يقولون أن الإنسان لا يكون حرّاً مالم يعش في عالمٍ يخلقه هو.. ما لم يحسبه هؤلاء هو عبوديتنا لما نخلق.. هو هذا القيد الذي نصنعه فيحزّ معاصمنا.. هو ذراع الفأس القادمة من الشجرة لتحمل النهاية لذات الشجرة.
لا يحتاجُ أحدٌ الى شيءٍ مطلقاً قبل أن يتملّكه.. فجأةً يصبح هذا الشيءُ ضرورياً. أنت لا تمتلكه في الحقيقة.. الأقرب أنه يتملكك.. أن تكون عارياً عن كل شيء.. عن التاريخ والأدوات تلك هي صورتك المثلى..
هي صورة آدم الإنسان الأول قبل أن تدحره المعرفة.. وتستعبده الأشياء.
كيف يمكن لحياةٍ أن تبدو محتملة ونحن ننغرس في أوهامها.. نتشبث داخل أكاذيبها الخلّابة.. نتسمّر في بهرجتها ونختفي خلف مساحيق تجميلها الكثيفة أو ننجرفُ في أمواج زيفها.
الصدق الوحيد مع الذات أن تقف َخارج التاريخ.. أن لا تكون لك رغبةٌ بالثورة على شيء بتاتاً.. أن لا تكون شريكاً في أيّ شيء.. هكذا تخلع أرديتك الخرافية التي منحتك الدفء والأمل.. وتخلع نعليك أيضاً في الأودية المقدسة.. أنت لا تعلم أنّك كنت تنتعل قلبك وعقلك.. قلبك في الهواجس وعقلك في التبرير.
"أنتَ ميّتٌ وهم ميّتون" أصدق عبارة وسوسَ بها ملاكٌ لنبيّ.
سيقول اللغويّون أن اسم الفاعل هنا يأتي بمعنى الاستقبال.. لكن الواقع أنها أعمق بكثير من حقيقةِ أننا سنموت حتماً التي يدركها حتى الأطفال.. كيف يمكنك أن تفاوض مفهوماً في غاية الحسم مثل الموت؟! كيف يمكنك دون أن تفسح له الطريق كلها وتزيح كل معالم الحياة ووعودها الى الهامش؟! أنت ميّت ولا يعتدّ بوجودك الطاريء. لا يمكن للموت أن يكون حدثاً في القصة وهو بهذا الرسوخ والثبات وعليه كل هذا التوافق والإجماع. اليقين الذي كانت كل الآلهة تحسده عليه.
الآلهة تموت أيضاً.. ليس غريباً أبداً أن تموت الآلهة.. الآلهة تموت بموتِ كهّانها وعبّادها وأتباعها.. كل عبارة شكّ تقضم طرفاً من الإله.. كلّ سؤال ذكيّ يجعل إلهه يضمحل وينحل.. يمكن للإله أن يتهاوى لفرط الغياب.. غياب الآخرين حتى دون شكٍّ أو سؤال. أو في الأقل غياب اكتراثهم.
حول هذه النقطة السوداء المركزية من اليقين واليأس المطلق تدور كلّ الفلسفات والأديان والآيديولوجيات والحضارات والفنون.. لكن مهما بالغنا في تلوين محيط النقطة بالترهات وتشتيت الانتباه لن نستطيع محوها.. هي هناك تسخر منا.. تسخر من أقرب مفهوم خلود لدينا.. خلود غبائنا.. من محاولتنا الاستمرار ونحن نضع لهّاية الأطفال ونقاتل بعضنا حول اللهّاية الأفضل.
دكتور ميثم الحلو