جهد هارون العباسي على ظلم الإمام موسى بن جعفر الكاظم وأمعن في التنكيل به فلم يكن منه إلا ان يزداد قلقا وارقا لوجوده، فأودعه السجن في الرابع من شهر ذي الحجة الحرام سنة (179 هـ) لغرض إبعاده عن شيعته ومواليه.
قضى الامام موسى بن جعفر الكاظم " سلام الله عليه " عشرين عاما من عمره الشريف متنقلا بين سجن وآخر بأمر من الطاغية هارون ، بدءاً من سجن البصرة وصولاً لمحطته الاخيرة في سجن السندي ببغداد، وكان عليه السلام راضياً صابراً، شاكراُ لله تعالى بما قسمه له بما استجاب من دعوته بأن تركه للعبادة متفرغا ليزداد بذلك رفعة وسموا ويزداد اتباعه تمسكا بمذهبهم وائمتهم " عليهم السلام "، فما كان من الرشيد إلا ان يتخلص من مخاوفه التي لطالما ارعبته، فقرر قتل إمامنا (عليه السلام) وأمر بدس السم في طعامه لتفيض روحه الطاهرة في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة 183 هـ .
اللوحة اعلاه تقدم عملاً فنياً عقائدياً جَسدَ فاجعة جسر بغداد حينما ألقى جلاوزة الطاغية بجنازة الأمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) على جسر بغداد في الوقت الذي كان شيعته ينتظرون خروجه حياً كما وُعدوا.
المنجز الفني من إبداعات الأنامل الولائية للفنان العراقي الشاب (سيف البصرة) وهو رسام مميز بأسلوبه الواقعي في طرح موضوعاته الفنية التي نستشعر من خلالها مدى حبه وشغفه لأهل بيت النبوة الأطهار (عليهم السلام) وتتبع وقائع مظلوميتهم ونقلها بصدق الى المتلقين، معتمدا على الخيال في رسم تلك الوقائع بعيدا عن الغلو والتطرف.
سيف البصرة من مواليد مدينة البصرة العراقية عام ١٩٨٦، مارس فن الرسم منذ صغره وتابع ذلك حتى حصوله على الدبلوم في الفن ومن ثم شهادة البكالوريوس في الفنون الجميلة، وله العديد من المشاركات في المحافل الفنية المحلية والدولية وبالخصوص المعارض الحسينية الولائية التي حاز من خلالها على العديد من الجوائز لتميز اعماله ببصمة روحية حسينية مؤثرة.
نُفذت اللوحة بتقنية الزيت على قماش الكانفاس باحتراف ووضوح عاليين بأسلوب يقترب من الكلاسيكية في الرسم كما كان سائدا بين الكثير الفنانين في الماضي، وكأن الفنان يحاول تطبيق احدى القواعد الوضعية للفن بأن " الاعمال الكلاسيكية هي التي تبقى خالدة "، حيث برزت فيها العديد من المتناقضات في الشخصيات والاجواء ارتباطاتها التاريخية والروحانية المختلفة، فقد أنشأ الفنان مشهد يقترب من الواقعية الدقيقة، بأسلوب من المواجهة الكاملة لحدث اللوحة، والذي يبدو جلياً للمتأمل لها اعتماد الفنان على اظهار شخصيات العمل وفق ما ذكر في الروايات عن صدمة الموالين بمشاهدة جثة أمامهم المغدور وهي مسجاة داخل نعش ملقى على الجسر وهم بين صارخ ومنذهل، حيث ينفتح المكان من حولهم بمساحة افقية لجزء من مدينة بغداد يطل على احدى ضفاف نهر دجلة، ترتفع من وسطه مآذن المساجد والجوامع البغدادية بقبابها ومنائرها المرتفعة من بين جدران تلك الازقة والشوارع.
عمد الفنان على توزيع اللون والخط والفضاء على مساحة اللوحة بشكل يجعل المشاهد متأثراً بمدى عظم الحدث مما يجعله حافزاً للاستقصاء عن شخص الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لدى الغرب او الشرق ممن يجهلون من هو كاظم الغيظ (سلام الله عليه) وما حكاية هذا النعش وهؤلاء الناس في هذا المكان، ليترك إيحاءً لدى المتلقي عن مدى هول تلك المصيبة.
.
شغل الفنان اغلب فضاءات اللوحة بالالوان وامتد برسمته وفق اقترابات من أسس البعد الثالث ليعطي عمقا منظوريا بارزا للرسمة فقد شكل الالوان بتناغم خاص تتراوح مابين البني الغامق والأصفر وتدرجاتهما فضلا عن الازق والاخضر فقد شكلت الألوان الغامقة بنية مهيمنة على أجواء العمل الفني حيث إتجهت صوب نقطة التلاقي (النعش المقدس) لتشكل تكوينا عاما تتركز فيه الأشكال بواقعية مؤثرة ذات ايحاء ديني وروحي، مما يعكس ذكاء الفنان بنقل صورة المقدس الى الاخر فالالوان الغامقة المستخدمة في بناء اللوحة وطريقة اسقاطها عليها تعمق قوة التعبير الفني من خلال تناوله لهذه الموضوعة الإنسانية التي تعج بالأسى واللوعة و تعكس الاجواء الحزينة والمأساة التي تعم هذا المكان وتدفع المتلقي للتأمل بهذا المشهد متأثرا بواقعية نقله.
وُفِق الفنان في هذه اللوحة في إثارة الانفعالات الدينية للمشاهد من خلال استخدامه لغة العاطفة والوجدان فضلاً عن انتقائه موضوعة اللوحة للتعبير عن مضمون فكري وروحي مقدس يقترب من واقعية الحدث من خلال اتخاذه للفضاء المفتوح مسرحا وزع فيه شخصيات العمل ليحاكي واقعية الحدث وفق منظور روحي، فأنشأ مركزاً بصرياً ضخما وسط اللوحة جمع من خلاله مكان وزمان الحادثة محققاً بذلك النجاح في إحالة الصورة الذهنية التي نحملها في الذاكرة لفاجعة استشهاد الامام موسى الكاظم (عليه السلام) إلى بنية جمالية احتضنت رموز المداليل في الذهن الجمعي للموالين لتشكل تأريخاً بصرياً يوثق تلك الفجيعة.
" نسألُ الله تعالى أنْ يجعلنا وإيّاكمُ من السائرين على نهجه القويم وأن يرزقنا في الدنيا زيارتَه وفي الآخرة شفاعتَه بحق محمد واله الطيبين الطاهرين "