بعد انتصار عبد الرحمن بن معاوية في موقعة المصارة ودخوله مدينة المصارة عاصمة الأندلس في ذلك الوقت، لُقِّب عبدُ الرحمن بن معاوية بـ "عبد الرحمن الداخل"؛ لأنَّه أول من دخل من بني أميَّة قرطبة حاكمًا، وبدأ عبد الرحمن الداخل بعد ذلك يُنَظِّم أمور الأندلس، وكانت هناك ثورات في كلِّ مكانٍ من أرض الأندلس؛ ففي فترة حُكمه -التي امتدَّت أربعة وثلاثين عامًا متصلة من سنة (138هـ=755م)، وحتى سنة (172هـ=788م)- قامت عليه أكثر من خمسٍ وعشرين ثورة، وهو يقمعها بنجاحٍ عجيب الواحدة تلو الأخرى، ثم ترك البلاد وهي في فترةٍ من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفةٍ عامَّة.
ولعلَّ أخطر هذه الثورات، ثورةُ العلاء بن مغيث، سنة (146هـ=763م)؛ أي: بعد حوالي ثمان سنواتٍ من تولِّي عبد الرحمن الداخل حكم الأندلس، فمن هو العلاء بن مغيث؟ وما طبيعة علاقته بالخليفة العباسي أبي جعفر المنصور؟ وكيف قاومها وقضى عليها عبد الرحمن الداخل؟ وكيف أثرت تلك الثورة في طبيعة الانفصال الذي حدث لبلاد الأندلس عن الخلافة العباسية؟
نسب العلاء بن مغيث
تختلف المصادر في نسب العلاء بن مغيث؛ فالبعض يُطلق عليه لقب اليحصبي والآخر الجزامي وكذلك الحضرمي، وتختلف المصادر -أيضًا- في المنطقة التي يعود إليها العلاء: فالبعض يُشير إلى أنَّه من أهل باجة في الأندلس، وأنَّه كان على رأس جند باجة، وله بها رياسةٌ وعصبة. فيما يُشير البعض الآخر إلى أنَّه من أهل إفريقيا، قَدِمَ إلى الأندلس واستقرَّ في باجة معلنًا حركته على الداخل.
علاقة العلاء بن مغيث بأبي جعفر المنصور والعباسيين
وتتَّفق الروايات على أنَّ العلاء بن مغيث بدأ حركته في باجة غرب الأندلس (جنوب البرتغال حاليًّا) أو في (لقتت) أحد أعمال باجة، وكان ذلك في سنة (146هـ=763م)، فيما تذكر روايةٌ أخرى أنَّ حركة العلاء كانت في سنة (149هـ=766م)، والأرجح سنة (146هـ=763م)؛ لإجماع المصادر على هذا التاريخ.
وعلى الرغم من أهميَّة حركة العلاء وخطورتها على إمارة عبد الرحمن الداخل، فلم تزوِّدنا المصادر بتفاصيل كافية حول طبيعة الحركة وصيغة الاتصال بين العلاء وبين الخلافة العباسية. فمثلًا يذكر صاحب كتاب (أخبار مجموعة) أنَّه "ثار عليه العلاء بن مغيث اليحصبي -ويُقال: حضرمي- بباجة وسود ودعا إلى طاعة أبي جعفر المنصور، وكان قد بعث إليه بلواءٍ أسود". فيما تذكر روايةٌ أخرى "أنَّ المنصور كان أرسل للعلاء بولاية الأندلس، فنشر الأعلام السود وقام بالدعوة العباسية بالأندلس". في حين يذكر المقري أنَّه "سنة 146هـ سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقيا إلى الأندلس، ونزل بباجة الأندلس داعيًا لأبي جعفر المنصور".
إنَّ عدم التصريح الواضح من قبل المصادر حول حقيقة حركة العلاء يجعلنا نتساءل: هل كان العلاء من أتباع الخليفة المنصور وعاملًا للخلافة العباسية منفِّذًا لأوامرها ومندفعًا من قبلها في حركته؟ أو كان مستغلًّا اسم الخلافة في حركته ليُضفي عليها الصفة الشرعيَّة؛ ليجمع أكبر عددٍ من الناس حوله في سبيل تحقيق طموحه الشخصي في تولِّيه الأندلس؟ وهل بدأ العلاء مراسلة الخلافة العباسية قبل القيام بحركته؟ أو راسله الخليفة المنصور عندما عَلِمَ بحركته بالأندلس، راميًا عليه تأييده وباعثًا له كتابًا ينصُّ على تولِّيه أمر الأندلس وأعلامًا سودًا شعار حركته، مستغلًّا إيَّاه في سبيل القضاء على الداخل وإمارته، وضمِّ الأندلس إلى السلطة العباسية ولو اسميًّا؟ لا نستطيع الجزم في الجواب عن هذه التساؤلات.
ولكنَّنا نُرجِّح أن يكون العلاء بن مغيث من أتباع الخليفة أبي جعفر المنصور، مستندين في ذلك إلى ما يأتي:
1- خروج العلاء بن مغيث من إفريقيا الذي نصَّت عليه معظم الروايات التاريخيَّة؛ لا يُمكن أن يتمَّ هذا الخروج دون علم والي إفريقيا من قِبَل الخليفة المنصور.
2- تفويض المنصور للعلاء بولاية الأندلس، واللواء الأسود الذي بعثه المنصور للعلاء برفقة كتابٍ جاء فيه: "إن كان فيك محملٌ لمناهضة عبد الرحمن، وإلَّا فأبعث إليك بمن يُعينك". كلُّ ذلك يُقوِّي الرأي القائل: إنَّ العلاء كان مندفعًا بحركته من قِبَلِ الخليفة المنصور.
3- إقدام الأمير عبد الرحمن الداخل على بعث رأس العلاء بعد قتله ورءوس زعماء حركته برفقة كتاب المنصور ولوائه الأسود إلى الخليفة المنصور مغدقًا الأموال لمن يحمله إلى الخليفة، وكان ذلك بمثابة تحدٍّ من الداخل للخلافة العباسية، معلمًا علنًا للمنصور فشل حركته ومحاولته النيل من الإمارة الأموية، مشعرًا إيَّاه بقوَّته وعزمه.
4- قول المنصور حينما وصله رأس العلاء: "إنَّا لله، عرضنا بهذا المسكين للقتل".
إنَّ كلَّ ما تقدَّم يُقوِّي الرأي القائل: إنَّ العلاء كان من أتباع المنصور مندفعًا من قبله الذي وجد فيه حبًّا للولاية وخصومةً للأمويين، فأراد استغلاله في القضاء على الإمارة الأموية في الأندلس.
وعلى هذا فإنَّ الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور كان يُحاول بهذه الدعوة أن يُحطِّم مشاريع بني أميَّة فيما وراء البحر، وأن يبسط سلطانه الاسمي على الأندلس، ومن قبل كان عبد الرحمن بن حبيب المتغلِّب على إفريقية دعا لبني العباس حينما انهار سلطان بني أميَّة، وكاتب الخليفة العباسي فأقرَّه على حكم إفريقيَّة، فكانت إفريقيَّة تابعة لبني العباس من الوجهة النظريَّة، وهكذا كان شأن العلاء بن مغيث، فقد رأى أن يستظلَّ في ثورته بالدعوة العباسيَّة، لكي يُسبغ عليها لونًا من الشرعيَّة.
وهذا يُعَدُّ أمرًا طبيعيًّا بالنسبة لأبي جعفر المنصور؛ إذ يُريد ضمَّ بلاد الأندلس -وهو البلد الوحيد المنشقُّ من بلاد المسلمين- إلى حظيرة الخلافة العباسية الكبيرة، فجاء العلاء بن مغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي وعبر إلى بلاد الأندلس، ثم قام بثورةٍ يدعو فيها للعباسيين، ولم يكن للخليفة العباسي اعتراضٌ على محاولةٍ لا يتحمل تبعتها من الوجهة المادية، وإن كان يُعضِّدها من الناحية المعنوية، وقد أرسل بالفعل سجلًّا إلى الثائر بما طلب.
ثورة العلاء بن مغيث على عبد الرحمن الداخل
بدأ العلاء بن مغيث تحركه في باجة ورفع الأعلام السود شعار العباسيين، وبدأ يُحرِّض الناس على الداخل معلنًا لهم أنَّه خارج عن سلطان الخلافة الشرعية، وقد اختار العلاء ظرفًا ملائمًا لحركته؛ إذ كان الداخل يُواجه حركات معارضة تجتاح الأندلس من شمالها وجنوبها، الأمر الذي أحرج الداخل، ولكنَّ الإحراج الأكبر كان بانضمام أعدادٍ كبيرةٍ من الناس؛ "فانحشر إليه الناس"، وانضمَّ إليه الأجناد، واتَّبعته الفهريَّة على أثر انضمام "واسط بن مغيث الطائي وأمية بن قطن الفهري"، وانضمَّت إلى الحركة كذلك اليمانيَّة، "فأقبلت اليمانيَّة"، وسادت الأندلس فترةٌ من الهيجان الشديد، وأحرج موقف الأمير الداخل إحراجًا كبيرًا لكثرة المنضمِّين للحركة، "وكادت دولة الأمير أن تنصرف وخلافته أن تنخرم".
وكان لكثرة الناس المنضمين لحركة العلاء أسباب، هي:
1- استغلال العلاء الخلافة العباسية في حركته وأثار شعور الناس بإشاعته أنَّ الداخل خارج عن سلطان الخلافة العباسية، الأمر الذي أوهم ودفع الكثير من الناس إلى الانضمام إلى حركته.
2- انضمَّ إلى حركة العلاء الذين تضرَّرت مصالحهم بقدوم الداخل وقيام الإمارة الأموية، وخاصَّةً الفهري الذي أُبعد عن السلطة بمجيء الداخل؛ وانضمَّت كذلك القبائل اليمانيَّة التي انقلبت على عبد الرحمن؛ لأنَّهم لم يجدوا في عهده النفوذ الذي كانوا ينشدونه مقابل مساعدتهم في كفاحه ضدَّ المضريَّة.
مقاومة الداخل لثورة العلاء بن مغيث
تقدَّمت الجموع المؤيِّدة للعلاء بن مغيث إلى إشبيلية، فخرج الداخل بقوَّاته من قرطبة مفضِّلًا ملاقاة الخارجين خارج قرطبة، خاصَّةً بعد أن سمع بكثرة عددهم؛ واشتدَّ الكرب بالداخل عندما عَلِمَ بخروج "غياث بن علقمة اللخمي من شدونة ممدًّا لهم، فلمَّا سمع بخبره الأمير بعث إليه بدرًا مولاه في قطيعٍ من عسكره، فنازله بدر وانعقد الصلح". فعاد اللخمي إلى شدونة، ورجع بدر إلى الداخل ناقلًا له رجوع غياث اللخمي.
وسار عبد الرحمن الداخل إلى قرمونة -وهي موقعٌ حصينٌ على الطريق بين منطقة الثائرين وقرطبة- لمناعتها، واتَّخذ موقف الدفاع، فسار إليه العلاء في جموعه، وهاجم قرمونة مرارًا، وبدأت المناوشات بين الطرفين شديدة من خلف أسوار المدينة، وحاصر العلاء قرمونة مدَّة أسابيع، ولمـَّا طال أمد الحصار تخلخل جيش العلاء ووهنت قوى جنده؛ إذ لم يتوقعوا استمرار الحصار لهذه الفترة. فلمَّا أُعلم الداخل أنَّ اليأس قد دبَّ في صفوف أعدائه، أراد استغلال الفرصة والقضاء على الحركة.
مقتل العلاء بن مغيث
وعندئذٍ انقلب عبد الرحمن الداخل من الدفاع إلى الهجوم، وَدَاهَمَ العلاءَ في صفوة جنده، ونشبت بين الفريقين معارك شديدة مدى أيام، "فأمر الداخل بنارٍ فأُوقِدَت، ثم أمر بأغمدة سيوف أصحابه فأُحرقت، وقال لهم: اخرجوا معي لهذه الجموع خروج من لا يُحدِّث نفسه بالرجوع، وكانوا 700 من ذكور الرجال ومشاهير الأبطال، فأخذوا سيوفهم وخرجوا" مباغتين أعداءهم مثيرين فيهم الرعب، فدارت الحرب بينهم طويلًا، وزُلزل قوم العلاء وأصحابه فولوا منهزمين، وقُتلوا قتلًا ذريعًا، وقُتل العلاء مع سبعة آلافٍ من أصحابه، ربَّما يكون أعداد مقاتلي الجانبين مبالغًا فيه، أو ليس من المعقول أن يقتل 700 مقاتل سبعة آلاف مقاتل؟!
وبذلك تخلَّص الداخل من خطرٍ شديدٍ هزَّ كيان إمارته هزًّا عنيفًا، وليس أدلَّ على تأثير حركة العلاء على نفسيَّة الداخل من العمل الذي قام به، وهو أنَّه "ميَّز رءوس المعروفين ورأس العلاء ومثَّله، ثم كتب باسم كلِّ واحدٍ بطاقةً ثم عُلِّقت في أذنه، ثم أجزل العطاء لمن انتدب لحمل تلك الرءوس".
وحملت الرءوس ورأس العلاء معها بعد أن أفرغ وحشي ملحًا وصبرًا، وجعل معه اللواء الأسود وسجلَّ المنصور للعلاء، وبعثه مع رجالٍ وأمرهم أن يضعوه بمكة، وقيل: حمله بعض التجار الثقاة إلى مكة. حيث كان المنصور يُؤدِّي فريضة الحج في العام التالي (سنة 147هـ)، فجعل السقط عند باب سرادقه، فلمَّا نظر إليه ارتاع لرؤيته، ثم قال مقولته الشهيرة: "إنَّا لله، عرضنا بهذا المسكين للقتل". يعني العلاء بن مغيث الحضرمي؛ يُريد أنَّه قتله بتكليفه إيَّاه بحرب عبد الرحمن الداخل، ثم قال: "ما في هذا الشيطان مطمح، فالحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر".
إن عمل الداخل بما يحمل من سخرية وتحدٍّ لأبي جعفر المنصور يعكس الصعوبة التي واجهها الداخل في حركة العلاء، بحيث جعلته يفقد سيطرته على نفسه ويقوم بعمله المثير، وقد جعل فشل حركة العلاء وتحدِّي الداخل للخلافة بسخريةٍ وعنف، هذه المحاولة الأولى والأخيرة التي يقوم بها أبو جعفر المنصور؛ فلم يُقدِم على أيِّ محاولةٍ ثانيةٍ ضدَّ الإمارة الأموية في الأندلس.
وهكذا استطاع عبد الرحمن أن يسحق هذه الدعوة الخطرة، وكان أخطر ما فيها أنَّها لم تكن دعوة حزبٍ أو قبيلة؛ وإنَّما كانت دعوةً عامَّةً تدعمها الصبغة الشرعيَّة، ولم يكُ أصلح منها لجمع خصوم عبد الرحمن من سائر الأحزاب والقبائل تحت لواءٍ واحد.
________________
المصادر والمراجع:
- مؤلف مجهول: أخبار مجموعة، دار أسامة للنشر والتوزيع, 1980م.
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1417هـ=1997م.
- ابن عذاري: الكتاب: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان، إِ. ليفي بروفنسال، الناشر: دار الثقافة، بيروت – لبنان، الطبعة: الثالثة، 1983م.
- ابن خلدون: تاريخ العبر، المحقق: خليل شحادة، الناشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1408هـ=1988م.
- محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، ج1، ط4، 1417هـ=1997م.
- راغب السرجاني: الأندلس من الفتح إلى السقوط، دار اقرأ للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2011م.
- الدكتور خالد إسماعيل نايف الحمداني: العلاقة بين أمويي الأندلس والخلافة العباسية، كلية الدراسات الإسلامية والعربية - دبي، مجلة التاريخ العربي.
قصة الإسلام