راجع موضوع المنتدى هؤلاء هم آل محمد ، ثم اعلم أهمية الإسناد والتثبت من النقول والأخبار :
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن مما لا شك فيه أن التثبُّت من نسبة القول إلى قائله مطلب شرعي، والطريق لإثبات الأخبار والأقوال والوقائع، هو السند أو الإسناد، الذي هو: سلسلة الرواة التي حصل بها تلقي الخبر، أما المتن: فهو الكلام (أو النص) الذي انتهى إليه السند.
ومن هنا تظهر أهمية الإسناد، الذي شرَّف الله به هذه الأمة على سائر الأمم، قال المناوي رحمه الله في (فيض القدير): "وقد أكرم الله هذه الأمة بالإسناد، وجعله من خصوصياتها من بين العباد، وألهمهم شدة البحث عن ذلك، حتى إن الواحد يكتب الحديث من ثلاثين وجهًا وأكثر"[1].
وقال أبو حاتم الرازي رحمه الله: "لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أمناءُ يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة"، وفي رواية: "أمة يحفظون آثار نبيهم غير هذه الأمة"، فقال له رجل: يا أبا حاتم، ربما رَوَوْا حديثًا لا أصل له ولا يصح؟ فقال: "علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم؛ فروايتهم ذلك للمعرفة؛ ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار وحفظوها"[2].
وقال القاسمي رحمه الله: "اعلم أن الإسناد في أصله خَصيصة فاضلة لهذه الأمة ليست لغيرها من الأمم، قال ابن حزم: "نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال، خص الله به المسلمين دون سائر الملل، وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من اليهود، ولكن لا يقربون فيه من موسى قربَنا من محمد صلى الله عليه وسلم، بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرًا، وإنما يبلغون إلى شمعون ونحوه"، قال: "وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق فقط، وأما النقل بالطريق المشتملة على كذاب أو مجهول العين، فكثير في نقل اليهود والنصارى"، قال: "وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن اليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبي أصلاً، ولا إلى تابع له، ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص"[3].
وقال محمد بن حاتم بن المظفر رحمه الله: "إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها - قديمهم وحديثهم - إسناد، وإنما هي صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، وليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل مما جاءهم به أنبياؤهم، وتمييز بين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوا عن غير الثقات.
وهذه الأمة إنما تنص الحديث من الثقةِ المعروف في زمانه، المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهًا وأكثر؛ حتى يهذِّبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدوه عدًّا؛ فهذا من أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة، نستوزع اللهَ شكر هذه النعمة، ونسأله التثبيت والتوفيق لما يقرِّب منه ويزلف لديه، ويمسِّكنا بطاعته، إنه ولي حميد، فليس أحد من أهل الحديث يحابي في الحديث أباه، ولا أخاه، ولا ولده، وهذا علي بن عبدالله المديني، وهو إمام الحديث في عصره، لا يروى عنه حرف في تقوية أبيه، بل يروى عنه ضد ذلك؛ فالحمد لله على ما وفقنا"[4].
وقال عبدالحي الكتاني رحمه الله: "وفي شرح الاسم الثاني عشر ومائة من "سراج المريدين" للقاضي أبي بكر بن العربي المعافري ما نصه: والله أكرم هذه الأمة بالإسناد، لم يُعطِه أحدًا غيرها، فاحذروا أن تسلكوا مسلك اليهود والنصارى فتحدثوا بغير إسناد؛ فتكونوا سالبين نعمة الله عن أنفسكم، مطرقين للتهمة إليكم، وخافضين لمنزلتكم، ومشتركين مع قوم لعنهم الله وغضب عليهم، وراكبين لسنَّتهم، ومن نسخة عليها خطه نقلت.
وأورد أيضًا في شرح الاسم الحادي والعشرين والمائة من "سراج المريدين" قصة تضمنت كرامة لحافظ الإسلام بقي بن مخلد اتصل به من طريق أهل العراق، فقال: أما غرابة سندها فرجل - يعني نفسَه - رحل من إشبيلية فلقي بمدينة السلام رجلاً حدثه عن رجل من أهل تيناعورا، أخبره عن رجل كان بالأندلس، وهذا من مفاخر هذه الأمة، فالعلم حدثنا وأخبرنا، وما سوى ذلك وسواس الشيطان"[5].
فتبين من ذلك كون أصحاب الحديث أمناءَ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لحفظهم السنن، وتمييزهم لها.
وفي بيان أن الأسانيد هي الطريق إلى معرفة أحكام الشريعة، قال عبدالله بن المبارك رحمه الله: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء"[6].
وقال أيضًا: "مثل الذي يطلب أمرَ دينه بلا إسناد، كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم"[7].
وقال سفيان الثوري رحمه الله: "الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح، فبأي شيء يقاتل؟"[8].
وقال يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: "لا تنظروا إلى الحديث، ولكن انظروا إلى الإسناد؛ فإن صح الإسناد، وإلا فلا تغترَّ بالحديث إذا لم يصح الإسناد"[9].
ومن زُبَد الأقوال في ذلك ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
أ- ومن المعلوم أن المنقولات لا يميز بين صدقها وكذبها إلا بالطرق الدالة على ذلك، وإلا فدعوى النقل المجرد بمنزلة سائر الدعاوى[10].
ب- وكيف يجوز أن يحتج بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؟![11].
ج- فإن الاحتجاج بالحديث لا يجوز إلا بعد ثبوته[12].
د- مطالبة المُدَّعِي بصحة النقل لا يأباه إلا معاند[13].
هـ- أنه ينبغي لمن احتج بالمنقول أن يثبته أولاً[14].
وفي معرِض ما ينقل في كتب التاريخ والسيرة من وقائع وأحداث، أجاد وأفاد محدث العصر العلامة الألباني رحمه الله في بيان الموقف الصحيح منها بقوله: "وقد يظن بعضهم أن كل ما يروى في كتب التاريخ والسيرة، أن ذلك صار جزءًا لا يتجزأ من التاريخ الإسلامي لا يجوز إنكار شيء منه! وهذا جهل فاضح، وتنكُّرٌ بالغ للتاريخ الإسلامي الرائع، الذي يتميز عن تواريخ الأمم الأخرى بأنه هو وحده الذي يملِك الوسيلة العلمية لتمييز ما صح منه مما لم يصح، وهي نفس الوسيلة التي يميز بها الحديث الصحيح من الضعيف، ألا وهو الإسناد، الذي قال فيه بعض السلف: لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء؛ ولذلك لما فقدت الأمم الأخرى هذه الوسيلة العظمى امتلأ تاريخها بالسخافات والخرافات، ولا نذهب بالقراء بعيدًا، فهذه كتبهم التي يسمونها بالكتب المقدسة، اختلط فيها الحامل بالنابل، فلا يستطيعون تمييز الصحيح من الضعيف مما فيها من الشرائع المنزلة على أنبيائهم، ولا معرفة شيء من تاريخ حياتهم، أبد الدهر، فهم لا يزالون في ضلالهم يعمهون، وفي دياجير الظلام يتيهون! فهل يريد منا أولئك الناس أن نستسلم لكل ما يقال: إنه من التاريخ الإسلامي - ولو أنكره العلماء - ولو لم يرد له ذكر إلا في كتب العجائز من الرجال والنساء، وأن نكفُر بهذه المزية التي هي من أعلى وأغلى ما تميز به تاريخ الإسلام؟!
وأنا أعتقد أن بعضهم لا تخفى عليه المزية، ولا يمكنه أن يكون طالب علم بله عالِمًا دونها، ولكنه يتجاهلها ويغض النظر عنها؛ سترًا لجهله بما لم يصح منه، فيتظاهر بالغَيرة على التاريخ الإسلامي، ويبالغ في الإنكار على من يُعرِّف المسلمين ببعض ما لم يصح منه؛ بطرًا للحق، وغمطًا للناس، والله المستعان"[15].
وأهمية الإسناد تعني:
وجوبَ معرفة أحوال الرجال؛ حتى يتسَّنى الحكم على الخبر بالقَبول أو الرد؛ لذا قال العلامة المعلمي رحمه الله: "قد وقعت الرواية ممن يجب قبول خبره، وممن يجب رده، وممن يجب التوقف فيه، وهيهات أن يعرف ما هو من الحق الذي بلغه خاتم الأنبياء عن ربه عز وجل، وما هو الباطل الذي يُبرَّأُ عنه اللهُ ورسوله، إلا بمعرفة أحوال الرواة.
وهكذا الوقائع التاريخية، بل حاجتها إلى معرفة أحوال رواتها أشد؛ لغلبة التساهل في نقلها، على أن معرفة أحوال الرجال هي نفسها من أهم فروع التاريخ، وإذا كان لا بد من معرفة أحوال الرواة، فلا بد من بيانها، بأن يخبر كل من عرَف حال راوٍ بحاله؛ ليعلمه الناس، وقد قامت الأمة بهذا الفرض كما ينبغي"[16].
فبعد هذا العرض في بيان أهمية الإسناد ينبغي على كل مسلم التحري قبل أن ينسب كلامًا إلى أحد، ويشتد الأمر إذا كان المنقولُ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم من بعد ذلك المنقولُ عن الصحابة رضي الله عنهم، وخاصةً إذا كان فيما حدث بينهم؛ فكثيرًا ما نسمع أو تنقل إلينا أحاديث وقصص ووقائع عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أصحابه رضي الله عنهم، فإذا عرضناها على أقوال الأئمة من نقاد الحديث وحفاظه، فإذا هي مردودة لا تثبت، ولا تصح، ولا أصل لها.
هذا والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] "فيض القدير" (1/ 433).
[2] أخرجه الخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث" (ص/ 42-43)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (38/ 300).
[3] قواعد التحديث (ص/ 201)، وأقوال ابن حزم المذكورة في "الفصل" (2/ 69-70).
[4] أخرجه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (ص/ 40).
[5] "فهرس الفهارس" (1/ 80).
[6] أخرجه مسلم في "مقدمة صحيحه" (1/ 15).
[7] أخرجه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (ص/ 42).
[8] أخرجه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (ص/ 42).
[9] أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي" (2/ 102).
[10] "منهاج السنة" (4/ 45).
[11] "منهاج السنة" (1/ 110).
[12] "منهاج السنة" (4/ 444).
[13] "منهاج السنة" (7/ 259).
[14] "منهاج السنة" (6/ 159).
[15] "الصحيحة" (5/ 331-332) تحت الحديث رقم (2261).
[16] "علم الرجال وأهميته" (ص/ 17).
نقل للفائدة