الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام
هو خامس أئمة أهل البيت الطاهر، المعروف بالباقر، وقد اشتهر به لبقره العلم وتفجيره له. قال ابن منظور في لسان العرب: لقب به، لأنه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسع فيه (1).
أقوال العلماء فيه (عليه السلام):
وقال ابن حجر: سمي بذلك لأنه من بقر الأرض، أي شقها، وإثارة مخبآتها، ومكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبآتها كنوز المعارف وحقائق الأحكام، والحكم واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه (2).
وقال ابن كثير: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب،
(1) لسان العرب 4: 74.
(2) الصواعق المحرقة: 201. (*)
وسمي بالباقر لبقره العلوم، واستنباطه الحكم، كان ذاكرا خاشعا صابرا، وكان من سلالة النبوة، رفيع النسب، عالي الحسب، وكان عارفا بالخطرات، كثير البكاء والعبرات، معرضا عن الجدال والخصومات (1).
وقال ابن خلكان: أبو جعفر محمد بن زين العابدين، الملقب بالباقر، أحد الأئمة الاثني عشر في اعتقاد الإمامية، وهو والد جعفر الصادق. كان الباقر عالما سيدا كبيرا، وإنما قيل له الباقر، لأنه تبقر في العلم، أي توسع، وفيه يقول الشاعر:
يا باقر العلم لأهل التقى * وخير من لبى على الأجبل (2)
ولد بالمدينة غرة رجب سنة 57 ه وقيل 56 ه، وتوفي في السابع من ذي الحجة سنة 114 ه، وعمره الشريف 57 سنة.
عاش مع جده الحسين (عليه السلام) 4 سنين، ومع أبيه (عليه السلام) بعد جده (عليه السلام) 39 سنة، وكانت مدة إمامته (عليه السلام) 18 سنة (3).
وأما النصوص الدالة على إمامته من أبيه وأجداده والتي ذكرها المحدثون والمحققون من علمائنا الأعلام فهي مستفيضة نقلها الكليني - رضي الله عنه - وغيره.
وقال ابن سعد: محمد الباقر من الطبقة الثالثة من التابعين من المدينة، كان عالما عابدا ثقة، وروى عنه الأئمة أبو حنيفة وغيره.
قال أبو يوسف: قلت لأبي حنيفة: لقيت محمد بن علي الباقر؟ فقال: نعم وسألته يوما فقلت له: أراد الله المعاصي؟ فقال: " أفيعصى قهرا "؟ قال أبو حنيفة: فما رأيت جوابا أفحم منه. وقال عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علما منهم عند أبي جعفر، لقد
(1) البداية والنهاية 9: 309.
(2) وفيات الأعيان 4: 174.
(3) إعلام الورى بأعلام الهدى: 264 - 265. (*)
رأيت الحكم عنده كأنه مغلوب، ويعني الحكم بن عيينة، وكان عالما نبيلا جليلا في زمانه.
وذكر المدائني عن جابر بن عبد الله: أنه أتى أبا جعفر محمد بن علي إلى الكتاب وهو صغير فقال له: رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسلم عليك، فقيل لجابر: وكيف هذا؟ فقال: كنت جالسا عند رسول الله والحسين في حجره وهو يداعبه فقال: " يا جابر يولد مولود اسمه علي إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيد العابدين فيقوم ولده، ثم يولد له ولد، اسمه محمد، فإن أدركته يا جابر فاقرأه مني السلام ".
وذكر ابن الصباغ المالكي بعد نقل القصة: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لجابر: " وإن لاقيته فاعلم أن بقاءك في الدنيا قليل " فلم يعش جابر بعد ذلك إلا ثلاثة أيام. ثم قال: هذه منقبة من مناقبه باقية على ممر الأيام، وفضيلة شهد له بها الخاص والعام (1).
وقال المفيد: لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين (عليهما السلام) في علم الدين والآثار والسنة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر من أبي جعفر الباقر (عليه السلام) (2).
وروى عنه معالم الدين بقية الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين، وسارت بذكر كلامه الأخبار وأنشدت في مدائحه الأشعار... (3).
قال ابن حجر: صفا قلبه، وزكا علمه وعمله، وطهرت نفسه، وشرف خلقه، وعمرت أوقاته بطاعة الله، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة (4).
(1) ابن الجوزي، تذكرة الخواص: 302 - 303، الفصول المهمة: 215 - 216.
(2) الإرشاد: 262.
(3) الفصول المهمة: 210 نقله عن إرشاد الشيخ المفيد: 261، فلاحظ.
(4) الصواعق المحرقة 301. (*)
مناظراته: وأما مناظراته مع المخالفين فحدث عنها ولا حرج، وقد جمعها العلامة الطبرسي في كتاب الإحتجاج (1).
قال الشيخ المفيد في الإرشاد: وجاءت الأخبار: أن نافع بن الأزرق (2) جاء إلى محمد بن علي، فجلس بين يديه يسأله عن مسائل الحلال والحرام.
فقال له أبو جعفر في عرض كلامه: " قل لهذه المارقة، بم استحللتم فراق أمير المؤمنين، وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته والقربة إلى الله بنصرته؟ فسيقولون لك: إنه حكم في دين الله، فقل لهم: قد حكم الله تعالى في شريعة نبيه (صلى الله عليه وآله) رجلين من خلقه فقال: { فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا }، وحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم فيهم بما أمضاه الله، أوما علمتم أن أمير المؤمنين إنما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدياه، واشترط رد ما خالف القرآن في أحكام الرجال، وقال حين قالوا له: حكمت على نفسك من حكم عليك؟ فقال: ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت كتاب الله.
فأين تجد المارقة تضليل من أمر بالحكم بالقرآن، واشترط رد ما خالفه لولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان "؟ فقال نافع بن الأزرق: هذا والله كلام ما مر بسمعي قط، ولا خطر مني ببال، وهو الحق إن شاء الله.
ثم إن الشيعة الإمامية أخذت كثيرا من الأحكام الشرعية عنه وعن ولده البار
(1) الإحتجاج 2: 54 - 69.
(2) الإرشاد: 265، ولعل المناظر هو عبد الله بن نافع بن الأزرق، لأن نافعا قتل عام 65 من الهجرة وللإمام عندئذ من العمر دون العشرة، وقد نقل ابن شهرآشوب بعض مناظرات الإمام مع عبد الله بن نافع فلاحظ 4: 201. (*)
جعفر الصادق (عليه السلام) وحسب الترتيب المتداول في الكتب الفقهية، حيث روي عنه (عليه السلام) الكثير من الروايات الفقهية التي تناولت مختلف جوانب الحياة، وللاطلاع على ذلك تراجع كتب الفقه وموسوعاته المختلفة.
وأما ما روي عنه في الحكم والمواعظ، فقد نقلها أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، والحسن بن شعبة الحراني في تحفه (1).
وقد توفي الإمام محمد الباقر (عليه السلام) عام 114 ه، ودفن في البقيع إلى جنب قبر أبيه، ومن أراد البحث عن فصول حياته في شتى المجالات فليراجع الموسوعات التي تحفل بها المكتبات العامة والخاصة.
( 1 ) حلية الأولياء 3 : 180 - 235 وفي بعض ما نقل عنه تأمل ونظر . والحسن بن علي بن شعبة في