الهند واحدةٌ من البلدان التي خَضَعت لسلطان المسلمين سبعة قرون متتالية، عاشت خلالَها في أمن وأمان، شَهِد لها الرَّحَّالة الأوربيُّون قبل المسلمين، حين زارها "ماركو بولو" وجد سلاطين المسلمين يحكمون بالعدل والإنصاف، في وقتٍ كانت أوربا تَعِيش تحت حكام مستبدِّين.

مدينة دهلي عاصمة الحكم الإسلامي

ومن أهم العمائر الإسلامية في الهند مدينة "دهلي"، وهي المعروفة في الكتابات العربية "دلهي"، والمعروفة حاليًّا بـ"نيودلهي" عاصمة دولة الهند، فهي مدينة إسلامية، اتخذها المسلمون عاصمةً لدولتهم منذ وطئوا تلك البلاد، وظلَّت كذلك حتى نهاية دولتهم.

اختار المسلمون مدينة "دهلي" على الضفة اليُمنَى من نهر "جمنه"، وهو أحد فروع نهر "الجانج"، واتخذوها قاعدةً لهم، وحاضرة لدولتهم، وكانت من قبلُ قريةً مجهولة.

كان الغزنويون قد فتحوا بلاد الهند، ولكنهم اتخذوا "لاهور" عاصمة لهم بعد غَزْنَة، على الرغم من أن جيوشهم كانت قد وصلتْ إلى أقصى بلاد الهند.

وعندما استقر الحكام المسلمون في الهند في عهد المماليك الغُورِية في أوائل القرن السابع الهجري، اتخذوا "دهلي" عاصمة لهم.

كان السلطان "قطب الدين أيبك" قد استولى على شمال الهند من حاكمها الهندوسي "يرتوي راجا"، واستقر في "دهلي"، وأقام عدَّة عمائر وأحياء بالمدينة، كان من أشهرها المنارة الضخمة التي ما زالت أطلالها باقيةً حتى الآن.

قطب منار

والمنارة التي تسمَّى باسم "قطب منار" نسبة إلى قطب الدين أيبك، من العجائب البديعة التي مزجت بين الفن الإسلامي والفن الهندي، وهي من روائع العمائر الإسلامية في الهند، ويجاور المنارة برج النصر الذي يرتفع 258 قدمًا.

وكانت "منارة قطب الدين" هي أولَ منارةٍ تقام في "دهلي" على مسجد يسمَّى باسم "مسجد قطب الإسلام"، وهذا المسجد به العديد من الفنون الإسلامية التي أضيفت إليه في السنوات التالية.

لقد أقام "علاء الدين خلجي" بوابة ضخمة لهذا المسجد تسمَّى "دروازة علائي"، وأدخل تعديلاتٍ على المسجد، وتوسيعاتٍ كبيرة، كما أقيمت عدَّة أضرحة لبعض السلاطين المسلمين في ساحة المسجد، وكان أشهر الأضرحة بهذا المسجد "ضريح الشيخ قطب الدين جشتي".

ومدينة "دهلي" الإسلامية تتكوَّن من سبع مدنٍ:

أقدمها: المدينة المعروفة بـ "دهلي".

وثانيها: مدينة "سيري"، التي بناها السلطان علاء الدين خلجي في أوائل القرن الثامن الهجري.

وثالثها: المدينة المسمَّاة باسم "جهان بناه"؛ أي: مَلاذ العالَم.

ورابعها: مدينة "تغلق آباد"، التي بناها السلطان "تغلق شاه".

والخامسة: هي مدينة "فيروز آباد"، التي بناها السلطان "فيروز شاه".

والسادسة: هي مدينة "أجره"، التي اتخذها السلطان "بابر شاه" و"همايون شاه" عاصمة لهما.

والمدينة السابعة: هي "شاهجان آباد".

إسلامية الآثار

ومدينة "دهلي" تكاد تَنطِق بإسلامية آثارها، ويكادُ يَنطِق كلُّ حجر في عمائرها معبرًا عن قدرة وعظمة المسلمين.

في كل شبرٍ من المدينة الضخمة نرى الآثار الإسلامية؛ من قصورٍ، ومساجدَ، وقلاعٍ، ومدارس، وأضرحةٍ؛ ففيها: مسجد "خركي" المسقوف بأكمله على شاكلة مساجد قرطبة، والمسجد الجامع الذي بناه "تيمور لنك"، ومسجد "موتى"، الذي يعد من أعظم المساجد في المدينة، والمسجد الجامع الذي بناه "شاهجان"، ويعد آية من آيات الفن المعماري الإسلامي.

بالإضافة إلى المساجد التي ما زالت أطلالها باقية حتى اليوم، كانت هناك القصور، والقلاع، والحصون، وأهمها: "قصرُ القلعة الحمراء" الذي أنشأه "شاهجهان"، و"قصر الحصن"، و"قصور فيروز شاه"، و"آل لودي" المغول المسلمين في الهند.

ومن الآثار الإسلامية في "دهلي" قاعة الموسيقا "نقار خانه"، والديوان العام، والديوان الخاص، والأسوار التي أقيمت حول المدينة في عصور مختلفة.

لقد استمرَّ المسلمون يوسِّعون في مدينة "دهلي" حتى أواخر القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري)؛ حيث أنشأ السلطان "أورانكزيب" بعض القصور والمساجد.

تاج محل

وعندما بدأ سلطانُ المسلمين يتوارى؛ بسبب الهجمات الخارجية ونفوذ الإنجليز في البلاد، هجر آخر سلاطين المسلمين "شاه عالم الثاني" "دهلي" عاصمة المسلمين سنة 1803م، حيث استولى عليها الإنجليز.

لقد زار الهندَ بعضُ الرَّحَّالة الأوربيين في القرن العاشر الهجري، في عهد السلطان أكبر، الذي فتح بلاطه لجميع الديانات، وقابل رُسُل ملوك أوربا، الذين سجَّلوا الأحوال في الهند تحت سلطان المسلمين، ورصدوا التقدَّم العمراني والحضاري والثقافي، في ظل سلاطين المسلمين.

وتعدُّ مقبرةُ "تاج محل"، التي بناها السلطان "شاهجان" لزوجته "ممتاز محل" واحدةً من عجائب الدنيا السبع، والتي ما زالت شامخة حتى الآن في مدينة "أجرا" "بدهلي"؛ لتعبر عن أصالةِ الفنِّ والمعمار الإسلامي في الهند.

إن "تاج محل" ليست إلا واحدةً من آلافِ الآثار الإسلامية الراقية، ولعلها واحدةٌ من الآثار التي نالت الاهتمام بين الآلاف من التحف المعمارية الإسلامية في الهند التي تعاني من الإهمال والتعدي.

وإذا كان الاعتداء على مسجد "بابري" وبعض المساجد الإسلامية يهدِف إلى محو الهُوِيَّة الإسلامية، فإن محوَها لن يتم إلا بمحوِ كل المدن الهندية، وأولها مدينة "دهلي" عاصمة الهند.

خير أمة أخرجت للناس

الحضارة الإسلامية هي حضارة أمَّة ليست ككلِّ الأمم؛ وإنما هي خير أمة أخرجت للناس، ومن هنا؛ فإن تراثها الحضاري يجب أن يكون خيرَ تراثٍ يقدَّم للبشرية.

لقد سَعَى الأوربيون لاستبعاد العرب عن أصل الحضارة، واتَّهموهم باتهاماتٍ باطلة وزائفة، وحَارَبوا كلَّ فكرٍ عربيٍّ؛ سعيًا منهم للحدِّ من انتشار الإسلام، وكانت الاتهامات الموجَّهة ضد العرب وإبرازهم في صورة مُزْرِية -مقصودًا بها الهجوم على الدين الإسلامي، الذي يمثل عمادَ الحضارة التي أقامها المسلمون.

لقد وُجِدَ المسلمون في الأندلس، وبعد رحيلِهم قهرًا، ظلَّت أرض الأندلس تفخَر بوطءِ المسلمين لها، ووُجِدَ المسلمون في الهند، فلم يَترُكُوها وظلُّوا بها بعد أن نَزَع المستعمِرون عنهم سلطانَ الحكم والسيادة، إلا أنهم لم يتمكَّنوا من نزع التراث الإسلامي من تراث الهند، ولم يتمكَّنوا من محوِ الفكر الإسلامي من الفكر الهندي.

"دهلي" أو "نيودلهي" عاصمة الهند اليوم، وعاصمة المسلمين بالأمس، ما زالت تفخر بماضيها الإسلامي العريق.

قصة الإسلام