، فاستغربوا وقالوا له، أنت لست بضابط حتى تكون قائد فرقة، فأجاب، لماذا تعينون الضباط سفراء والسفراء لا يحق لهم أن يكونوا ضباطا».
وحسب اعتقاد الباجه جي أن طلب النظام الجديد من الموظفين الالتحاق بدوائرهم كان تصرفا حكيما لاستمرارية الحياة الطبيعية، فالدولة لا تزال قائمة رغم تغيير نظام الحكم، يقول: «طلبني الوزير فذهبت لمقابلته، قال: (نريد تشكيل لجنة للنظر في شؤون الموظفين، فهناك موظفون ليس لهم ولاء للجمهورية ومن العهد الملكي ويجب إخراجهم)، قلت له: إنهم ليسوا سوى موظفين، وولاؤهم للدولة سواء كانت ملكية أو جمهورية، ويجب أن يكون التعامل معهم حسب الكفاءة، فأجاب بأن (هناك ضغوطا تطالب بإخراجهم)، وهذه الضغوط كانت من قبل الشيوعيين. أما أنا فلم يعترضوا علي وكانوا يعرفون أن توجهاتي القومية كانت تتعارض مع توجهات البلاط والحكومة، لكن الشيوعيين لا يثقون بشخص من طبقتي».
لم تكن في العراق وزارة باسم الإعلام أو الثقافة بل كانت هناك وزارة الإرشاد «وكان وزيرها صديق شنشل الذي طلب مني القيام بقراءة التقارير الصحافية التي يبعثها المراسلون الأجانب لوكالاتهم وصحفهم، إذ قال لي: (هناك عدد من الصحافيين الأجانب في فندق بغداد، ونريدك أن تذهب إلى هناك لقراءة تقاريرهم قبل إرسالها، فنحن لا نعرف ماذا يكتب هؤلاء ويرسلون لصحفهم ووكالاتهم)، بالفعل كنت أذهب من الساعة التاسعة من كل ليلة إلى فنذق بغداد الذي لم يكن هناك فندق راقٍ سواه وقتذاك، وأقرأ تقارير المراسلين الأجانب التي كنت غالبا ما أمررها وأعود إلى البيت عند الثانية صباحا، إذ كان حظر التجوال ليلا ساريا، لكن الحكومة زودتني بعدم تعرض، ووضعت عريفا من الجيش لمرافقتي، واستمر هذا الوضع شهرا كاملا».
الباجه جي، وعلى الرغم من التصرف السلبي الذي بدا من قبل نوري السعيد، والمعاملة التي اعتبرها قاسية تجاهه بحذف اسمه من سجل موظفي الخارجية الاتحادية، فإنه يتحدث بحيادية، يقول: «نوري السعيد والوصي عبد الإله والحكومات التي تعاقبت على حكم العراق كانت وطنية، لكن كانت هناك اجتهادات سياسية خاطئة، يعني تدخل الأمير عبد الإله في شؤون الوزارة، وهذا ليس من شأنه، وإصراره على إعدام الضباط الأربعة، وعدم السماح للملك فيصل الثاني الذي كان قد توج عام 1953 بممارسة دوره سوى توقيع الإرادات الملكية، فقد كان الوصي يستخدم صلاحيات الملك بتعيين أعضاء مجلس الأعيان وصلاحية إقالة الحكومة، وتعيين كبار الموظفين وحل مجلس النواب وهذا كان يتم بإرادة ملكية. حتى إن خلافه مع رشيد عالي الكيلاني الذي كان رئيسا للحكومة كان بسبب عدم توقيعه على إرادات ملكية ومراسيم ولهذا توقف عمل الحكومة والدولة».
ويستغرب الباجه جي من عدم أخذ حكومة السعيد أي احتياطات ضد احتمال قيام مثل هذا الانقلاب، على الرغم من أن «الناس كلهم كانوا يتحدثون في الشوارع والمقاهي عن قرب وقوع انقلاب، حتى إن مدير مزرعة علي جودت الأيوبي في جلولاء، ديالى، والقريبة من الوحدة العسكرية التي كان فيها عبد الكريم قاسم، أبلغ الأيوبي بأن هناك تحركات مريبة، وأنه سمع كلاما من ضباط عن قرب وقوع انقلاب، وقد أوصل الأيوبي هذه المعلومات إلى عبد الإله، الذي أبلغها بدوره إلى نوري السعيد الذي قال جملته المشهورة: (دار السيد مأمونة) وأن (لا خوف على الدولة من الجيش فنحن نثق به). لكنني على يقين بأن الاستخبارات البريطانية، وهي عريقة، كانت قوية وفاعلة في العراق، وكانت تعرف بقرب حدوث شيء من هذا القبيل. وليس من المعقول أنهم لم يعرفوا شيئا عن الثورة لا سيما أنها (الثورة) لم تكن على درجة عالية من السرية، ويبقى السؤال المهم هو: لماذا لم يبلغ البريطانيون الحكومة أو البلاط بهذه التحركات، لا ندري، فهم قالوا: نحن فوجئنا بما حدث».
وحسب اعتقاد الباجه جي، فإن الثورة «لم تحدث بسبب الأوضاع الاقتصادية، بل كان هناك استياء من سياسة الحكومة تجاه العرب والشعور العربي، وخاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر، إذ لم يكن من المعقول أن يبقى العراق مرتبطا بحلف مع بريطانيا، وهي التي شاركت في هذا العدوان».
(«الشرق الأوسط»)
انتظرونا في الحلقة الثـــــامنة مع كل الود