مميزات العمارة العباسية
امتد تاريخ العمارة العباسية من عام (132هـ=750م) حتى سقوط بغداد بيد المغول عام (656هـ=1258م)، وقد تميَّزت هذه العمارة بما يأتي:
-الاهتمام بالعمران وتأسيس المدن الجديدة (الهاشمية، بغداد، سامراء، الرافقة،...)
- الاهتمام بعمارة المساجد والقصور والمدارس وغيرها.
- التأثر بالعمارة الساسانية.
- ظهور أهمية الإيوان.
- استخدام الطوب والآجر بأنواعه في المباني العباسية وزخرفتها.
- ظاهرة الامتداد الأفقي للمدن العباسية ومبانيها.
- تبني العقود المدببة والاهتمام بعمارة القباب الجميلة المختلفة.
- ظهور المئذنة المنعزلة عن كتلة مبنى الجامع في سامراء والقطائع.
- غنى مباني العمارة العباسية بالزخارف الجصية والرسوم الجدارية.
- جمالية المباني العباسية من طابق واحد بوجه عام.
- وصول تأثير العمارة العباسية إلى أقطار شمال إفريقيا بوساطة أحمد بن طولون والأغالبة.
بناء المدن العباسية
1- مدينة بغداد
بعد انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين عام (132هـ=750م)، كان لا بُدَّ للنظام العباسي الجديد من تأسيس عاصمةٍ جديدةٍ للدولة، وبعد ما اتَّخذ العباسيون الكوفة أول عاصمةٍ لهم، قرَّروا تأسيس عاصمةٍ جديدةٍ أسموها الهاشمية، ثم اختار الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (137-158هـ=754-775م) الموقع المناسب لعاصمته الجديدة بغداد مكان قرية (أو ضيعة أو سوق بغداد)، كانت تقوم على الضفة الغربية السفلى من نهر دجلة، بُنيت هذه المدينة الجديدة ودُعيت باسم: مدينة السلام أو دار السلام عام (145هـ=762م)، وأُقيم حولها سورٌ خارجيٌّ من الطوب وآخر داخليٌّ وحولها خندق.
وفي العصر الحاضر لم يبقَ شيءٌ من تلك العاصمة العباسية بغداد التي أسَّسها المنصور باستثناء المدرسة المستنصرية، ولكن النصوص تُفيد أنَّ سور هذه العاصمة دائريُّ الشكل قطره 3 كم، ويشغل مركزها القصر المشهور باسم قصر الذهب وجامع الخليفة المنصور، وجعل لها أربعة مداخل طويلة وضيِّقة مرتبطة بشارع دائري، وقسمت العاصمة إلى أربعة أرباع دوائر، يشتمل كل منها على أزقَّةٍ شعبيَّةٍ متشعِّبة.
2- مدينة الرافقة
كرَّر المنصور تبنِّي شكل هذا التخطيط العمراني عندما قام بتأسيس مدينة الرافقة قرب مدينة الرقة القديمة في حوض الفرات الأعلى عام (155هـ=771م)، وأحاطها بسورٍ مستدير ٍكسور بغداد، ولكن مرور نهر الفرات في الجهة الجنوبية جعل هذا السور على شكل نعل الفرس، وكان أطول قطرٍ لهذه المدينة الجديدة 1500م، وأُقيم لها سوران: أحدهما داخلي سمكه 5,8م، وآخر خارجي سمكه 4,5م، بينهما فصيل عرضه 20,80م. وأُحيط السور الخارجي بخندق عرضه 15,9م، وبُني أساس هذا السور من الحجر الكلسي، وأُكمل بناؤه باللبن والطوب، وجُعل لهذا السور باب شرقي اشتهر باسم باب بغداد، وباب غربي اسمه باب الجنان.
وشُيِّد ضمن السور جامع المنصور الذي ما زالت بقاياه قائمةً مع واجهة أبواب ذات عقود ومئذنة أسطوانية الشكل مبنية من الآجر، بالإضافة إلى الأحياء والقصور، وقد اتَّخذها الخليفة هارون الرشيد (170-193هـ=786-808 م) مقرًّا لـه بين عامي (180هـ=796م–193هـ=808م)، فتوسَّعت الرافقة حتى إنَّها اتَّصلت بالرقة وضواحيها، وشكلت مدينة كبيرة بلغ قطرها نحو 10 كم، وعندما ازدهرت أصابها الخراب كالعاصمة بغداد بسبب الغزو المغولي، وما زال قائمًا حتى اليوم سور الرقة وأبراجه وباب بغداد وجامع المنصور وقصر الرشيد وقصر البنات...، وقد امتازت هذه المباني بزخارفها الآجرية البديعة.
3- مدينة سامراء
أسَّس الخليفة المعتصم بالله (218-228هـ=833-842م) عاصمته الجديدة سامراء على ضفَّة نهر دجلة شمال بغداد عام (224هـ/838م)، وتميَّزت بامتدادها العمراني على ضفَّة النهر مسافة 33 كم، وكانت مقر سبعة خلفاء عباسيين تعاقبوا على الحكم من عام (224هـ=838م) حتى عام (276هـ=889م)، وفضَّلوها على بغداد، ولكنَّهم هجروها بعد نحو نصف قرن، وتُعدُّ مبانيها المؤرَّخة بدقَّة وثيقة لا مثيل لها، وقد دلَّت آثارها على فعالياتها الفنيَّة ومدى الاهتمام ببناء الجوامع والقصور والدور وغيرها، وزُيِّنت المباني بالزخارف الجصية والرسوم الجدارية التي منها لوحة راقصتين كانت تُزيِّن جناح النساء في أول قصرٍ بناه المعتصم عُرف باسم: الجوسق الخرقاني تاريخه (221هـ=836م)، والجدير بالذكر أنَّ بعضهم وجد شبهًا بين هذه الرسوم الفنية وما يُماثلها على أقمشة حريرية فاخرة.
4- مدينة القطائع في مصر
عندما دخل العباسيون مصر عام 132هـ أسَّسوا عاصمةً جديدةً لإقليم مصر في شمال شرق الفسطاط عام (133هـ=750م) وسموها العسكر، ثم أسَّس أحمد بن طولون عاصمته الجديدة القطائع في سفح جبل (يشكر) شرق مدينة العسكر وشمال شرق الفسطاط، حيث يوجد حاليًّا قره الميدان والمنشية وميدان صلاح الدين، وكان أحمد بن طولون حكيمًا في إنشاء عاصمته القطائع لإبعاد جيشه عن الأحياء، فتجنَّب بذلك ما كان ممكنًا حدوثه من الشغب والفتن، كما حدث لجند المعتصم في بغداد ممَّا كان سبب تأسيس مدينة سامراء.
كان تخطيط القطائع يُشبه تخطيط سامراء، وازدهرت القطائع وأُنشئت فيها المساجد والجوامع والحمامات والأفران والطواحين والحوانيت والمنازل حتى اتصلت بمدينة الفسطاط، وكان سقوط الأسرة الطولونيَّة يُنبئ بسقوط هذه الحاضرة، ولكن ذكراها استمرَّ بفضل جامع ابن طولون الذي بُني فيها.
المساجد العباسية
1- مسجد الجامع الكبير: بنى الخليفة المنصور مسجد الجامع الكبير في وسط عاصمته بغداد ملاصقًا لقصره: (قصر الذهب)، وامتاز مبناه بجدرانه من اللبن وأعمدته من الخشب، له شكل مربع طول ضلعه200ذراع، وفي عهد الرشيد أُعيد بناؤه بالآجر والجص وزيدت مساحته عام 192هـ، وبقي مبنى هذا الجامع قائمًا حتى القرن الثامن الهجري.
2- مسجد الرصافة: بعدما أنشأ المنصور قصر الرصافة في الجانب الشرقي، أُلحق به مسجدٌ جامعٌ أُقيمت فيه الجُمَع.
3- مسجد دار الخلافة: وهناك مسجد دار الخلافة الذي سمح الخليفة المعتضد بإقامة الجُمَع في داخل القصر الحسني (قصر الخلافة)، ومسجد براثا الذي كان الناس يتبرَّكون به؛ لأنَّه أُقيم على المكان الذي صلَّى فيه الإمام علي بن أبى طالب رضي الله عنه، ومسجد قطيفة أم جعفر، ومسجد الحربية...، وغيرها.
4- جامع سامراء الكبير: يُعد جامع سامراء الكبير -الذي شيَّده الخليفة المتوكل على الله (232- 238هـ=846-852م)- من أجمل المنشآت المعمارية العباسية، شُيِّد فوق أرض مستطيلة الشكل تبلغ أبعاده 260م ×180م، يرتكز مبناه على دعائم مثمنة الأضلاع، ويُحيط به من الخارج سورٌ تدعمه أبراج مستديرة، وذلك كما في جوامع المعسكرات، وتقوم المئذنة الملوية خارج السور بشكل برج حلزوني يصعدون عليه من الخارج كالأبراج البابلية المعروفة باسم زيقورات، ويكفي لبيان أهمية هذا الجامع التذكير برأي بعض الباحثين أنَّه "يُمثِّل العمارة الدينية في العصر العباسي مسجد سامراء الكبير ومسجد أبي دلف".
5- مسجد أبي دلف: بعد ما بنى الخليفة المتوكل مسجد سامراء الكبير قرَّر أن ينقل موقع عاصمته بضعة أميال إلى الشمال الشرقي، فبنى قصر الجعفرية ومسجد أبي دلف عام (246هـ=860م)، وكان مخطَّط هذا المسجد مماثلًا لمخطَّط جامع سامراء الكبير، وله مئذنة مشابهة، لها منحدر لولبي ولكنها أصغر قليلًا، ويرتكز سقفه على عقودٍ مدبَّبة تمتدُّ حتى جدار القبلة.
5- جامع أحمد بن طولون: شيَّد أحمد بن طولون جامعه في مدينة القطائع في مصر عام (264-266هـ=877-879م) على طراز جامع سامراء الكبير، وحرص أن يكون مبناه مرآةً لرخاء البلاد في عهده، فاختار موقعه على جبل يشكر وسط عاصمته القطائع، وعهد بمهمَّة عمارته إلى مهندسٍ من العراق، يتألَّف هذا الجامع من صحنٍ مربع مكشوف طول ضلعه 92م، وتبلغ مساحته 8487م2، وتُحيط به أروقة من جهاته الأربع، وتقع القبلة في أكبر هذه الأروقة، وقد شُيِّد بالآجر الأحمر الداكن، وتقوم أقواس الأروقة فيه على دعائم ضخمة من الآجر المغطَّى بطبقةٍ سميكةٍ من الجص، ويتميَّز هذا الجامع بمئذنته في الرواق الخارجي الغربي المبنيَّة من الحجر، وتتكوَّن من قاعدةٍ مربَّعةٍ عليها طبقة أسطوانية فوقها طبقة مثمنة، ودرجها من الخارج على شكل مدرَّجٍ حلزوني، كما في المسجد الكبير في سامراء ومسجد أبي دلف في سامراء، وفيه منبر خشبي جميل.
العمارة المدنية العباسية
تأثَّر المعماريون العباسيون بجمالية عمارة القصر الساساني: (طاق كسرى) الباقية آثاره في موقع المدائن على نهر دجلة، فاقتبسوا منه الإيوان (البهو) الضخم المقبَّب، وظهر أثر تأثُّرهم بهذه الجمالية المعمارية في منشآت العباسيين المعمارية، ولا سيَّما في القصور، كما تأثَّروا بعمارة قصر العرب اللخميين في الحيرة، ومن أهم القصور العباسية:
1- قصر أخيبر
قصر صيد قرب كربلاء على مسافة 120ميلًا في الجنوب الشرقي من بغداد، يعود تاريخه (164هـ=780م)، له شكل مستطيل، وسور خارجي مرتفع تدعمه أبراج بارزة نصف دائرية، وله مدخل في منتصف كل جانب من جوانبه.
وتطورت العمارة الدفاعيَّة؛ فهناك طريقٌ دائريَّةٌ في أعلى السور للتصدِّي للمهاجمين، وتتألَّف كلٌّ من البوابات الأربع من حجرةٍ يُحيط بها بابٌ داخليٌّ وحاجزٌ خارجيٌّ، يُمكن إنزاله وحصار المهاجمين في الحجرة وإبادتهم. بُني هذا المبنى من الحجر، واستُخدم الآجر في منشآت القبوات التي لها عقود مزخرفة مستديرة ومدبَّبة.
2- قصر بلكوارة
بناه المتوكِّل لابنه المعتز قرب سامراء بطراز قصر الحيرة، فيه باحات وقاعات عدَّة ممتدَّة على طوله، لها واجهات مؤلَّفة من ثلاثة عقود، وعن يمين وسطه ويساره تمتدُّ أروقةٌ فيها عشرات المساكن لكلٍّ منها فناءٌ خاص، وينتهي ذلك كله بحديقة متجهة نحو نهر دجلة.
3- قصر العاشق
أُقيم نحو عام (267هـ=880م) على الضفة الغربية لنهر دجلة، في داخله قصرٌ أصغر مماثلٌ له في التخطيط المعماري.
4- قصر الذهب
بناه المنصور وسط عاصمته بغداد، وأقام في صدره القبَّة الخضراء الشهيرة، وبنى بعض مواليه قصورًا خارج السور.
5- قصر الخلد
وبنى المنصور قصر الخلد وراء باب خراسان، على ضفة نهر دجلة اليمنى عند النهاية الغربية للجسر الكبير.
6- قصر الرصافة
أمر الخليفة محمد المهدي ببنائه في شرقي نهر دجلة عام 151هـ، وهو أول مبنى أُنشئ في هذا الجانب، وبنى له المنصور سورًا وخندقًا، فاتَّخذه الخليفة المهدي مقامًا له عام 151هـ وجعل ما حوله معسكرًا لجنده، وبنى كبار القواد منازل لهم حول القصر، ثم تكاثرت المباني وتألَّفت من مجموعها محلَّة الرصَّافة جوار مشهد الإمام أبي حنيفة.
7- قصر الميدان الطولوني
شيَّد أحمد ابن طولون قصر الميدان متأثِّرًا بجماليَّة المنشآت المعمارية العباسية، ممَّا يُؤكِّد وصول تأثير العمارة العباسية إلى أقطار إفريقيا الشمالية وذلك بوساطة ابن طولون والأغالبة، ويدلُّ قصر العباسية الذي شُيِّد عام (190هـ=806م) قرب القيروان على موالاة الأغالبة للعباسيين.
8- قصور أخرى
وهناك قصر عيسى بن علي عم الخليفة المنصور، وقصر الوضاح، وقصر السلام الذي بناه محمد المهدي عام 164هـ، والقصر الحسني الذي بناه جعفر بن يحيى البرمكي وكان يُعرف باسم القصر الجعفري، وقصر الفردوس الذي شيَّده المعتضد في جوار القصر الحسني.
المدارس
بعد ما كان التدريس يتمُّ في مباني المساجد والجوامع، بنى الخليفة المعتضد المتوفَّى عام 289هـ في قصره في الشماسية مدرسة.
المدرسة النظامية
ثم بنى نظام الملك –ملكشاه- المدرسة النظامية عام 459هـ، وكان من أساتذتها أبو إسحاق الشيرازي (ت: 476هـ)، والإمام الغزالي (ت: 505هـ)، وأبو بكر الشاشي (ت: 507هـ).
المدرسة المستنصرية
المدرسة المستنصرية هي المدرسة العباسية الوحيدة الباقية، فُتحت للتدريس عام (631هـ=1234م)، وعندما استولى المغول على بغداد لم تسلم هذه المدرسة من العدوان، وقد أنشد فيها الشاعر جميل صدقي الزهاوي قائلًا:
وقفتُ على المستنصرية باكيًا *** ربوعًا بها للعلم أمست خَوَاليا
وقفتُ بها أبكي قديمَ حياتِها *** وأبكي بها الحُسَنَى وأبكي المعاليا
وقفت بها أبكي بشعري بُنَاتها *** وأنعي سجاياهم وأنعي المساعيا
بكيتُ بها المدفونَ في حجراتها *** من العلِم حتى بَلَّ دمعي ردائيا
قناطر أحمد بن طولون
بنى أحمد بن طولون في الجهة الجنوبية الشرقية من عاصمته القطائع قناطرَ للمياه، لا تزال بعض عقودها قائمة، وهي تشبه القناطر الرومانية.
بيمارستان أحمد بن طولون
في عام 259هـ بنى أحمد بن طولون البيمارستان للمرضى وجعل له نظامًا مفيدًا.
الحمامات
تدل مباني الحمامات العديدة على الاهتمام بالنظافة كأحد شروط الصحة.
_____________
مراجع للاستزادة:
- إرنست كونل: الفن الإسلامي، ترجمة: د. أحمد موسى (دار صادر، بيروت 1966م).
- دافيد تالبوت رايس: الفن الإسلامي، ترجمة منير صلاحي الأصبحي (مطبعة جامعة دمشق، 1397هـ=1977م).
- علي أدهم: أبو جعفر المنصور، سلسلة أعلام العرب (82) (دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1969م).
- علي حسني الخربوطلي: المهدي العباسي، سلسلة أعلام العرب (51) (الدار المصرية للتأليف والنشر).
- طه الراوي: بغداد مدينة السلام، سلسلة اقرأ (27).
قصة الإسلام