لم تكن كتب التاريخ خلال المرحلة الأندلسية تولي أهميَّةً للتجارة والتجَّار بقدر ما كانت توليها للأدب والفكر والسياسة ورجالها، وازدادت ندرة هذه الأخبار عندما تحوَّل ميزان القوى الاقتصادي إلى يد المسيحيِّين ابتداء القرن (7هـ=13م).
وإذا ما رجعنا إلى المصادر والكتب التي تتحدث عن التجارة، فإنَّنا لا نجد كتبًا مخصَّصةً لذلك؛ وإنَّما نجد تراجم لبعض العلماء الذين كانوا يشتغلون بالتجارة بالإضافة إلى اشتغالهم بالعلم، كما أنَّ كتب الحسبة تناولت هي الأخرى -ولو بشكلٍ متفرِّق- موضوع التجارة، سواءٌ من حيث جودة السلع أو ادخارها أو أثمنتها.
رواج التجارة الأندلسية
عرفت الأندلس رواجًا تجاريًّا متفاوتًا، وتُشير المصادر العربية إلى أنَّ أزهى فترات الازدهار التجاري كانت خلال القرن الأخير من حكم الأمويين في الأندلس (القرن 4هـ=10م)، وقد وصل تجار الأندلس إلى المغرب وليبيا ومصر وشرق المتوسِّط، بل هناك من وصل منهم إلى الصين.
وبحكم القرب الجغرافي فإنَّ التجار الأندلسيِّين كانت لهم علاقةٌ تجاريَّةٌ مهمَّة مع المغرب، اقتصرت أحيانًا على الموانئ والمدن الساحلية مثل سلا والمهديَّة، وامتدَّت أحيانًا أخرى إلى المدن الداخليَّة مثل فاس ومراكش، وكان الأندلسيُّون يسوقون في المغرب سلعًا مثل زيت الزيتون، ويحملون سلعًا أخرى مثل الحبوب.
الطرق التجارية في الأندلس
كانت المدن الأندلسية في القرون الوسطى تُشبه الأسواق الدولية في وقتنا الحاضر، وذلك طوال الفترة الإسلامية تقريبًا، وكان التجار خلال هذه الفترة يتنقَّلون بحريَّةٍ كاملةٍ على طول الخطوط البرية والبحرية التي كانت تربط الأسواق الأندلسية بغيرها، سواءٌ في المغرب أو في المشرق، وكانوا يتبعون في طرقهم هذه جنوب البحر الأبيض المتوسط حيث (دار الإسلام).
كان يوجد بالأندلس آنذاك مراكز تجاريَّة ضخمة ونشاطًا متميِّزًا، وكان يتم تخزين السلع التي يستوردها التجار المسلمون والمسيحيون واليهود من الخارج، في بعض مدن الجنوب كألمرية وإشبيلية ومالقة، قبل أن يتم توزيعها، لذا أصبحت هذه المدن تطلع بدور الوسيط بين المشرق وغرب المتوسط.
أهم البضائع التجارية
كان التجار يحملون معهم من المشرق وتونس، القرفة والتوابل والأقمشة والصبغ الأزرق واللؤلؤ والقنب، أمَّا من الأندلس فكانوا يحملون سلعًا إمَّا تُنتج ببلادهم مثل الحرير والزعفران وزيت الزيتون والجلود والأصباغ والورق والمرجان، أو تصلها من الممالك المسيحية في الشمال كالفراء والرقيق.
وكان التاجر آنذاك يلعب في تجارته على عاملين أساسيين هما السعر المناسب والطلب على البضاعة، وكانت السلع تُباع إمَّا نقدًا أو مقايضة؛ إذ كان التاجر المسلم يشتري من صاحبه في شمال إفريقيا سلعًا كالنيلة أو الصوف أو الحبوب، ويبيعه مقابلها الحرير الإسباني والخشب والجواري اللائي كن يقعن في الأسر.
العامل الديني في التجارة
وممَّا كان يُميِّز التجار في الأندلس، تجمُّعهم في فئاتٍ تقوم على الروابط الدينية أو الجغرافية، إلَّا أنَّ العامل الديني كان أقوى، ولهذا كانت الصحبة التجارية بالدرجة الأولى مع ابن الملَّة، هذا الميز الديني نجده حتى في الطرق التجارية التي كان يسلكها التجار؛ فالمسيحيون كانوا يسلكون السواحل الشمالية للبحر الأبيض المتوسط؛ وذلك لقربها من الديار المسيحية حتى يتمَّ الاحتماء بها، بينما كان التجار المسلمون يُفضِّلون السواحل الجنوبية المحاذية للبلاد الإسلامية، إلَّا أنَّه كانت هناك بعض الاستثناءات خصوصًا في شمال إسبانيا خلال القرن (5هـ=11 و12م) و(6هـ=13م) كما تذكر بعض المصادر.
وستعرف الطرق البحرية في الممالك المسيحية منذ القرن (6هـ=12م) تطوُّرًا ملموسًا، ممَّا سيُعطي دفعةً لنموِّ وتطوُّر موانئ أوربَّا الجنوبيَّة؛ حيث ظهرت طرقٌ جديدةٌ تربط إيطاليا بشمال إفريقيا، فحلَّت جنوة محلَّ الأندلس فيما يتعلَّق بتخزين البضائع وتوزيعها، وبحلول القرن (السابع الهجري = الثالث عشر الميلادي) أصبح التجَّار المسيحيُّون يُسيطرون على الطرق التجاريَّة في غرب المتوسِّط؛ بعد سيطرتهم السياسيَّة على أجزاء مهمَّة من أراضي الأندلس.
__________________
المصدر: كتاب "الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس"، مجموعة من الباحثين، إشراف: د. سلمى الخضراء الجيوسي، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، ط، 2. بيروت، 1999م، بتصرف.
قصة الإسلام