انها لاتُطاق , تلك التي يسمونها حياةً هنا. فكأن العُمر قد تحولت ايامه الى قطراتٍ تسقطٌ على الرأس بما يشبه فناً من فنون التعذيب الصينيةِ القديمة.
تقطعت السُبل نحو الامل ومنها في يومٍ ما تقطَّعت الطُرق بعد تكبيرةٍ خرجت من فمٍ احمق محقونٍ بجرعة من الكراهية المركزة على هذا الانسان, بناءُ الله كما يسمونه! فنتج عنها زُحام خانق واكتظاظ للسيارات والناس تسير في طريقها مبتعدة عن المكان.
وفي هذا اليوم الذي فشلت فيه قدرتي على التحمل , قررت ان اكمل طريقي مشيا كالبقيَّة ومن على بُعد لمحت ذلك العجوز الاعمى , الذي كنت كلما اعود من مغامرة الحياة اليومية في سيارات النقل العمومي اراهُ يخطو متعثراً متلمسا طريقه بعصاه وعيناه تغيب خلف نظارات معتمة سوداء بلون ايامناهذه.
سُرعان ما غاب في طريقٍ فرعية واختفى داخلها , عندها تملَّكني الفضول لأتبعه فهو دائما يمر على شريط حياتي بصورة عابرة لكنها تترك اثرا لا يُمحى وتُثار الاسئلة في داخلي عندما اراه, لماذا يخرج من منزله ذلك الاعمى , الى اين يذهب ؟
وصل بي الطريق الى جُنينةٍ مُلئت بالاشجار والزهور وتحيطها ابنيةً قديمة ذات اشكال واقواس قديمة , كأنما انسلخت من واقعي الذي اعيشه وانتقلت الى عالم بعيد اخر ذلك لأنني رأيت منظرا لم أعتد ان اراه سوى في الافلام الاجنبية او انه في كل الاحوال يعتبر غريبا عن عالمنا هذا!
كان الرجل الاعمى يجلس على مصطبة خشبية بينما تجمعت الحمائم والعصافير الواقفة من حوله وعلى ساقيه وكتفه ورأسه تشعر بالاطمئنان ,يطعمها الفتات من كيس في يده وكان منتشياً سعيداً بما يفعل مطلقا بعض الضحكات تعبيرا عن "السعادة" التي يعيشها.
كم احسست بالغربة في تلك اللحظات , ان تقف امام المعنى الحقيقي للتمتع بطعم الحياة التي نسيتها والذي جعلني أبصر ماالحياة فعلاً رجل انطفأ نور عينيه لكن نور قلبه صار منارة ترشده الى السعادة!
في النهاية لم استطع ان استوعب لحظتي تلك وانا انسحب دون ان أُشعر الاعمى بوجودي ولا اعلم لما فعلت ذلك , كي أترك الأعمى في اجوائه البهيجة أم خوفاً من مواجهة تلك البهجة والحياة التي تنبض في هذا المكان , حياة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.