إسهام العلماء الرحالة في تنشيط تجارة الكتب
ومن مظاهر التواصل العلمي والثقافي بين الأندلس والمشرق تجارة الكتب، الذي من أثرها توسُّع الثقافة بين الشعب الأندلسي، وإليها يعود الفضل في اتساع التبادل الفكري بين المشرق والأندلس.
ولقد أسهم هؤلاء العلماء في تنشيط تجارة الكتب؛ إذ إنَّ البعض منهم تجَّار وقد لاحظوا إقبال كبير على تجارة الكتب، وأنَّه تأتي منها أرباحٌ مجزية، فجلبوا معهم إلى بلاد الأندلس الكثير من مصنَّفات أهل المشـرق.
وممَّا هو جديرٌ بالاهتمام تتبُّع رحلة أولئك العلماء الأندلسيين إلى المشرق، ودراسة ما عادوا به معهم من علمٍ وكتب، وتتبُّع سلسلة الوافدين على الأندلس من المشرق وتحليل ما جاءوا به معهم من العلم والكتب.
عوامل ازدهار تجارة الكتب
1- ازدهار حركة الترجمة
لقد شهد المشرق الإسلامي خلال القرون الثالث والرابع والخامس للهجرة تطوُّرًا وازدهارًا حضاريًّا وعلميًّا كبيرًا شمل العديد من المجالات الثقافية والأدبية، وأزهرت حركة الترجمة عند العرب المسلمين بعد أن أسـَّس الخليفة العباسـي المأمون ( 198–218هـ=813-833م) بيت الحكمة، وأهتمَّ الخلفاء العباسيون بترجمة المصنفات العلمية لمشـاهير العلماء اليونان من أمثال أبقراط وجالينوس وأفلاطون وأرسطوطاليس، وكانوا يبعثون العلماء إلى أوربَّا لشراء الكتب وجلبها إلى بغداد الأمر الذي ساعد على نشر الثقافة والعلوم اليونانية بين المسلمين والحفاظ عليها، كما ساعد كذلك على تنشيط حركة التبادل الثقافي بين أهل الأندلس وأهل المشرق الإسلامي.
2- الاهتمام بإنشاء المكتبات العامة والخاصة
ومن العوامل التي أدَّت إلى ازدهار تجارة الكتب ورواجها بين المشرق وبلاد الأندلس، اهتمام الأمراء والخلفاء والميسورين من أهل الأندلس بإنشاء المكتبات العامة والخاصة في القصور والمنازل، وقيل: إنَّ مكتبة الخلفاء في إسبانيا بلغ ما فيها ستمائة ألف مجلد، وكان فهرسها أربعة وأربعين مجلَّدًا.
ويُعدُّ الخليفة عبد الرحمن الناصر من أشهر الأمراء الأمويين الذين اهتموا بجمع الكتب وشغفوا بها وبعثوا إلى الأمصار في طلبها، وفي عصره قدم إلى الأندلس أبو علي القـالي في سنة (330 ﻫـ=941م) وجلب معه كتاب الأمالي، وفي عصره دخلت الكتب الطبية من المشرق وجميع العلوم.
كما تُشـير المصادر إلى اهتمام الخليفة الحكم المستنصر وعنايته بجمع الكتب وحبِّه للعلم والعـلماء؛ فقد وُفِّق الحكم في جمع مكتبةٍ غاية في الثراء، كان الحكم يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالًا من التجار إلى شتى الأقطار من بغداد والبصرة ومصر وغيرهم من ديار المشرق؛ ليبتاعوا له كلَّ ما تصل أيديهم إليه من الكتب القديمة والحديثة في العلوم المختلفة، فكان الحكم حريصًا على تزويد مكتبته بمختلف المصنفات العلمية من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبِهذه الوسيلة أصبحت مكتبة الحكم شعلة نورٍ يستضيء العالم بأنوارها.
ومن الأمراء الذين اهتمُّوا بجمع الكتب في الأندلس وشـجَّعوا على جلبها من كلِّ مكان، المظفَّر أبو بكر محمد بن عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس (تُوفِّي سنة 460ه=1068م) صاحب بطليوس، وينقل المقري عن ابن الأبار أنَّ المـظفر كان محبًّا لأهل العلم، جمَّاعةً للكتب، ذا خزنةٍ عظيمة.
أشهر الكتب المشرقية التي دخلت إلى الأندلس
من أشـهر المصنفات المشرقية التي انتقلت إلى بلاد الأندلس (رسائل إخوان الصفا) على يد أبي الحكم الكرماني (458هـ=1065م) من أهل قرطبة، ويُشـير ابن حيَّان (تُوفِّي سنة 469هـ=1076م) إلى عددٍ من الكتب التي أدخلها بقي بن مخلد (تُوفِّي سنة 276ﻫـ=899م) منها كتـاب (الفقه) للشافعي وكتاب (التـاريخ) لخليفة بن خياط، وكتـابه في (الطبقـات)، وكتاب (سيرة عمر بن عبد العزيز) للدورقي. ويذكر ابن الفرضي أنَّ وهب بن نافع (تُوفِّي سنة 273ﻫـ=886م) أول من أدخل كتب أبي عبيد إلى الأندلس ثم أدخلها الخشني بعده.
ومن نفائـس المصنفات الفقهية التي وصلت إلى الأندلس (موطَّا مالك)، وقيل: إنَّ أول من أدخله الأندلس زياد بن عبد الرحمن اللخمي المعروف بشبطون (تُوفِّي سنة 199هـ=804م)، وأدخل زياد موطَّأ مالك مكمَّلًا متقنًا، فأخذه عنه يحيى بن يحيى الليثي (234هـ=848م) الذي نشر المذهب.
وكان أبو علي القالي ممَّن حملوا إلى الأندلس تراثًا مذكورًا في الشعر والأدب، وممَّا حمله معه من المشرق دواوين امرئ القيس، وزهير، والنابغة، والخنساء، والأخطل، وجرير، والفرزدق، وغيرهم. هذا بالإضافة إلى كتب الأخبار واللغة.
ولمـَّا عاد فرج بن سـلام من العراق جلب معه كتاب (البيان والتبيين) وغيره من مؤلفات الجاحظ، وأدخل قاسم بن ثابت العوفي السـرقسطي إلى الأندلـس كتاب (العين) للنحوي المشهور الخليل بن أحمد الفراهيدي.
واشتهر هشام بن عمر بن محمد بن أصبغ الأموي بجلب الكتب من المشرق، وقد جلب عند عودته من رحلته من المـشـرق كتبًا كثيرةً حِسـانًا، ودخل في عصر ملوك الطوائف أحد العلماء التجار العراقيين الأندلس وبرفقته نسخة من كتاب (القانون) في الطب لابن سينا، وكان التاجر المذكور قد حرص على أن تكون هذه النسخة جميلة الخط، زاهية التجليد.
ولم تنقطع هجرة الكتب المشرقية في شتى العلوم، وهاجرت إلى الأندلس -أيضًا- كتب الفارابي، وديوان المتنبي، ومقامات الحريري، ورسائل البديع، والخوارزمي، وغيرهم.
أشهر الكتب الأندلسية التي دخلت إلى المشرق
أمَّا فيما يتعلَّق بانتقال الكتب بواسطة التجار من الأندلس إلى المشرق، فإنَّه يُمكن القول: إنَّ المصنَّفات العلمية لمشاهير علماء الأندلس من أمثال ابن عبد ربه صـاحب كتاب (العقد الفريد)، وابن حزم صاحب كتاب (طوق الحمامة)، والـشاعر محمد بن هانىء الأزدي صاحب القصائد الشعرية المشهورة، والطبيب المشهور خلف بن عباس الزهراوي صاحب الموسوعة الطبية المشهورة (التصريف لمن عجز عن التأليف) كانت تصل إلى المشـرق ومعروفة ومتداولة بين أهل الأدب وطلاب العلم في العراق وفارس عمان.
وممَّا يدلُّ على ذلك ما أشار إليه ابن حيان حيث يروي عن طاهر بن عبد العزيز قال: "حملت مع نفسي جزءًا من مسند أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد إلى المشرق، فأريته محمد بن إسماعيل الصائغ، فقال: ما اغترف هذا إلَّا من بحر علم".
ونخلص من كلِّ هذا بالقول: إنَّ تجارة الكتب شكَّلت خلال هذه الفترة مادَّةً أساسيَّةً في ميزان التبادل التجاري بين منطقة المشرق وبلاد الأندلس.
فقد رأينا كيف كان للتواصل الثقافي بين المشرق والأندلس أثرٌ كبيرٌ في ازدهار الحركة العلميَّة وتنشيطها، وأنَّ الرحلات العلميَّة أهمُّ جسرٍ للتواصل، وأنَّ تجارة الكتب في الأندلس هي أحد مظاهر التواصل، وإليها يعود الفضل في اتِّساع التبادل الفكري بين المشرق والأندلس، ومن أثر ذلك توسُّع الثقافة بين الشعب الأندلسي، وانتشار العلم في الأندلس، وتألُّق بعض العلماء الأندلسيِّين وتصنيفهم مصنَّفات قيِّمة.
فقد جنت الحضارة الأندلسية ثمار ذلك التواصل على نطاقٍ واسع، انعكس هذا التواصل على النضج العلمي واكتمال نموِّ الشخصيَّة العلميَّة للأندلس، وكوَّن علماء نابغين.
قصة الإسلام