إلى أين يتجه الصراع في سورية والإقليم؛ التصعيد أم التسوية؟ ما هي خلفيات التطورات الميدانية الأخيرة: الغارة الصهيونية على تدمر، كيماوي خان شيخون، الغارة الصاروخية على مطار الشعيرات...؟ أي آثار تركتها على المشهد السوري والإقليمي، وتحديداً من الناحية العسكريّة وتوازن القوى؟.
* قلب العالم يتفلّت من أيدينا:
أسئلة لا بد وأنها تُشغل بال المتابعين للحرب على سورية، ومن يكتوون بنارها بشكل يومي... وهذه مقاربة لتلك الإجابات إنطلاقاً وقائع وعبارات مفتاحيّة يمكن لها أن تضيء بشكل واسع على جوهر الصراع وتداعياته.
كلنا يعرف أهميّة هذه الأرض في الإستراتيجيات الغربية؛ بل والإنسانية، حتى أصبحت "شخصيّة" هذه المنطقة موسومة إلى حدّ بعيد جداً، بتاريخ مقاومتها وانتصاراتها وانكساراتها... لموجات لا تتوقف من الغزاة والطامعين تحت عناوين براقة مخادعة. تزايدت أهميّة هذه المنطقة بعد الإكتشافات النفطيّة والغازيّة الهائلة، والتي تمثل عصب التطور الإنساني بكليته... وغدت السيطرة عليها أمراً حاسماً لكل إمبراطوريّة صاعدة، وإدامة "الإمساك" بها همّ لكل إمبراطوريّة قائمة. وبين إمبراطوريات قائمة، وأخرى صاعدة، ونزعات أبناء المنطقة للتحرر والتوحد... دارت حروب طاحنة ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر على مرّ التاريخ. حاضراً، برزت عدة مقولات تظهر طبيعة هذا الصراع التاريخي على المنطقة وفيها، وغالباً ما كانت تأتي تلك التصريحات من صوب واشنطن وحلفائها وأدواتها في المنطقة... وهذه مجموعة من أهمها:
1- لافروف: "مستقبل العالم يتوقف على الشكل الذي تنتهي عليه الأزمة السورية". أي أن العالم الجديد يتشكل جوهره، وموازين القوى فيه، وتعمق تحالفات وسقوط أخرى... إنطلاقاً من الحرب على سورية، واستناداً إلى نتائجها.
2- هيلاري كلنتون: "هناك ثلاثة أخطار تتهدد مستقبل "إسرائيل": الديموغرافيا، والتكنولوجيا، والايدولوجيا". بمعنى، خطر النمو السكاني الفلسطيني في فلسطين... وخطر الصواريخ، التي عطلت –أو في طريقها- أذرع "الجيش الذي لا يقهر"... وانتشار الفكر المقاوم لوجود الكيان الصهيوني وأمريكا وحلفائها.
3- السناتور جون ماكين:"إن المنطقة تتفّلت من أيدينا، وإن لم نلتزمها فإن مستقبل حلفائنا سيكون في خطر". أي أن حلفاء واشنطن وأدواتها في المشرق يعانون من مشاكل وجوديّة -التكنولوجيا، والايدولوجيا...- وعلى واشنطن التدخل مباشرة لمكافحة هذه المخاطر.
4- جون كيري:"كنا نراقب ظهور داعش وتمددها، وتركناها تنمو كي نجبر "الأسد" على التفاوض". حتماً، سيقف على رأس قائمة التفاوض الأمريكية تلك الورقة التي قدمها "كولن باول" للرئيس بشار حافظ الأسد عام 2003، والمتضمنة بنود منها: طرد حركات المقاومة من دمشق، فك التحالف الاستراتيجي مع إيران... إلى جانب شروط جديدة، مثل: إشراك حلفاء واشنطن في الحكم، تقزيم الجيش العربي السوري، خصخصة قطاعات التعليم والصحة والإتصالات... تسوية الصراع العربي-الصهيوني... .
* مستقبل الصراع:
31/9/2016، بدأت الطائرات الروسية بمهاجمة أدوات الغزو الإرهابي الصهيو-أمريكية، بعد أن تدخل الجيش التركي المباشر في إحتلال مدينة إدلب... لينتقل الصراع في المنطقة وسوريّة، من مستوى الحرب بأدوات أمنيّة، دبلوماسيّة، إقتصاديّة، إعلاميّة... لفرض وقائع سياسيّة على سورية والإقليم والعالم، إلى مستوى التدخل العسكريّ المباشر في الميدان السوري لفرض هذه الوقائع. أدى هذا التدخل المباشر إلى رفع حظوظ المواجهة المباشرة بين أطراف الصراع –حذّر كيسنجر وبريجنسكي وآخرون من هذا الاحتمال- سواء بقصد أو بدونه، وهذا ما كان سيحدث عند إسقاط طائرة السوخوي الروسيّة بأيد سلاح الجو التركي... لكن حسن تدبير روسيا وحلفائها، جعل من إسقاط هذه الطائرة وسيلة لتقييد التدخل التركي المباشر والمتنامي، وألزمها بقواعد إشتباك حدّت من حضورها بشكل كبير. وبالرغم من الإنتكاسات الموضعيّة هنا أو هناك، إلا أن الجيش العربي السوري وحلفائه، تمكنوا من إستغلال هذا "الإنكفاء" التركي لتأمين طريق حلب وتحرير تدمر... وصولاً إلى تحرير شرقي مدينة حلب، النقطة الفاصلة في الصراع.
فرض تحرير أحياء حلب الشرقيّة "تسليم" واشنطن بعدة أمور محوريّة بعد أن كان "كيري" يطالب برسم حدود تماس في المدينة، وتشكيل "إدارة مدنية" لتلك الأحياء، ومنها: الشراكة الروسية، عدم المساس بمقام الرئاسة السوريّة، سيطرة الدولة السوريّة على العاصمتين والمدن الرئيسية بكل ثقلها السكاني والإقتصادي والميداني... . لكنّ هزيمة مشروع واشنطن وحلفائها في السيطرة على سوريّة دون التوصل إلى تفاهم سياسي يُرسي "تسويّة" للقضايا الحساسة في الإقليم، يسمح للمنتصر بأن يفرض شروطه ورؤيته للمنطقة ومستقبلها، والتي لن تتماشى حتماً مع رؤية واشنطن ومخططاتها. لذلك، كان قصف مواقع الجيش العربي السوري في جبال "الثردة"، والتغطية على عودة داعش إلى تدمر... محاولة أوباما الأخيرة لخلط الأوراق وإعادة ترتيبها مجدداً بما يحفظ مصالح واشنطن ويحقق رؤيتها... لكنّ هزيمته في حلب، وفشله في قلب المشهد الميداني بدير الزور... حرم مرشحته ومرشحة حزبه هيلاري كلنتون من حلم الوصول إلى البيت الأبيض، وأوصل من وعد بمحاربة داعش بصدق، والتفاهم مع روسيا للقضاء على الإرهاب... دونالد ترامب.
بعد أن وصل ترامب للبيت الأبيض، إكتشف سريعاً بأن وعوده الإنتخابية لا تتطابق أبداً مع إستراتجيات الإمبراطوريّة الأمريكية ومصالحها، خصوصاً بعد إستهداف "عقله" السياسي المتمثل بمستشاره للأمن القومي "فلن"، الذي ربما كان سيساعده كثيراً في الموائمة بين وعوده الانتخابية وبينها... لكنّ إقصائه بفضيحة الاتصال بجهات أجنبية، ترك "ترامب" وحيداً وضعيفاً أمام مؤسسات راسخة وقويّة، تمتلك وسائلها وأدواتها "الخاصة" لضمان تلك المصالح، وتطبيق تلك الإستراتيجيات... ومن المؤسف أن تلك الأدوات والوسائل توزعت بين إرث المحافظين الجدد الذي يجعل من التدخل العسكري المباشر وسيلته المفضلة لفرض الوقائع السياسية، وإرث أوباما-كيري-بترايوس المعتمد على مقولة الحرب اللامتماثلة –داعش والقاعدة في الحالة السورية- لفرض هذه الوقائع... لذلك، نرى التراجع اللافت في الخطاب السياسي والفعل العسكري الأمريكي بوجه داعش؛ بل والتخادم معها في كثير من الحالات، و"العودة" لسياسات التفتيت العرقي والمذهبي، والى خطوط أوباما الحمراء إزاء إستخدام السلاح الكيميائي... من جهة، والتدخل العسكري المباشر في سورية بالإغارة على مطار الشعيرات من جهة أخرى.
تلخيصاً لطبيعة الصراع: رئيس بلا إستراتجيات، أُخضع لأدوات إمبراطوريّة -وإن ثبُت فشلها من لبنان إلى غزة فالعراق وصولاً إلى سوريّة- في إمبراطوريّة مهددة بالإنحسار، وإمكانات إقتصاديّة متدهورة، وقدرات عسكريّة متآكلة، وحلفاء يكابدون للحفاظ على وجودهم في منطقة بالغة الأهميّة ولا تحتمل الفراغ... وخصوم وأعداء، يُعدون العدة لإستعادة حقوقهم، وإقفال ملفات مزمنة، وملأ الفراغ... فتحرك الكيان الأكثر حساسية للتغيرات الكبرى في المنطقة، العدو الصهيوني، وبادر وحلفائه وأدواتهم، لوقف تقدم الجيش العربي السوري وحلفائه بالإغارة على تدمر، وتحريك جبهات كجوبر والريف الحموي... . مجدداً، حصدوا الفشل... ليتدخل الأمريكي بذاته لتدارك السقوط المحتم لمشروع غزو سورية والسيطرة عليها، البوابة الوحيدة للامساك بكامل المنطقة... ولمنع إنهيار أدوات الغزو الإرهابية وحواضنها الإقليمية... والتي ستفضي بالنهاية حتماً لإنهيار شامل للإمبراطورية الأمريكية.
* ضربة المضطر، وحصادنا الذهبي:
لماذا لم تستخدم واشنطن طائراتها الحربيّة المنتشرة في معظم دول المنطقة، وخصوصاً المحيطة بسورية، لقصف مطار الشعيرات كما فعلت سابقاً في الثردة؟ سأقدم إجابة من أربع مكونات فقط، لتُظهر عمق مأزق واشنطن وحلفائها وأدواتها:
1- عندما أغارت الطائرات الصهيونية مؤخراً على مطار تدمر، أعلنت سورية عن إسقاط طائرة وإصابة أخرى... ألا يشكل الإحجام الأمريكي عن إستخدام طائراته الحربيّة في إستهداف مطار الشعيرات، تأكيداً لما قالته سوريّة، ودليل إضافي على فعالية دفاعاتها الجويّة، وقدرتها على رصد واستهداف أحدث طائرات واشنطن وإسقاطها؟.
2- إستخدمت واشنطن الأجواء اللبنانية في إستهداف مطار الشعيرات لتفادي المنظومات الدفاعيّة الروسيّة المنتشرة على السواحل السوريّة من جهة، وللإفلات من شعاع نار الدفاع الساحلي السوري –ياخونت مثلاً- والبالغ 300كم ثانياً، ولمفاجأة الدفاعات الجويّة السوريّة بإستخدام "الثغرة" التي تسللت منها الطائرات الصهيونية إلى تدمر... ولكنّ النتيجة كانت: إسقاط 36 صاروخاً خلال الطريق للهدف، ليصل 23 واحداً منها إلى المطار، وهناك تمّ إسقاط معظمها. تقول بعض المصادر بأن 3 منها فقط أصابت هدفها بشكل مباشر، أحدها إستهدف مربض للدفاع الجوي في المطار أسقط الكثير من تلك الصواريخ!! من تفاجئ بقدرات الآخر؟ ومن رسم خطوط الردع؟.
3- إذا ما أُسقطت طائرة أمريكية أو أكثر فوق الأراضي السورية، وأُسر قائدها أو قادتها، هل تقدر واشنطن على شنّ عمليّة إنقاذ جويّة أو بريّة؟ يظهر لجوء واشنطن للصواريخ "الجوالة" عجزها الفعلي عن الردّ على الردّ وتداعياته.
4- واشنطن التي تتباهى بقدراتها التكنولوجيّة-التجسسيّة، لم تقدم حتى اللحظة صوراً أو مقاطع فيديو تظهر لحظة إستهداف المطار وآثار القصف... لماذا لم تفعل؟ أهناك ما تخفيه، وهل ستخفي واشنطن نجاحها؟... خصوصاً وأن البنتاغون أعلن بأن 58 صاروخاً قد أصابت أهدافها!!.
ختاماً، بعد إنكسار أدوات الغزو الإرهابيّة، وبدء إنحسارها الشامل، ولجم حلفائها الإقليميين... تدخلت واشنطن بنفسها، وبإستخدام واحدة من أحدث أسلحتها، لتحقق هذه النتيجة المتدنية الفعاليّة... هل ستغامر بتكرار فعلتها؟ خصوصاً بعد موجات الدعم العلني والسري لسورية من قبل حلفائها، ورفع مستوى خطورة وكلفة المواجهة لمستويات قياسية بإعلان وزير الدفاع الروسي يوم الجمعة، 7/4/2017 بأنّه:"سيتم في القريب العاجل اتخاذ عدد من الإجراءات لتعزيز فاعلية الدفاع الجوي السوري لتمكينه من حماية الأجزاء الحيوية من بنيتها التحتية". ما هي الخيارات المتبقية لواشنطن وحلفائها؟ لم يتبقى لنتنياهو إلا أن يصبغ شعره و"يجدد" شبابه ليقول، بأن كيانه لم ينخره الهرم و"العجز" بعد... ولم يبقى لترامب سوى إلقاء "أم القنابل" على جبال أفغانستان الموحشة ليقول بأني موجود وقادر، ولدي أم القنابل وأم الملاحم... ولم أدخل طور التحلل الإمبراطوري بعد... أبواب موصدة، وأفق مسدود... إما التسليم بالهزيمة، أو محاولة تحسين شروط تسوية بطعم الإنكسار، أو الذهاب لمواجهة شاملة لا يملكون وحدهم حدودها وقرارها وميادينها...
منا