الغزو الفكري
تحمل كل أمة حضاريّة ثقافة خاصة بها، تتشكل من: لغتها، وعاداتها، وتقاليدها، وديانة أبنائها، وتاريخها، إلى جانب مكوّنات أخرى عديدة. وتعتبر هذه الثقافة بمثابة حلقة الوصل التي تصل بين أبناء الأمة مهما ابتعدت المسافات بينهم، ومهما تشتتوا في طول البلاد وعرضها، فهي التي تميّزهم عن باقي الأمم والحضارات.
تبدأ المأساة عادة عندما يضعف تمسّك أبناء أمة ما بثقافتهم الجامعة، التي تشكل صمام أمانٍ لهم في مواجهة التحديات المختلفة، مما يجعلهم منقادين إلى الآخرين بسهولة، وتأخذ هذه الأزمة بالتفاقم إذا ما حاول الآخرون الذين يمتلكون مختلف أصناف القوّة تخليص أبناء الأمم التابعة لهم من كلّ القيم الجيّدة التي تحتوي عليها ثقافاتهم، في محاولة منهم للنهوض على أكتافهم، والارتقاء بأنفسهم دون الاكتراث بأيّ شيء آخر، وبالتالي تحقيق أهدافهم المختلفة التي يطمحون إليها، وهذا هو توضيح ما يطلق عليه في عصرنا الحالي مصطلح الغزو الفكريّ، وفيما يلي بيان لبعض أهم أسباب حدوث هذه الأزمة الخطيرة.
أسباب الغزو الفكري
فقدان أبناء الأمة المستضعفة ثقتهم بأنفسهم، وبما لديهم من تاريخ، وحضارة، وقيم أخلاقية، فالضعيف لا يملك عادة من أمره شيئاً، فيصير كالعبد في يد السيّد؛ يحركه أينما شاء، وكيفما أراد.
رغبة القوى العظمى في فرض نظام عالميّ واحد، وإلغاء التنوّع والاختلاف الموجود منذ الأزل بين الحضارات الإنسانيّة، فهذا يساعد بشكل رئيسي على زيادة الأرباح والثروات، ووضعها في يد فئة محدودة من الناس، ومن أبرز تطبيقات هذا الأمر، وأبسطها رؤية اللوحات الإعلانية ذاتها في شرق الأرض، وغربها.
الإحساس بالانهزاميّة، والعجز المترافقين مع تحجر العقول، وجمودها، إلى جانب ضعف الأحوال والأوضاع الاقتصاديّة في الدول التابعة، كل هذا عطّل عملية إنتاج المعرفة لدى الشعوب الضعيفة مما جعلها تستورد أي شيء يقع في طريقها من الأمم الأخرى، ما أدى إلى تزاحم كافة أنواع الأفكار والأيديولوجيات، رديئةً كانت أم حسنة في عقول أبناء هذه الأمم. شعور أبناء الأمة المنهزمة بأن كلّ المظاهر المادية الموجودة لدى الأمم التي تمتلك القوة هي مظاهر حضاريّة من شأنها إضفاء صورة حداثية على كل من يأخذ أو يتعامل بها، مما يؤدي إلى اختفاء كافة المظاهر الناتجة عن ثقافة وتاريخ هذه الأمة.
عجز المفكّرين، ورجال الدين، والعلماء عن تجديد الأفكار العظيمة والتي تعاني من الجمود، والتكلّس، مما يؤدي إلى فقدان مصداقيّتهم لدى العامة، ويترافق هذا الأمر مع ضعف الخطاب الذي يتصدّى لمهمة عرض هذه الأفكار، بحيث يقدمها بشكل لا يتناسب مع محتواها الإنساني الرفيع، ومما يؤدي في نهاية المطاف إلى تشويهها في عيون أبنائها، وبالتالي دفعهم إلى تركها، والبحث عن البدائل التي قد تؤدي إلى كوارث لا تحمد عقباها.
عدم قدرة أبناء الأمم المغزوة فكريّاً على ملاحظة الفروقات بين المقدمات التي أنتجت الأفكار التي يعتقدون أنها تحمل خلاصهم، وبين المقدمات التي لديهم، والتي تتضمن على الأوضاع والظروف الصعبة التي يمرون بها، والتي تحتاج قطعاً لأفكار أخرى قد تكون بين أيديهم ولكنهم غير قادرين على رؤيتها، أو تطبيقها.