من أوراق محقق شرطة حكـاية (عبـاس كـزة) في محــلة الذهــب
كانَ كل شرطة مركز الجعيفر وضباطه يعرفونه حق المعرفة، كانوا يبتسمون كلما شاهدوه وربما استدعاه احدهم وتجاذب معه أطراف الحديث ليروح عن نفسه من متاعب العمل.. كان اسمه (عباس كزة) فقد كان بلا عمل يروح ويغدو طوال اليوم بملابسه الرثة.. ويصيح بألفاظ غير مفهومة.. فتراه يدور في درابين محلة الذهب والشيخ صندل وهو محزم على الدشداشة فيلاحقه الصبيان والأولاد ويرددون (عباس كزة.....) فيلاحقهم عباس، ويرقص على النغمة وعلى تصفيق الصبية وهز ردفيه.. وأصبح عباس حديث المحلات والدرابين في جانب الكرخ وغيرها.. وان كان بعضهم يتحدث عنه بكثير من الحسد.. ليس بسبب انه غير مضطر للعمل وانه يحصل على قوته وملابسه من إحسان الآخرين.. وإنما لأن عباس كزة.. كان قد تزوج منذ فتره بفتاة صغيرة رائعة الحسن ظهرت فجأة في محلة الذهب.. ولا يعرف أحد من أين أتت هذه الفتاة.. وكيف رضيت به زوجاً.. وحدث تغير في أحوال عباس.. فقد دخل مركز الجعيفر ذات صباح وهو يصرخ ويهلل ثائراً..
- سأله الضابط متندراً: ماذا بك يا عباس؟!
- صرخ عباس.. ضربتني.. وطردتني من المنزل!
- سأله الضابط مندهشاً: من؟
- قال عباس: زوجتي...
- سأله الضابط: ولماذا تضربك وتطردك من بيتك؟
- قال عباس: إنها تريد أن تنفرد بأحد الجيران في بيتنا ولا ترغب في أن أكون بالبيت حتى لا أضايقها.. استغرق الضابط في الضحك من غرابة الموقف.
- وسأله: وماذا تريد.. هل تريد أن نقبض على جارك وزوجتك؟
ظهرت علامات الذعر على وجه عباس وصاح: لا.. ستغضب زوجتي إذا حدث ذلك.. وقد تحرمني من دخول المنزل إلى الأبد.
- سأله الضابط: إذن ماذا تريد؟
- قال عباس: أن تطلب منها ألا تفعل ذلك.
- قال الضابط: لماذا إذن لا تطلقها يا عباس وتستريح؟
- قال عباس: أنا أحبها.
- قال له الضابط: إذن صارحها وقل لها إن ما تفعليه ليس من الصواب في شيء.. أخبرها انك تحبها.. ولا أظن أنها ترضى بالإساءة إليك. ورغم أن عباس كزة لم يقتنع بهذا الكلام، إلا أنه غادر مركز الشرطة وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة، لكنه عاد ليظهر في اليوم التالي، وهو يصرخ في وجه كل من يقابله، قائلاً: سأشتري مسدسا.. وسأقتله..
سألوه: من الذي سوف تقتله.
قال عباس: الرجل الذي يتردد على منزلي.
فانصرفوا عنه غير عابئين بتهديده، فهو مخبول لا يدري ماذا يقول، لكن سكان المحلة روعوا ذات مساء بصوت طلقة نارية تمزق صمت الليل، وعندما أسرعوا الى مصدرها، كانت آتية من داخل بيت – عباس كزة - وجدوا رجلاً يرقد على الأرض، غارقاً في دمائه، وقد لفظ أنفاسه الأخيرة، وعندما حاول بعضهم إسعاف الرجل فوجئوا بصوت في الظلام يقول: لا تتعبوا أنفسكم.. فقد مات.. والتفتوا ليجدوا عباس كزة يبرز من الظلام وبيده مسدس.. وسرعان ما حضر رجال شرطة الجعيفر والقوا القبض عليه.. والذي اعترف بجريمته ببساطة شديدة.
- وقال: أنا الذي قتلته.. لقد سبق ان شكوت من تردد شخص مجهول على بيتي أثناء غيابي.. أنه لا يحق له التسلل هكذا في جنح الظلام إلى بيتي.. كنت نائماً وشعرت بمن يفتح باب البيت.. فهرعت الى المسدس الذي اشتريته من سوق الشواكة وصحت فيه فلم يرد فأطلقت النار عليه.. لم أكن اقصد قتله بل كنت أريد تخويفه.. لكن الرصاصة اخترقت رأسه فمات. وبدأ التحقيق مع عباس كزة.. سأله ضابط التحقيق: هل كانت لزوجتك علاقة بأشخاص آخرين؟
- قال بأسى: نعم.
- ولماذا لم تحاول الانتقام منهم جميعاً؟
- لم أكن استطيع التصدي للجميع.. وعندما حصلت على المسدس تشجعت.. وحدث ما حدث.
- هل تريد اتخاذ الإجراءات القانونية ضد زوجتك.
- لا.
- لماذا؟
- لأني أحبها..!
وقام قاضي التحقيق باستدعاء زوجة عباس.. فجاءت.. صبية في العشرين.. باهرة الحسن.. تبدو من عينيها نظرات حادة أخاذة تنم عن ذكاء شديد.
- سألها القاضي: ما معلوماتك عن الحادث.
- قالت: لا اعرف شيئاً.. فقد كنت نائمة واستيقظت على صوت رصاصة.. اعتقدت ان لصاً تسلل الى البيت.. فصرخت وهرعت لأجد زوجي واقفاً ممسكاً بالمسدس وعلى الأرض كان يرقد القتيل.
- ألا تعرفين شخصية القتيل؟
- أبدا.
- زوجك يقول إن القتيل كان قادماً إليك في جنح الظلام وانه كان على علاقة غير مشروعة بك؟
- زوجي مخبول.. يقول ما لا يعني أو يفهم.
- لقد سبق أن اتهمك بأنك على علاقة بآخرين؟
- ألم أقل لك يا سيدي انه مخبول.. ولا يعرف ماذا يقول!
كانت كل الظواهر تشير إلى أن جريمة –عباس- لا تعدو ان تكون حادث دفاع عن الشرف.. لكن ضابط الشرطة كان يخامره إحساس غامض بان في الأمر شيئاً غير منطقي.. ومضى ضابط التحقيق المكلف بالقضية بالبحث عن شخصية القتيل بواسطة بصماته.. لأنه لم يعثر معه على ما يفيد شخصيته الحقيقية.. ولم يتعرف عليه احد من سكان المحلة.. وكان قاضي التحقيق قد قرر حبس –عباس- عدة أيام.. ثم قرر بعدها إرساله الى مستشفى الشماعية للتأكد من سلامة قواه العقلية .. لحين تقديمه الى المحاكمة بتهمة القتل للدفاع عن الشرف.. وترك غياب عباس عن المحلة فراغاً فلم يشاهد يتجول في الشوارع وخلفه الأطفال في مظاهرة كبيرة.. حتى حدثت مفاجأة لم تكن في الحسبان.. أخيراً تمكن ضابط التحقيق من تحديد شخصية القتيل وكانت المفاجأة انه ابن عم زوجة عباس.. وهو مزارع ثري ويملك أراضي زراعية في الحبانية وأكدت المعلومات ان القتيل وهو أعزب ليس من ذلك النوع من الرجال الذي يقيم علاقات غرامية محرمة. ومضى ضابط التحقيق الى قضاء الحبانية ليجمع خيوط القصة.. وفي النهاية تمكن من الحصول على الحقيقة المثيرة.. وكشف غموض الجريمة.. واكتشف ضابط التحقيق ان الجريمة لم ترتكب بسبب مغامرة غرامية للقتيل أو علاقة غير مشروعة كانت بينه وبين ابنة عمه زوجة عباس.. وإنما هي جريمة قتل مدبرة بعناية وسبق إصرار وترصد.. اكتشف الضابط أن الوريث الوحيد للقتيل هي ابنة عمه زوجة –عباس كزة – وان ذهنها الشيطاني تفتق عن التخطيط لارتكاب الجريمة البشعة كي ترث ثروة وأراضي ابن عمها.. ووضعت خطتها مع زوجها المجنون!.. فاتفقت معه على ان يختلق روايات كاذبة عن علاقات مشبوهة بينها وبين بعض الرجال.. وعن عزمه على الانتقام دفاعاً عن شرفه.. ثم أرسلت زوجها الى ابن عمها ليزعم له ان خلافاً حدث بينهما.. ويرجوه الحضور للإصلاح والتوفيق بينهما.. واقتنع المسكين بالقصة الوهمية وسافر ليصلح بين ابنة عمه وزوجها وسقط في الفخ الشيطاني.. وبدلاً من ان يستقبلاه بالترحيب وجد رصاصة الغدر تنتظره فسقط قتيلاً. تم جلب عباس من مستشفى الشماعية مع تقرير اللجنة الطبية المختصة فتبين انه سالماً لقواه العقلية.. وانه ممثل بارع ويؤدي دوره كرجل مجنون بإتقان..! وأحيل الاثنان الى محكمة جنايات الكرخ وقضت المحكمة بالإشغال الشاقة المؤبدة على الزوجة وعلى عباس كزة.. وهكذا انتهت أسطورة عباس كزة من محلة الذهب.
الكاتب/د . معتز محي عبد الحميد
المصدر/ المشرق
كاردينيا